عبد الباري عطوان: احتفال الحكومتين، المصرية والاسرائيلية، بالذكرى الثلاثين لتوقيع معاهدة السلام ، التي تصادف اليوم، جاء باهتاً وفي اضيق نطاق ممكن، مما يعكس مدى الحرج الذي تسببه هذه المعاهدة لأصحابها، والطرف المصري على وجه الخصوص.فمن المفترض ان تحقق هذه المعاهدة السلام والأمن لاسرائيل، والرخاء والاستقرار لمصر، والدولة المستقلة للفلسطينيين، ولكن ايا من هذه الأهداف لم يتحقق، فقد خسرت اسرائيل كل حروبها في لبنان وقطاع غزة، بينما تشهد الأوضاع المعيشية للمصريين حالة من التدهور المستمر، اما حل الدولتين فقد اكلته عمليات الاستيطان الاسرائيلية المتصاعدة في الاراضي المحتلة. اسرائيل خرجت الرابح الأكبر من هذه المعاهدة، لأنها نزعت مصر من قلب امتها، وزعزعت امنها القومي، وهزت صورتها العربية، والاسلامية، وحجّمت دورها كقوة اقليمية عظمى. فمصر كانت مصدر التهديد الاكبر للمشروع الاستيطاني التوسعي الاسرائيلي، والحاضنة الاقدر للمشروع العربي الاسلامي التحرري في المقابل.صحيح ان الحكومة المصرية استعادت سيناء، ولكنها استعادة مشروطة بقيود اسرائيلية تنتقص من السيادة المصرية، من خلال تقسيمها الى ثلاث مناطق ا و ب وج ما يقصر وجود الجيش المصري على فرقة واحدة شرق القناة.الحكومة المصرية تحولت، وبفضل هذه المعاهدة، الى حارس امين للحدود الاسرائيلية، بل وللأمن الاسرائيلي بشكل عام.نختلف مع الكثيرين، خاصة من خبراء معاهد الدراسات الاستراتيجية، في مصر وعواصم عربية أخرى، الذين يرددون دائماً نغمة 'السلام البارد' بين مصر واسرائيل، فإذا كان هذا السلام البارد يعطي اسرائيل الغاز والنفط المصري بأسعار مخفضة جداً، ويفتح سيناء امام السياح الاسرائيليين دون تأشيرة دخول، ويجعل الحكومة المصرية ساعي بريد لنقل الإملاءات الاسرائيلية الى حركات المقاومة في قطاع غزة تحت مسمى 'اتفاق التهدئة'، فما هو 'السلام الساخن' اذن وكيف يكون؟قبل هذه المعاهدة كانت سيناء محتلة فقط من قبل القوات الاسرائيلية، بعدها اصبحت مصر كلها محتلة من قبل المشروع الامريكي - الصهيوني، سواء من خلال شروط هذه المعاهدة ، او المساعدات المالية الامريكية والقيود المفروضة من خلالها.وربما لا نبالغ اذا قلنا ان هذا الاحتلال 'غير المرئي' اخطر بكثير من نظيره البريطاني الفعلي، فعندما كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني عام 1951، كانت اكثر قوة، وتتمتع بسيادة وقرار مستقل اكثر مما هي عليه حالياً، بدليل انها كانت قادرة على الغاء معاهدة عام 1936 مع بريطانيا العظمى، حيث وقف مصطفى النحاس باشا وأعلن انه يلغي هذه المعاهدة من اجل مصر مثلما وقعها من اجل مصر.الحكومة المصرية لا تستطيع ان تفكر، مجرد التفكير، في تعديل اي بند، ولو بشكل طفيف، من بنود معاهدة السلام هذه مع اسرائيل، وبما يسمح لها بزيادة قوات امنها على الحدود مع رفح لمنع اختراق الجوعى الفلسطينيين لها، والسيطرة على عمليات التهريب وبما يخدم امن اسرائيل نفسها.الرئيس محمد انور السادات اتخذ من تدهور الأحوال المعيشية، وانتفاضة الخبز عام 1977 على وجه التحديد، ذريعة للذهاب الى القدسالمحتلة، وتبرير تنازلاته للاسرائيليين، وانهاء حال الحرب معهم، واطلق العنان لوعاظ السلطان لشن حملات شرسة على العرب والفلسطينيين باعتبارهم السبب في تجويع الشعب المصري، كمقدمة لفك الارتباط مع الأمة وقضاياها المصيرية، والارث الوطني المصري الذي يمتد لآلاف السنين.قبل المعاهدة، والرحلة المشؤومة الى القدسالمحتلة، كان المواط ن المصري يشتكي من طوابير الفراخ امام الجمعيات، وتأخر توظيف الخريجين الجامعيين عاما او اكثر قليلاً، الآن اصبح المواطن المصري الطيب الصابر المسحوق، يترحم على تلك الايام ، بعد ان تحولت وعود حكومته بتحقيق حلم الرخاء الى كوابيس طوابير الخبز، والبطالة المرتفعة، وازدياد عمليات النهب للمال العام.عندما كانت مصر مصر كان النظام فيها يتباهى في ادبياته بالتحالف بين العمال والفلاحين، ابناء الطبقة الكادحة، للنهوض بالبلاد، الآن يحكم مصر تحالف آخر مكون من طبقة حاكمة وطبقة رجال أعمال، من أهم صفاتها التغوّل في الفساد، واذلال الفقراء وسرقة قوت يومهم. تحالف يعيش في عالم مستقل له انديته ولكنته الخاصة ولغته الاجنبية، يتأفف من التعامل بالجنيه المصري.في زمن السلام يعيش عشرون مليون مصري على اقل من دولار في اليوم، واكثر من ثلاثين مليوناً على اقل من دولارين، اي تحت خط الفقر العالمي.بعد ثلاثين عاماً من السلام مع اسرائيل اصبح دور مصر محصوراً في اربعة عشر كيلومتراً على الحدود مع رفح الفلسطينية، او ما يسمى بمحور صلاح الدين، ولكن حتى هذا الدور ناقص السيادة، فالطائرات الاسرائيلية تخترق الاجواء المصرية، وتقصف الحدود المصرية، وتدمر اربعين بيتاً في رفح المصرية، وتقتل وتصيب مواطنين مصريين، ناهيك عن اشقائهم الفلسطينيين. وما هو اخطر من ذلك ان الزوارق الحربية الاسرائيلية سيطرت على سفينة لبنانية كانت في طريقها لكسر الحصار عن غزة وهي في المياه الاقليمية المصرية، وجرّتها الى ميناء اسدود لتفتيشها وركابها.نشعر بالحزن على مصر العظمى، وشعبها الكريم الشهم المغرق في كرامته الوطنية، ونحن نرى قوات امنه 'تعتقل' خمسمائة خروف انتهكت معاهدة السلام، وكانت في طريقها الى الجوعى في غزة عبر انفاق رفح.هناك حسنة واحدة لمعاهدة السلام هذه، لا يمكن تجاهلها، وهي انها سحبت اكبر ذريعة كان حكام مصر يتذرعون بها لتبرير فسادهم وتجويعهم للشعب المصري، وهي القول بأن ذلك يتم من اجل فلسطين ودعم المجهود الحربي المصري لتحريرها.ثلاثون عاماً لم تطلق خلالها الحكومة المصرية طلقة واحدة، وفي المقابل تحولت كوريا الشمالية في الفترة نفسها الى قوة نووية، والجنوبية الى القوة الاقتصادية العشرين في العالم، اما ايران فأطلقت اقماراً صناعية وطوّرت صواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول الى اوروبا، وعلى وشك دخول النادي النووي العالمي، وتجبر امريكا على الحوار معها، واسرائيل على الارتجاف خوفاً منها.قلوبنا مع مصر وعلى مصر. فإذا كانت هذه المعاهدة اوصلتها الى هذا الهوان، فلماذا لا يخرج 'نحاس مصري' جديد ليبادر الى الغائها، من اجل مصر وشعب مصر.ذكرى هذه المعاهدة تمر مثل مرور 'جنازة الزانية'، تطاردها اللعنات، ولا يسير فيها احد، ومن يحضرها يخفي وجهه خجلاً، حتى لا يراه الفضوليون.صحيفة القدس العربي اللندنية 26/03/2009