قال الدكتور أحمد الريسوني «إن إرادة الشعوب اليوم لا يمكن إلغاؤها فالثورات العربية كما أحدثت زلزالا سياسيا فهي أيضا أحدثت زلزالا فكريا وزلزالا فقهيا» مؤكدا في هذا الجزأ الثاني من الحوار الشامل معه أن حقيقة التحول المعول عليه هو ما ستشهده الجوانب الفكرية والتربوية والثقافية مردفا أن العلماء والمجددين سيواكبون هذه التحولات ولن يكونوا بمعزل عنها معددا بعض مؤشرات ذلك. وتابع المستشار لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقول « إن ما وقع بالوطن العربي هو أعمق من كونه مجرد ثورة سياسية أو انقلاب سياسي في الدول أو إصلاحات سياسية في أخرى، فما وقع هو أعمق وهو يقظة في الشعوب وفاعلية جديدة». الريسوني وصف دعاة الحرية الجنسية والعقدية بكونهم ديكتاتوريين والديمقراطية منهم براء، وأضاف هم حركات سياسية جزأ منها بمويلات يسارية واجهت واقعها البئيس بعد فشل ما كانت تدعوا له من أفكار فوجدت مثل هكذا قضايا لتعيش بها داعيا إياهم إلى الإيمان بالديمقراطية الحقيقة والكف عن الصراخ والضغط لمواجهة إرادة الشعب. في موضوع الفتوى وما أثارته من ضجة مؤخرا تفرد الخبير الدولي الأول بمجمع الفقه الإسلامي كعاداته بوجهة نظر تقوم على حرية الإفتاء وتقبل بعضه ولو كان شاذا، فالشذوذ في الفتوى يؤكد الريسوني ليس جديد بل كان منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، مستغربا من دعاة التعدد والتنوع والاختلاف كيف يعيبون هذا في موضوع الفتوى، مذكرا بزمن الحرية الذي نعيشه، وكشف عن وجه آخر في هذه النازلة وقال «الكثير من السياسيين سواء كانوا حكاما أو غيرهم غرضهم هو إسكات الفتوى فيدخلون من باب فوضى الإفتاء لتقنين الفتوى وضبط الفتوى والنتيجة التي يسعون إليها هي إيقاف الفتوى» ليعود ويؤكد أن الأمر مستحيل بطبيعة الحال. الأستاذ الجامعي والخبير في المقاصد قال إن العلماء أيضا ما لم تدخلهم الحرية والديمقراطية فلن يفعلوا شيئا، «لكن في الدول الأخرى فالعلماء الآن طبعا هم قادة في المجتمع وقادة حقيقيون في المجتمع»، وعبر الدكتور أحمد في موضع مواقع السياسي والفاعلين لمدنيين عن كونه ومنذ القديم لا يؤمن بالحكومات التي تتحمل كل شيء وتتدخل في كل شيء معتبرا ذلك نوع من الفساد في الحكم. ● عشتم لحظة الربيع الديمقراطي بالوطن العربي والإسلامي، ما هي الخلاصات التي ترون أن هذا الربيع بعثها وأي مستقبل تتوقعون لهذا الحراك وللشعوب والدول التي شهدته على ضوء هذا التحول الكبير؟ ❍ أولا الربيع العربي قد عم ويعم جميع الدول العربية بل يمتد إلى غيرها من الدول الإسلامية، فإذا كانت تونس ومصر هي المنطلق والبداية والبؤرة والمركز لحد الآن، فهي مثل الصخرة أو الحجر الذي نلقيه في بركة ماء آسنة، فالاهتزاز في أقرب دائرة إلى موقع سقوط الحجر يكون قويا ومتعددا ثم يمضي ويمضى إلى آخر الارتدادات. هكذا فالثورات العربية التي وقعت وعلى الأقل في المساحة المتصلة والتي هي تونس وليبيا ومصر حققت إنجازات كبيرة، فالإطاحة بالفساد والاستبداد وقيام الثورة والإطاحة بالتسلط والظلم أثّر حين وقوع هذه الثورات، لكن سيؤثر حين نجاحه أكثر، فالآن دخلنا في مرحلة التأثير بالنجاح، فالثورة في حد ذاتها إنجاز كبير، فأي كان الذي سيأتي بعد ابن علي فيكفي أن لا يكون مستبدا ومتسلطا وهذا مكسب كبير، ويكفي الإطاحة بقلعة فساد كبيرة وكنز من كنوز الفساد –كما قال أحد الإخوة المصريين، فمبارك كان كنزا من كنوز الفساد وكنز من كنوز الصهيونية والفساد العالمي- فيكفي الإطاحة به فهو إنجاز كبير وملهم للشعوب، وهذا شأن باقي الرؤوس التي سقطت، لكن الآن تنطلق مرحلة البناء وإذا كان هذا البناء أيضا جيدا ومثاليا سيكون له تأثير وهذا التأثير أقله أن إرادة الشعوب اليوم لا يمكن إلغاؤها. فمن أقدار الله وألطافه أن تنطلق هذه الحركة بقول الشاعر «إذا الشعب يوما أراد الحياة» وهذا هو ملخص الحكاية فالشعب بدأ يريد، وقبل هذا لم يكن يريد، وكان الشعب قبل هذا قد استسلم ويئس، لسنوات وعقود تراكمت دراجات من اليأس بعضها لقرون وبعضها لعقود وكان يعتبر أن الحكم والسياسات العامة لا شأن لنا به، ولسان حاله آنذاك يقول أعطيني لقمة عيش أو نصف لقمة عيش أو أعطيني لقمة عيش اليوم وغذا أصبر...وهذا كل ما كانت تحوم حوله مطالب الناس ومطالب الشباب، لكن الآن لا، فالأمر مختلف وسيختلف وترددات ودبدبات الربيع ستمشي في كل الجسم العربي لكن الآن سيبدأ التأثير بنموذج البناء الجديد الذي يجري في مصر ويجري في اليمن ويجري في ليبيا ويجري في تونس، وعما قريب يظهر أثر ذلك كله في بقية الدول العربية والإسلامية، فإذن أنا منذ البداية كنت أرفض أن يقال هذه لحظة تاريخية وأقول هذا تحول تاريخي وليس لحظة تاريخية، لأن هذه الأخيرة توهم بأنها لحظة عابرة يجب أن نغتنمها ونحقق ونتقدم في بعض مكاسبها قبل أن يفوت الآوان وقبل أن ترفع هذه المائدة التي أنزلت من السماء، لا، فهذا تحول سيستمر ما شاء الله وسيستمر أجيالا وقرونا وهذا يعني أن التفاعل ما يزال على أشده. ● هل الثورة السياسية وهذا التحول التاريخي كاف لوحده لصنع التغيير، ألا ترون أن الحاجة باتت ماسة لثورة ثقافية تهم وعي الناس وعقلياتهم وسلوكاتهم؟ ❍ ما وقع هو أعمق من كونه مجرد ثورة سياسية أو انقلاب سياسي في الدول أو إصلاحات سياسية في أخرى، فما وقع هو أعمق وهو يقظة في الشعوب وفاعلية جديدة لم تكن من قبل، فاعلية بعد زمن من الاستقالة والاستسلام واليأس، كما أن في هذه الشعوب اليوم حرية، وهذه هي النتيجة الكبرى التي لا يمكن أن يجادل فيها أحد اليوم، لأن أي فرد اليوم يمكن أن يجادل ويقول دخلنا لم يتغير وضعنا وأبناؤنا ما يزال كما هو وما تزال قوارب الموت تحصد الأرواح يوميا وما تزال البطالة مرتفعة في مصر والمجاعة تهدد الناس في اليمن وهذا أمر يقبل النقاش والجدال، إلى جانب الحالة الوظيفية والمهنية وأرزاق الناس هل تحسنت وسيكون الجواب بلا أكثر من الجواب بنعم، لكن الشيء الذي لا يقبل النقاش هو أننا في حرية أكبر لجميع الفئات ولجميع الشعب ولجميع الأحزاب والتيارات، وهذه هي ضمانة عدم توقف هذه الثورة عند هذا الحد، فالحرية معناها حرية المفكرين وحرية الصحفيين وحرية العلماء وحرية الخطباء، فالخطيب اليوم في مصر في تونس في ليبيا حر حرية تامة لم يعرفها الخطيب على مدى قرون وليس عقود أو منذ العهد الناصري أو عهد هذا الحزب أو ذاك، وقد كتبت عن تخوف مضي الحركة الإسلامية للعمل السياسي وتركها لمواقعها وكان عنوان مقال نشرته «الزموا مواقعكم» لكن هذه المخاوف ستتصحح مع الوقت والعمل السياسي سيأخذ حجمه والعمل الدعوي والتربوي والاجتماعي والتثقيفي سيستمر، واليوم يلح علي الإخوة في تونس للذهاب إليها لمدة 10 أيام وكلها محاضرات ولقاءات ليس فيها أي لقاء سياسي مع أي مسؤول في النهضة ولا في الحكومة فكلها مع الخطباء ومع الشعب التونسي ومع الشباب وبعدها إلى مصر في نفس الشأن والاتجاه، وكلها لقاءات تربوية ودعوية علمية وفكرية وبالتالي هذه الجوانب أيضا ستشهد نهضة كبيرة وهذا هو حقيقة التحول العميق الذي نعول عليه وضمانة كل هذا في الحرية. ● هذه التحولات التي جرت وتجري نقلت الحركات الإسلامية وفي أكثر من قطر عربي وإسلامي من المعارضة والنفي والتضييق إلى تدبير الشأن العام. ما هي في نظركم أبرز التحديات التي تواجه هذه التجربة هل هي فكرية أم علمية أم اقتصادية...؟ ❍ لا شك أنه وعلى صعيد الحكومات يبرز التحدي الاقتصادي والتنموي وهو التحدي الأكبر، لكن أنا أنظر إلى تحديات الأمة على أساس أنها تحملها الأمة وهذه الأمة تحتاج إلى حرية وعلينا المحافظة على هذا الكنز الحقيقي كنز الحرية، وندعم مختلف فئات المجتمع ونجندها ونستنفر طاقاتها، فالبنسبة للتحدي الثقافي والاجتماعي والتربوي يكفي فيه أن تطلق طاقات الأمة، وإذا تفضلت فادعمها بشكل من الأشكال ماديا ومعنويا، وأنا منذ القديم لا أومن بالحكومات التي تتحمل كل شيء وتتدخل في كل شيء فهذا نوع من الفساد في الحكم، فأن تدخل السلطة في كل شيء وتحل كل شيء غير معقول. السلطة عليها أن تطلق طاقات في التعليم في التربية في التضامن الاجتماعي وفي محاربة الإجرام والانحرافات، فالسلطة حتى لو كانت خلافة راشدة وأعطيتها كل شيء وذهبت لتنام فتأكد أنه ستقع مشاكل ويقع عجز ويقع انحراف، إذن فالتحديات كبيرة جدا والتحدي الأول هو الاقتصاد ويأتي بجانبه التعليم، لأن التعليم اليوم ليس كما كان قديما حيث كان محدودا وكانت وظائفه محدودة فاليوم أصبح كل شيء متوقف عن التعليم، فحتى عامل النظافة إذا لم يكن له تعليم ربما لا يجيد استعمال آلة النظافة أو ما إلى ذلك، فكل شيء متوقف على التعليم، كما أن التنافس العالمي سلاحه التعليم، فلا أدري هل حكومتنا تأخذ التعليم اليوم على النمط القديم وهي مواجهة الإشكالات يوما بيوم والتعاطي مع الإضرابات والاحتجاجات والامتحانات وهل مرت «البكالوريا» بسلام أو بقليل من السلام فهذا لن ينتج شيئا فقضية التعليم ينبغي أن تضاهي التحدي الاقتصادي والتنموي جنبا إلى جنب وهذه عناصر مهمة في مسؤولية أي حكومة سواء كانت في المغرب أو في العالم العربي فهما قضيتان كبيرتان تقعان على مسؤولية الحكومة ولا يمكن أن يتحملها إلا الحكومة. فهذان هما التحديان البارزان اللذان يحتاجان إلى استراتيجيات وعلاجات جديدة وجذرية وجريئة وإلى حالة من الاستنفار والتعبئة والاستفادة والاستعانة بكل التجارب. ● أي دور تتوقعونه للعلماء لدعم هذه التجربة والنهوض بها أو ما الدور الذي ينبغي أن يقوموا به سواء في المغرب أو في الوطن العربي ككل؟ ❍ أما في المغرب وبصراحة فالعلماء ما يزالون محتجزين مائة بالمائة تقريبا، ولحد الآن ليس في الأفق القريب أي دور للعلماء بالمغرب لأن السلطة نجحت في إبطال دور العلماء باختصار، نعم هناك علماء يقومون بأدوار في الوعظ والإرشاد والتعليم الديني وهذا شيء جيد، لكن هذا ليس دور العلماء، فهذا العمل يقوم به المعلم في القسم أحسن من الواعظ في منبره، ويقوم به الواعظ صاحب الإجازة ومن ليس له حتى الإجازة ومن تخرج من قرية وهذا موجود لدينا اليوم، فالدولة اليوم وضعت صاحب الدكتوراه ومن حصلوا على الدكتوراه من 20 سنة في وضعية واحدة ومهمة واحدة مع المعلم ومع الواعظ الذي حصل على «البكالوريا» أو لم يحصل عليها، ومع الواعظة التي ليس لها إلا معلومات قليلة تحسن تدبيرها، فالعلماء كلهم نزلوا إلى هذا السقف وإلى هذا المستوى فإذن ليس عندنا الآن عمل ينسب للعلماء وليس هناك أفق مفتوح عمليا للعلماء، فالعلماء أيضا ما لم تدخلهم أيضا الحرية والديمقراطية فلن يفعلوا شيئا، لكن في الدول الأخرى فالعلماء الآن طبعا هم قادة في المجتمع وقادة حقيقيين في المجتمع وليس في الحكومة أو مجلس الشعب بل في القرى والمساجد والأحياء، فالعلماء الآن قادة حقيقيون في تونس وليبيا ومصر واليمن، لهم دور حتى وإن كان الإعلام لا يذكره، لكونه يركز على بؤر معينة فهذا واقع، وعموما وإذا نظرنا بصفة إجمالية فالعلماء لهم دور كبير ومسؤولية كبيرة وهم والحمد لله قائمون بها وسيتحسن أداؤهم في ظل الحرية، وحتى في مصر أنا نوهت مرارا بتحرر الأزهر، وسيزداد تحررا في الشهور المقبلة، والأزهر طبعا له انعاكاس على العالم كله وعلى العالم الإسلامي وليس فقط على مصر. ● بوصفكم عضوا مؤسسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيسا لرابطة علماء السنة، ومستشارا لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أي دور لهذه الهيئات في مواكبة هذه التحولات الجديدة للأمة، خاصة في النوازل المعاصرة والتي لم يعد يكفي فيها جواب الحلال والحرام فقط؟ ❍ سبق أن أشرت إلى أن هذه الثورات العربية كما أحدثت زلزالا سياسيا فهي أيضا أحدثت أيضا زلزالا فكريا وزلزالا فقهيا، فأنا أعرف وأخالط الفقهاء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي والعالم العربي بصفة خاصة، ووجدت أنهم يراجعون كل شيء حتى أن أحاديث كانت مسلمة بحثوا فوجدوا فيها إشكالات في أساليبها وثبوتها، وحتى تفسيرات معينة لآيات وأحاديث تمت مراجعتها، وكذلك تمت مراجعة أحكام فقهية استقرت على مدى قرون، إلى جانب نقاش الدولة المدنية والدستور والانتخابات وصلاحيات الرئيس والولايات المحدودة، وبالتالي فهناك ثورة قد لا تكن ظاهرة دائما بسبب عدم التفات الإعلام لها، لكن ما يعتمل في العلماء هو مواز تماما ومساو تماما لما يجري على الساحة السياسية وعلى الساحة الشبابية وإن لم يظهر بنفس الدرجة، وإن كان يأتي لاحقا أحيانا، إذن فهناك حركة تجديد وحركة إعادة صياغة وإعادة بناء، كما أن هناك مراجعات واسعة في العلوم الشرعية وخاصة ما يتصل منها بالواقع السياسي والتحولات الجارية مما سيؤهل العلماء في هذا الجانب أيضا، فدورهم التربوي والدعوي والاجتماعي بارز أما الاجتهاد والتجديد فهذا لا يظهر بطبيعة الحال بسرعة، وحتى لو كان موجودا فلا تظهر أثاره سريعا، ولكن الذي يعايش هذا الوسط يعرف ذلك جيدا، وأنا أعرفه بحكم الاتصالات واللقاءات المتعددة، وأقول بهذا الصدد أن هناك تحفز للاجتهاد وبناء متطلبات المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية في الحقبة الراهنة. ● موضوع الفتوى أثار مؤخرا العديد من اللغط وخلق ما يشبه «حالة فوضى»، كيف تنظرون لهذا التحول وهل لتعميم وسائل الإعلام لبعض الفتاوى الخاصة دور في ما يقع لكونه يخرجها عن سياقها الخاص والمحدد؟ ❍ الآن هناك حرية أكبر وهذا عنصر لا ينبغي إغفاله فوجود حرية أكبر يعني وجود أراء أكثر وأخرى ستظهر وأن هناك انفلاتات وتعبيرات مختلفة أكثر فهذا واقع، فنحن اليوم ومقارنة حتى مع العصور القريبة نعيش اختلافا أكثر في الرأي، وهذا بالنسبة إلي ليس مشكلة، فلا أدري كيف أن السياسيين يمجدون التعدد وحرية الرأي والتعبير حيث يريدون ويعتبرون ذلك مصيبة أو فتنة أو فوضى في مجال آخر، وثانيا هناك الإعلام وكما هو معلوم فالإعلام يصنع ما يريد ويضخم ما يريد ونسبة كبيرة من الإعلام هذه سياسته ويجب أن نكون على بينة. ● وعلى حذر أيضا؟ ❍ (يضحك) وعلى حذر طبعا...لكن العاقبة للمتقين، والشيء الثالث في قضية الفتوى هذه أو ما يسمى بفوضى الإفتاء هو أن الكثير من السياسيين سواء كانوا حكاما أو غيرهم غرضهم هو إسكات الفتوى فيدخلون من باب فوضى الإفتاء لتقنين الفتوى وضبط الفتوى والنتيجة التي يسعون إليها هي إيقاف الفتوى، فهم لا يريدون الفتوى أصلا ويتحدثون على أن هناك فوضى، وهناك أناس لا يريدون الفتوى في المجتمع لأنها تنافسهم وتسحب البساط من تحت أقدامهم وتغيير الواقع بين أيديهم، فإذا لا يريدون الفتوى أيا كانت، ولذلك فالذين يتحدثون عن الفوضى ينتقلون بعد ذلك إلى الضبط والمنع، بل إن بعض الدول العربية حاولت أن تضع عقوبات سجنية لمن يفتي بغير إذنها وبغير مؤسساتها، وهذا أمر مستحيل في الزمن القديم، أما اليوم فهو أول المستحيلات فأن تمنع الناس من أن يتكلموا فيما عندهم أمر غير ممكن، وهل من الممكن أن تمنع الفضائيات والأنترنيت والهاتف والجوال والرسائل فماذا ستمنع؟ ولذلك ففي المغرب وعلى الرغم من أنهم يدندنون حول الفتوى وضبطها فعلى الأقل لم يصلوا إلى الحماقة التي وقعت في بعض الدول التي بلغ بها الأمر فرض العقوبات واعتقال من يفتي، كما حدث في بعض الدول العربية إلى غير ذلك، حيث أغلقت مواقع إلكترونية لأنها نشرت فتاوى ومنعت برامج تلفزيونية بدعوى نشر الفتاوى وأن الفتوى من شأن المؤسسة العظيمة المسماة كذا وكذا، ولكن في النهاية حتى هذه الدول تراجعت لأن الواقع فرض عليها ذلك وتراجعت عن سياستها وقراراتها تلك ولو في صمت، ولذلك فالفتوى ينبغي أن تستمر وأن نتقبل ما قد يقع فيها من خلل وزلل وشذوذ، وإذا كان العلماء العظماء الأجلاء في المستوى فهم سيملؤون الساحة ويجعلون الشاذة شاذا، وإذا انسحب العلماء فالشاذ قد تكون له صولة لكن إذا حضر العلماء فعلا وملئوا الفراغ فسيحاصر الشاذ، فبعض الدول إذن تريد أن تمنع العلماء وتترك الساحة فارغة وإذا تكلم هذا أو هذا اعتبر شاذا مخالفا ومتمردا فتقام عليه القيامة. ● حتى اللذين يستحضرون هذه الخلفية التي أشرتم لها يتساءلون أحينا على الحاجة إلى بعض الفتاوى الشاذة والغريبة والمقززة أحيانا؟ ❍ الشذوذ ليس شيئا جديدا فالناس أنماط في تفكيرهم وأمزجتهم وأغراضهم، ولذلك أنا لن أقول أن هذه فتاوى شاذة وجب استئصالها لأنها لن تستئصل، والفتاوى الشاذة موجودة من عصر الصحابة رضوان الله عليه، ومن الصحابة من كان يقول البرد لا يفطر ويأكل البرد «التبروري» ويقول إنه ليس بطعام ولا بشراب، وهذه فتوى شاذة عند العلماء، وربما هي ليست شنيعة بحجم شناعة بعض الفتاوى التي نسمعها اليوم، لكنها اعتبرت شاذة، وبالتالي سنجد دائما من يفكر بطريقة شاذة فالناس لا يحصون عددا ولا تنوعا ولا عقولا، لتفاوتهم في العلم والأمزجة والعقول، ولذلك فالأمر ليس مشكلة. فحينما يكون العلماء الذين نعتبرهم ويعتبرون أنفسهم علماء جادين ويملئون الساحة آنذاك سيبقى الشاذ معزولا وأضحوكة. ● خبرتم حركات إسلامية في المشرق وتابعتم آداء نظيرتها بالمغرب أي فروق تبدوا لكم بينهما على مستوى التوجهات والاختيارات؟ ❍ الآن أصبح معروفا لدى قيادات العمل الإسلامي ولدى المفكرين والدارسين أن الحركة الإسلامية في شمال إفريقيا عموما وخاصة من بنغازي إلى نواكشوط تتمتع بمزايا يسعى الإخوة المشارقة إلى اكتسابها، ولذلك حتى الحركات المنتمية إلى الإخوان المسلمين في ليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا يعولون على هذه التجربة الخاصة التي تتبلور في دول المغرب العربي، والمغرب يأتي في طليعتها لاكتساب هذه المزايا والتخلص من عدد من الآفات والإشكالات التي تعاني منها الحركات الإسلامية المشرقية، وعموما فالحركة الإسلامية بشمال إفريقيا وفي اتحاد دول المغرب العربي تمتاز بكونها على قدر كبير من التحرر وليس عندها عقد ولا مخلفات وتجتهد بحرية وبنزاهة وتتعامل مع واقعها أيضا بكثير من التفهم والتعايش والاندماج، ولها تجارب تنظيمية وتجارب سياسية وهي رائدة أيضا في تبني النهج والأسلوب الديمقراطي في نظمها الداخلية وفي تعاملها أيضا مع الساحة السياسية، وأنا أقول حتى من الناحية الأخلاقية أيضا فربما أخلاقيات الحركة الإسلامية في شمال إفريقيا مع بعض التفاوت هي أكثر مما هي عليه في المشرق وبالتالي هناك مراحل متقدمة سياسيا وفكريا وتربويا عند العمل الإسلامي في شمال إفريقيا وفي اتحاد دول المغرب العربي والكثير من المشارقة يعترفون بهذا ويقدرونه. ● تعالت دعوات مختلفة بالمغرب مؤخرا –جديدة قديمة- داعية في موضوع الحريات إلى الحرية العقدية والجنسية وحرية تملك الجسد والإفطار العلني في رمضان كيف تقرأ هذه الدعوات على ضوء الأحكام الشرعية وثوابت الهوية المغربية؟ ❍ للأسف فالكثير من الحركات السياسية وخاصة منها في الصف اليساري لما واجهت واقعها البئيس منذ التمانينيات والتسعينيات خاصة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وبالموازاة مع ذلك صعود الحركات الإسلامية، تركوا رسالتهم التي كانت وهي رسالة الاشتراكية بمطالبها ومضامينها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما يهم الحريات النقابية والحريات السياسية والحقوق الاجتماعية وكرامة الشعوب، فالنمط الذي كانوا يريدونه لها فشل وإلا فهي كأهداف ما تزال قائمة وجميعنا نعمل لها، فلما فشلت تلك الحركات السياسية وخاصة منها اليسارية تحول كثير منهم بكل صراحة إلى البحث عن معارك يعيشون بها، فوجدوا هذه القضايا التي هي فيها مواجهة للبنية الإسلامية وللثقافة الإسلامية وهذه تجد طبعا دعما وتجد تصفيقا، وبالتالي فهم يشتغلون على هذه الأمور لتغيير بنية المجتمع الثقافية، وكذلك بنية الدولة بناء على ذلك، وبالتالي فأنا أنظر إلى هذه الدعوات من هذا الأساس وبعضهم يصرح أحيانا أننا بصدد مجتمع في مواجهة مجتمع آخر، أو نموذج مجتمعي في مواجهة آخر، ومع الأسف أولئك يرددون أنهم ديمقراطيون ولكن يريدون ديمقراطية ديكتاتورية في الحقيقة، فلنفترض أنهم أقاموا معركة ضد الفصل 490 من القانون الجنائي الذي يجرم الفساد، فهل سيفرضونه بقوة السلاح أم بالضغط الخارجي أم بالصراخ فما هذا الذي يحدث؟ أنتم موجودون بالبرلمان ولكم أصدقاؤكم وأحباؤكم فيه، وإن لم يكفكم هذا فالانتخابات التشريعية ستأتي، وإن كنتم تؤمنون بالتغيير الديمقراطي فلماذا هذا الصراخ، وهذا فصل غيروه بالديمقراطية. نحن أيضا في القانون الجنائي لدينا مواد عدة نرفضها ونستهجنها ولكننا أخذنا بالتغيير السلمي والديمقراطي، وبالتالي فنحن صابرون، على الرغم من وجودها ونحن نكرهها ونرفضها ولا نؤمن بمضمونها، ولكننا لم نقم بالصراخ، ولذلك نقول أعطوا للإرادة الشعبية حقها وحريتها، وبعد ذلك إذا أوصلت من سيغير سيغير وإذا أوصلت من سيقر هذا سيقره، بينما هم يحبون دائما «وعزيز عليهم» بهذه العبارة أن يدخلوا من النوافذ، فالكثير من القرارات استصدروها بالضغط على السلطة في البلاد وعلى الحكومة وعلى المؤسسة الملكية وعلى مؤسسات مختلفة، وليس عبر تصويت شعبي حر ولا غيره، يا جماعة الشعب يريد 490 وربما يريد أكثر منه ،يقولون هناك الفساد، ونقول لهم الفساد أنتم من صنعه واليوم تحتجون به، وبالتالي إذا كانوا ديمقراطيين، وأنا أقول أنهم ليسوا بديمقراطيين والديمقراطية منهم براء، فهم يريدون ديمقراطية ديكاتوتورية، فإذا لم يستجيب الشعب لهم يلجؤن إلى وسائل الضغط والصراخ والاستعانة والاستقواء بالخارج وبالمنظمات الدولية لفرض إرادتهم، وقد سبق لي في مقال أن تحديتهم في مقال وقلت لهم لنستفتي الشعب وإذا كان الأمر صعبا ويحتاج إلى قرار ملكي أو حكومي، لنستفتي قرية أو جامعة أو مدرسة لننظر لها كنموذج، لنرى هل الشعب يريد ما تطالبون به أم لا، فاليوم هناك محاولات دكتاتورية وديمقراطية وبجميع الوسائل تحاول تغيير بنية الشعب واعتقاداته، فحرية العقيدة من منعهم منها؟ لكنهم يريدونها في الدستور، وحرية العقيدة لا تساوي أن تكون في الدستور، لأنها موجودة في الواقع، فما الذي يمنعك من حرية عقيدتك، فالآن الملحدون يجاهرون بإلحادهم، وإذا أردتموها في الدستور خذوا الأغلبية واربحوا الاستفتاء وإذا جاءت بالاستفتاء وبإرادة الشعب فلتكن، ولكن قبل هذا اتركوا الشعب يصوت على ما يشاء ويقر ما يشاء. وحتى الإفطار في رمضان الدولة لم تتحرك إلا عندما أصبح الأمر أمنيا، وليس مجرد إفطار وإلا الآن إذا مر شخص بقربك وفي يده مشروب فلن يلتفت إليه أحد، لكن أن يتعمد هو نفسه الاستفزاز فهذا أمر آخر. ● شهر رمضان وبعض الانحرافات بين «الترمضين» والإسراف في الإنفاق والأكل والنوم لساعات طوال...كلمة نختم بها هذا الحوار؟ ❍ شهر رمضان والحمد لله يحظى باهتمام كبير لدى الخطباء ولدى الدعاة الوعاظ وما فتئوا دوما ينبهون على بعض الآفات التي لا تليق بشهر رمضان، ولكن مع ذلك تبقى هذه الآفات مغمورة في جنب ما يأتي به رمضان، ورمضان يأتي كاسحا فهو خير كاسح، يكنس من حياتنا ومجتمعاتنا كثيرا من الآفات ويحل بين ظهرانينا خيرا كبيرا ويكفي في هذا ظاهرة الأجانب الذين يسلمون وهم الذين جاؤا للمغرب سياحا، خاصة أن رمضان أصبح الآن في الصيف مما يجعل السياح يشاهدون رمضان وأجوائه ويدعوهم ذلك إلى النقاش في المغرب وغير المغرب، مما يدل على أن خيرات رمضان هي عامة فوق بعض الآفات، والتي يعالجها العلماء الفقهاء والوعاظ، وهي آفات ينبغي التركيز عليهما دوما حتى يكون صيامنا أرقى وأرشد وأنقى.