عندما تجلس معه تشعر كأنك جالس مع التاريخ، بحق هو تاريخ يمشي على الارض.ملامحه السمراء، وعوده النحيف، وعيونه الحادة، وابتسامته التي لا تفارقه، كل هذا وذاك يجذك اليه.ولد ايام العثمانين وما زال موجوداً حتى اليوم، عايش جميع الثورات والنكبات والنكسات، تجده دائماً متمرداً على الواقع، رافضاً له، لا يستطيع ان يعايش حكايات اليوم، يعيش ماضيه أكثر من حاضره، تجده في كل المناسبات يعطينا مثالاً في الحياة، في الامل، يصنع منك رجلاً دون ان تعرف، يأخذك الى عالم ليس هو بعالمك، وأناس لا تعرفهم، تحبهم عن بعد، تعشق طريقتهم في الحياة.يعلمك ان تكون صادقاً في زمن الكذب، يغرس فيك حب الناس في زمن الكره، يعلمك الوقوف في زمن الركوع. ذلك الكهل الفلسطيني الذي لوحته شمس فلسطين وكتبت على جبينه اسم الوطن ومعني الوطن. أهرب إليه كلما شعرت بضيق الدنيا وقساوة الحياة، أجده يمسك بلفافة الهيشي (نوع من الدخان) بين أصابعه، ويضع التبغ فيها، ويصنع منها سيجارته التي رافقته طيلة حياته، يسحب منها بعض الانفاس قبل ان يتحدث اليك، وكأنه يسترجع الماضي كله، وينفث منها دخانه وكانه ينفث كل آلامه التي في صدره، ويبصق ما علق في فمه من التبغ كأنه يبصق على هذا الواقع المرير.يحدثك فيمدك بالأمل والتفاؤل، يكشف لك عن أشياء في نفسك لم تكن تعرفها من قبل، أغادره و أنا أرى الأشياء أجمل من ذي قبل.أفتش دائماً عن سر قوته وتفاؤله وقدرته على معايشة الواقع، أهو طبيب في علم النفس؟ أم هو أستاذ في التاريخ والجغرافيا؟ أم هو قاموس في كل الأشياء؟ لا أعرف سوى انه أميّ لا يعرف القرأة والكتابة. لكنه يعرف كيف يكون فلسطينيا بحق، يعرف كيف يقيس الأمور ويتعامل معها، يعرف أن الإنسان يجب ان يكون دائماً متمرداً على الظلم، يعرف ان الحق لا يضيع وان الشمس ستبزغ عند الفجر رغم الجميع ويزول الظلام.هذا الكهل الفلسطيني يعرف أشياء لم نعرفها في الكتب ولا على مقاعد الدراسة ولا في الجامعات، يعرف ان يترك أثراً عندما يغادر هذا الكون وان لا يكون رقماً في هذا العالم غير معروف. ويعرف كيف يودع حفيده الذي استهشد بإبتسامة ودمعة دون ان تعرف انت اهو باكياً ام مبتسماً.يجمع أشياء لن نعرفها بسهولة في داخله، عن الماضي والحاضر والمستقبل، يحلل لك الأمور بطريقة تختلف فيها عن قناة الجزيرة ولكنها أقرب الى الصواب.فلنتعلم من هؤلاء قبل ان يرحلوا عنا ويتركونا بدون بوصلة او عنوان، فلنتعلم منهم كيف نعيش وكيف نموت وكيف يكون الانسان إنساناً وليس مجدر رقماً في هذا العالم غير معروف.بقلم : ابراهيم رقبان