لم يبق إلا أن ترتفع المتاريس الترابية بين الأحياء المتقاربة، كسالف تلك الأيام! وأن يعود القنص والخطف على الهوية. لمَ لا، وقد انتشرت هذا الأسبوع في شوارع المدن وحتى البلدات اللبنانية، كل ما ينعت ب»المظاهر المسلحة». وبسهولة مدهشة، استعاد جيل شاب لم يمارس بالتأكيد طقوس الحرب الأهلية الماضية كل حركاتها، بل استعادت بعض خطوط التماس القديمة فعاليتها، وسقط قتلى وجرحى، وجرى إطلاق نار كثيف وإلقاء قنابل، لعلها صوتية، إلا أنها مروّعة تماماً. والمأمول ألا يتجرأ أحد على الإمعان في الاستهتار فلا يعظّم هذه «المعارط». فالذين سقطوا ضحايا مجانيون لمجابهة لا تستحق أن تفنى من أجلها حيوات، ولا يقتضي الجانب المحق من غاياتها، لأي جهة انتمى، موت الناس الذي حصل، وذاك الآتي إذا استمرت الحال على ما هي عليه الآن. ولعل أول ما يجب أن يقال، قبل كل كلام وغوص في التحليلات، هو إعلان الرفض المطلق والمبدئي لمنطق الانزلاق إلى الحرب الأهلية في لبنان اليوم.وخصوصاً هذه! وللأمانة، فقد يقال كل السوء الممكن عن الحرب الأهلية السالفة ومعظمه محق. إلا انه ما زال يمكن الاعتداد بوقوعها دفاعا عن المقاومة الفلسطينية التي كانت تستوطن لبنان، ويمكن، ربما، تبرير الاستعداد للتضحية بلبنان من أجل غاية سامية تماما وتنتمي إلى نقطة القلب من كل القضايا. وهذا نقاش آخر. إلا أن الأهم هو التشديد على اختلاف السياق اليوم، حيث يغلب وبقوة على مجمل أوضاع المنطقة العربية التهديد بالتفكك: تفكك الكيانات الدولتية وانتكاسها إلى مملوكيات طائفية وعشائرية، وخطر قيام الاحترام بين تكوينات لا حصر لها، فتصبح النزاعات الأهلية المتنوعة الحجم والكثافة والعنف نمط حياة.إن أحداث هذا الأسبوع في لبنان هي النتيجة المنطقية والمتوقعة لاستفحال الانقسام العمودي القائم، والذي يمتاز بسمة أساسية حاكمة له هي استحالة أن يتطور، أن ينتج شيئا آخر غير ذاته، أن يتحرك خارج الصورة التي ولد عليها. انه انقسام جامد وعقيم. وقد يسهّل التعريف أن يقال معسكر «الأغلبية» ومعسكر «المعارضة»، إلا انه من الدال ألا تتقابل المتضادات المنطقية، فيقال «أغلبية وأقلية» أو «سلطة ومعارضة». ذلك انه لا هذه التسمية ولا تلك تعبران عن الواقع. فهناك كتلتان متساويتان، وهناك قدر من السلطة في الطرفين. وقد تحدث مفاجآت، فتتعدل بعض عناصر التركيبة هنا أو هناك، ولكن يبقى ذلك بلا أهمية. ولأنه انقسام عمودي جامد وعقيم، فهو عندما يستمر يجتر نفسه، ويتحول إلى أزمة لا حل لها، ينتهي بها المطاف إلى التوتر الشديد والانفجار.والحق أن هذا المآل يعبر عن فشل متقاسم بين المعسكرين. لأنهما لا يقترحان حلا وطنيا يمكنه أن يولّد دينامية تفرض نفسها كعنصر استقطاب. وليس المقصود بالاستقطاب الوصول إلى الإجماع، وإنما نقل النقاش والصراع إلى حيز يعبر عن خيارات اجتماعية وسياسية واقتصادية تخاطب مصالح كل فرد وكل مجموعة، وتوفر ساحة عامة لتشكل عناصر الوعي، أي لتبلور الانتماءات الثقافية والسياسية. ولا يكفي هنا أن يقال، عن حق على الأرجح، إن مثل هذه الخيارات مضمرة في الانقسام القائم، حيث يمثل السيد فؤاد السنيورة قوى الانحياز إلى مشروع إدارة المنطقة وفق التصور الأميركي. وهو التصور الذي تلتحق به أوروبا عن قناعة أو عن عجز، لا فرق، والذي يلقى صدى عربيا أكيدا ومتعاظما يتناسب وتدهور الوضع في العراق وطغيان الاقتتال المذهبي بين الشيعة والسنة، واستبطان الخوف من إيران قوية وقد تصبح مالكة لمفاتيح الهيمنة على المنطقة... إلى آخر ما بات مملا من فرط تكراره. بينما مناهضوه يمثلون قوى التصدي لهذا المشروع. لا يكفي أن يقال ذلك، لأنه وبعيدا عن التحليلات الطبقية البدائية، لا شيء يبرر والحال تلك انحياز فقراء حي باب التبانة في طرابلس إلى السنيورة، وهم الذين تصفهم دراسات عالمية جادة اقتصادية وسوسيولوجية، بأنهم البيئة الأكثر بؤسا في لبنان. وهذا مثال من بين سواه، لا ينفع أن يُرد عليه بالإشارة إلى مفعول شراء الذمم المستفحل، الذي قد يسهّل الأشياء لكنه لا يحدّدها. إن وعي الذات المنتشر في لبنان اليوم يتمحور حول الانقسام الشيعي - السني أولا، يضاف إليه بُعد مصلحي مباشر قد يحفّز قيام تحالفات داخل هذا الانقسام الأساسي، وتحديدا منها ما يخص ممثلي الكتلة المسيحية، التي تعبر بذلك الالتحاق المتنوع عن التهميش الذي لحق بوزنها في لبنان، ليس كواقع ديموغرافي أو اقتصادي عائد للبلد نفسه، وهو يبقى رغم كل شيء محدودا، وإنما بالقياس على خط الانقسام في المنطقة.وهنا واستطرادا، تبرز قوة العامل الإقليمي واختراقه للتوازنات المحلية والخاصة بكل بلد على حدة، إن لم يكن طغيانه عليها. وهي علامة على استمرار قوة فعل الرابط القائم بين أجزاء هذه المنطقة على حساب ما هو «قطري» إذا اجزنا لأنفسنا استخدام أحد مصطلحات الفكر القومي العربي. وهو ذاته ما تفعله الكتلة السنية في العراق حين تعتدّ بالعمق العربي لرفض قبولها لصفتها كأقلية. قد يوصف استمرار فعل هذا الرابط بالمعيق لترسخ الدول الحديثة، وقد يقال عنه انه يتمظهر اليوم سلبا، بمعنى انه يسهّل نشر عدوى الأزمة والدمار، وكل ذلك صحيح، لكنه لا يلغي الملاحظة الموضوعية.لقد أبانت قوى المعارضة عن قدر من قلة الكفاءة مقلق تماما. فهي انجرّت إلى مجابهة محكومة بذلك الانقسام العمودي الجامد والعقيم: لم تستبقْ أيا من خطوات الحكومة بل لم تتوقعها على الأرجح، بدءا من انعقاد المجلس الوزاري لاتخاذ قرارات أساسية رغم استقالة الوزراء، وانتهاء بقيادة تصعيد العصيان المدني الذي راوح بين الوقوع في الإنهاك وانسداد الأفق، أو الانتهاء ملطخا بالدماء. بدت المعارضة وكأنها تخطط وحدها ولا تحسب في نقلاتها مفاعيل استراتيجيا الخصم. وأخيرا فهي لم تتمكن من إبراز المشروعية الوطنية لموقفها وصدقيته، وفي هذا تقع الطامة الكبرى، إذ أن كيفية الإدراك العام للشيء أهم بكثير من «جوهره». ويتبع الإدراك العام كيفية تأويل أي موقف أو أي خطاب، الذي يغلب بالطبع على الشروحات اللاحقة لإزالة «سوء الفهم»، مما لا جدوى منه.وفي هذا، لم تتمكن قوى المعارضة من أن ترفع عن نفسها تهمة العمل وفق ما تمليه المصلحة الإيرانية-السورية، فساد هذا الإدراك العام لحركتها وهذا التأويل لمواقفها.فإن كان السيد السنيورة يمثل ما يمثل، فلا ينتظر منه ومن صحبه أن يبلوروا هم مشروع التسوية الوطنية في لبنان، أو الثورة لمن لا يريد تسوية!، بل ينتظر ذلك من قوى التصدي للهيمنة الأميركية. إن ورشة إنتاج الفكرة الوطنية، أو العقد الاجتماعي الجديد للبنان لم تُباشر بعد، وهو ما يمكّن الانقسام العمودي الجامد والعقيم من استيعاب كل المعطيات الأخرى، من امتصاص كل ما يقال ويعمل طالما بقي مبعثرا. وكمثال، يصبح نقد مشروع باريس3 الذي انعقدت اجتماعاته هذا الأسبوع، «كيدا» لا يُسمع ولا يُتلقى، بل يُقزّم الإضراب العام ليصبح «تخريباً» على الاجتماع الدولي الذي ينعقد بعد يوم عليه. وحتى الضحايا أنفسهم يصبحون مادة للمتاجرة في باريس3: هذا يقول البلد غير مؤهل للاستثمارات طالما لا تسوية سياسية، والآخر يمعن في التحدي والتجاهل الإجرامي، فيدّعي أن البلد بخير وأن الأزمة مفتعلة! وفي الحالتين يتحول باريس3 ليصبح أداة في المعركة المحلية الدائرة، مجردا من أي بعد آخر. هذا علاوة على كونه يصبح مادة لتعميق الانقسام ولدفعه نحو تفاعلات خطرة، ويبدو كمحطة من محطات فعل التدخل الدولي، مهددا بتكرار ما جرى في العراق وإن بوسائل أخرى.