تعيش منطقة القبائل الجزائرية خلال السنين الأخيرة عدة أحداث إجرامية رهيبة، تزهق من خلالها، وبشبه يومي العشرات من الأرواح ، وفي الكثير من الأحيان، في أماكن لا تبعد عن المراكز الأمنية إلا بأمتار معدودة، تقول مصادر إعلامية جزائرية. مضيفة أن هذا الوضع يذكرنا بأحداث سنوات العشرية السوداء في مناطق أخرى من الجزائر، وخاصة في شرق البلاد، حيث كان يطرح السؤال وطنيا و دوليا حول الجهة التي تقف وراء تلك المجازر، و التي فاقت بكثير، من حيث وحشيتها، المجازر التي عرفتها البلاد أثناء حقبة الاستعمار. و تابعت أن أزيد من ربع مليون جزائري قتلوا ذبحا في غالبيتهم، و من كل الأعمار و الفئات الاجتماعية و الثقافية، بطريقة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلا إلا في الإبادة الجماعية التي مارسها الصرب ضد المسلمين في يوغوسلافيا السابقة، و التي مارسها و لا زال يمارسها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني. و إذا كانت منطقة القبائل، خلال العشرية السوداء، من المناطق القليلة جدا في الجزائر، التي لم تطالها يد الإجرام المتوحش، الذي أغرق البلاد في حمام من الدم، خاصة في المناطق الشرقية، و بنسبة أخف في المناطق الغربية.فإنها اليوم، و بشكل صارخ صارت المسرح الذي يكاد أن يكون الوحيد، الذي يتحول إلى هدف رئيسي للعمليات الإرهابية. مما يدفع إلى طرح العديد من علامات الإستفهام، حول مصدر هذا القتل، مما يتنافى مع مفهوم الدولة التي تبسط سلطتها على كل جغرافيا بلد المليون و نصف شهيد. و في محاولتها لمواجهة سؤال القتل بمنطقة القبائل، حاولت "الجزائر-تايمز" أن استعراض مختلف القراءات لهذه الأحداث، واستنباط حقيقة ما يقع في هذه المنطقة. و هكذا فإن النظام العسكري بدولة المجاهدة جميلة بوحيرة، لا يختلف عن باقي الأنظمة في اعتماد تفسيره للأمر بمقولة و " نظرية المؤامرة" التي دأبت السلطة الجزائرية على الركوب عليها، باتخاذها شماعة لتبرير كل الإخفاقات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، ولا أدل على ذلك النزول القوي للجزائر في ما يسمى الحرب على الإرهاب منطقة الساحل، في وقت لم تتمكن من ترميم بيتها الداخلي ، و تنظيفه من كل ما علق به من تدبير وضع الدولة الجزائرية في اللائحة السوداء مما أساء إليها دوليا، و كمخرج من ذلك تفتقت العبقرية العسكرية عن رمي التهم على المجهول- العدو الخارجي للجزائر الذي يتربص بها، ويعرقل كل جهودها نحو التنمية و التقدم و الازدهار.
من هنا يتضح نوع الخطاب الذي يعتمده النظام الجزائري، حيث يشير أحيانا إلى أن الأحداث الدامية التي صارت تعرفها منطقة القبائل خاصة، هي من صنع القاعدة التي تمولها أياد أجنبية، وتحركها لزرع الموت في الجزائر. و يدعي تارة أخرى أن هذه الأحداث يقف وراءها بعض "الخونة "الذين يعملون ضمن أجندات أجنبية، قصد تقسيم الجزائر. و المقصودين بالخونة طبعا هم رواد" الحركة من أجل الحكم الذاتي في القبائل" و من وراءهم. و تبقى جبهة التحرير الوطني من أكبر المدافعين عن هذه النظرية. أما القراءة الثانية للأحداث يقول الكاتب جمال أحمد ، فتذهب إلى أن ما يقع في منطقة القبائل ليس استثناءا، بل هي حالة عامة تعرفها البلاد بسبب السياسة الرعناء التي ينهجها النظام الفاسد، و التي تنعكس سلبا على الوطن و المواطنين في كافة المجالات، و على كل الأصعدة. فإن كان هذا النظام الفاشي قد أشعل الفتنة في البلاد كاملة أثناء العشرية السوداء، الشيء الذي جعله ينبذ من طرف المجموعة الدولية، وتحمله العديد من المنظمات و الهيئات الدولية المسؤولية المباشرة عن المجازر؛ فإنه اليوم ينهج سياسة جديدة من اجل تصفية حساباته مع الشعب الجزائري، من خلال استفراده الدوري بكل منطقة على حدة،تحت غطاء ما يسمى" بعمليات محاربة الإرهاب"، حتى يتسنى له التقتيل و الإرهاب دون أن تلتفت إليه أنظار المراقبين. يعتبر حزب جبهة القوى الاشتراكية من أكبر المتبنين لهذه القراءة يضيف ذ جمال. في حين تفسر القراءة الثالثة المجازر الوحشية اليومية و الممنهجة، باعتبار أن ذلك يدخل ضمن سياق تصفية الحسابات الواسعة النطاق داخل المنطقة.إنه عقاب جماعي لسكان القبائل، بسبب تعاطفهم مع "حركات العروش" و " الحركة من أجل الحكم الذاتي". هذا العقاب الجماعي يطال كل مجالات الحياة في المنطقة، بحيث تطال العمليات الإرهابية التي يقودها النظام، البنية الاقتصادية عن طريق دبح و إرهاب المنتمين للمنطقة، و البنية الاجتماعية عن طريق زرع الفتنة بين أبناء القبائل من خلال العصابات الإجرامية التي يجندها العسكر تحت غطاء "الدفاع الذاتي"، كما تطال أيضا البنية السياسية و الثقافية عن طريق المحاكمات و التقتيل في حق أبناء المنطقة من السياسيين و المثقفين و الفنانين و غيرهم. و تتبنى هذا الطرح " الحركة من أجل الحكم الذاتي "، كما يتعاطف معه لحد كبير "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي". واعتمادا على القراءتين الأخيرتين، نستنتج أن المجتمع الجزائري قاطبة يعي حقيقة أن الإرهاب في الجزائر هو غول من صنع النظام، كما أن ما يسمى "قاعدة المغرب الإسلامي" هي في الحقيقة "قاعدة النظام الإرهابي". أما ما يتعلق بالعمليات الإجرامية الممارسة ضد أبناء القبائل على الخصوص في هذه المرحلة، فهي أيضا مما تقترف أيدي النظام. و لو تمعنا، يوضح ذ أحمد جمال، في الطبيعة الثقافية و الإيديولوجية و التاريخية لسكان القبائل، لفهمنا لماذا يتخوف النظام الجزائري من القبائليين: فمنطقة القبائل، من ناحية، هي أول منطقة جزائرية تتمرد على النظام مباشرة بعد الاستقلال و تخوض حربا مسلحة ضده، بسبب استبعاده للرموز الحقيقيين للثورة الجزائرية، وفرضه النظام الشمولي على الشعب الجزائري دون استشارته، خاصة و أن جبهة التحرير الوطني لم تكن الحزب الوحيد في الساحة الجزائرية سواء إبان الثورة أو بعدها. و من ناحية ثانية، فالمواطن القبائلي يعتبر أكثر الجزائريين تعاملا مع الثقافة السياسية، رغم أنهم الأكثر حرمانا من الممارسة السياسية، بحيث يأتي عدد القبائليين في المراتب المتدنية ضمن المتقلدين للسلطة في الجزائر، وخاصة داخل الجيش. و لعل طبيعة المظاهرات و الاحتجاجات التي تعرفها المنطقة، و التي يطغى عليها الطابع السياسي دائما، رغم الوضعية الاجتماعية المزرية للسكان، بخلاف مثيلاتها في المناطق الأخرى و التي غالبا ما تكون ذات طابع اجتماعي خير دليل على درجة الوعي السياسي لديه. كما أن المواطن القبائلي في المهجر، يتميز عن باقي الجزائريين المغتربين، كونه غالبا ما يشتغل في قطاعات مهمة و مؤثرة كالطب و المحاماة و السياسة، مما يجعله قريبا من مراكز القرار في البلد المضيف أو الوطن الثاني، و هذا له تأثير كبير طبعا على قضيته و لو على المدى البعيد. و أخيرا فإن التأييد الدولي الذي يمكن أن تحظى به المطالبة بالاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل، ستكون له نتائج جد وخيمة على النظام، خاصة و أنه يدعي دوما أن الدفاع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها تبقى قضيته الإستراتيجية الأولى التي تمليها عليه المبادئ. أما هذا الإدعاء، ورغم أنه كاذب و لا يعني غير القضية الخاسرة التي يراهن عليها في دعم البوليساريو، فإنه سيتحول إلى سابقة يستدل بها المنتظم الدولي في تأييده للانفصال في الجزائر حين يأتي الوقت المناسب لذلك. و هكذا و إنطلاقا مما سبق يمكن، يقول الصحفي جمال، فهم عقلية النظام العسكر-سياسي الفاشل في الجزائر، من خلال المراهنة على الفتنة في منطقة القبائل و خلط الأوراق بعضها ببعض، لأن هذا النظام يعي جيدا أنه من استطاع فرض سيطرته عل منطقة القبائل، فقد ضمن السيطرة على كل الجزائر. و تبقى لمنطقة القبائل و طريقة التعامل معها، الأثر الكبير على مستقبل الجزائر: فمن يطالب بالحكم الذاتي اليوم، قد لا يرضى بغير الانفصال إن صار النظام على نفس النهج، وكلنا نعلم أن الجزائر تجلس القرفصاء على برميل من البارود.