لعل أحد الدروس الأساسية، وهي كثيرة، في كل ما تبدأ به السنة الجديدة من استمرار أميركا في رفع لافتة الحرب العالمية على الإرهاب هو أن المضمون الفعلي للشعار يختلف جذريا عن عنوانه. فمبدئيا، وبشهادة خبراء عديدين في مكافحة الإرهاب بينهم أميركيون، فإن وسائل أميركا في شن الحرب على الإرهاب هي ذاتها التي تكرس كلاً من الحرب والإرهاب معا. أما من حيث المضمون فلم يختلف المشروع الإمبراطوري الأميركي الجديد في جوهره عن كل مشروع انخرطت فيه الإمبراطوريات السابقة المتعاقبة لحظة بزوغ نجم منها في المسرح الدولي. كان التوسع الاستعماري القديم تقليديا في سعيه إلى فتح أراضٍ وأسواق جديدة ووضع اليد على موارد طبيعية ومواقع استراتيجية تريد أن تسبق بها منافسيها على عرش القوة. ومنذ انفراد أميركا بعرش القوة العالمية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وهي تسعى أولاً إلى ملء فراغه بسرعة قبل التقدم جنوبا لفرض سطوتها على العالم الثالث، وبالذات على الموارد الطبيعية في هذا العالم الثالث. كنا نؤمن من البداية أن حرب أميركا في العراق هي حرب بترول. وكان آخرون يرددون في حينه ما تروج له أميركا، من أن القضية ليست بترول العراق وإنما أسلحة دمار شامل. لم يكن الأمر يحتاج إلى كل هذا الوقت الذي مضى قبل أن ينكشف الغطاء عن الحقيقة التي كانت واضحة من البداية. حقيقة إنها حرب بترول، أو بالدقة: وضع اليد على البترول. لم يكن الأمر يحتاج أصلاً إلى فراسة أو قدرة على التنبؤ أو الكشف عن الغيب لكي ندرك أن العراق هنا مجرد عنوان لما يسبقه وما يلحق به. فحينما نتأمل السعي الأميركي المبكر إلى تقسيم تيمور الشرقية وفصلها عن أندونيسيا، ثم سعيها بوسائل مختلفة إلى قلب نظام حكم هوغو شافيز في فنزويلا، وفي ما بينهما السعي الأميركي إلى الوجود العسكري المباشر في منطقة بحر قزوين، وإحاطة الصين بثلاث عشرة قاعدة عسكرية، ومساندة التوجه إلى انفصال الجنوب السوداني ولاحقاً الإصرار على الوجود المسلح في دارفور تحت غطاء الأممالمتحدة، ثم القلاقل في نيجيريا، وتسليط أثيوبيا عسكرياً على الصومال، وتوسيع الوجود العسكري الأميركي في منطقة القرن الإفريقي، تتضح أبعاد الصورة أمامنا بغير حتى أن نضيف الحصار الأميركي المتصاعد ضد إيران وباقي القائمة.في كل واحد من بنود القائمة سنجد مداخل مختلفة وحججاً متنوعة، وربما أسبابا محلية، للقلاقل والصراعات. لكن العنصر الجامع بينها يظل هو البترول. في هذا السياق نستطيع أن نعود مثلاً إلى استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2004 فنجدها تتناول الإرهاب على أساس أنه مرتبط ب «عدم تحقيق النمو الاقتصادي» والافتقار إلى «البنى التحتية للديموقراطية» و «غياب الأسواق الحرة والتجارة الحرة». في التقرير الاستراتيجي الأميركي المماثل عن سنة سابقة كان الحديث صراحة هو أن أميركا لن تسمح مستقبلا لأي دولة، أو مجموعة من الدول، بمزاحمتها أو منافستها اقتصاديا أو عسكريا على مستوى العالم. في تقرير 2004 يبدأ الحديث بالإرهاب لينتهي إلى ضرورة فرض الأسواق الحرة والتجارة الحرة على باقي العالم.والتجارة الحرة كانت تاريخياً هي المدخل الإمبراطوري لفتح أسواق الدول الأقل قوة أمام منتجات ومصالح القوة الامبراطورية البازغة. لكن الجديد هذه المرة هو أن القوة الإمبراطورية الأميركية لم تعد تحتاج في كل حالة إلى استخدام القوة المسلحة المباشرة لفتح أسواق الآخرين، وإنما ابتكرت لنفسها أدوات ووسائل إضافية تؤدي في نهاية المطاف إلى النتيجة نفسها. أدوات من نوع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ثم منظمة التجارة العالمية منذ سنة 1995. ربما يفيدنا أيضا أن نتذكر أنه قبل عقد واحد من السنوات كان العنوان الذي يجري تسويقه هو «العولمة». فباسم «العولمة» مطلوب من كل دولة أن تتحول إلى مجرد ضاحية في القرية الكونية الكبرى. وباسم «العولمة» هناك «حتميات» من نوع «حتمية» فتح الأسواق و «حتمية» تحرير التجارة و «حتمية» تحرير حركة رأس المال دخولاً وخروجاً... إلخ. وهي «حتميات» لأنها - تقليداً للماركسيين - قطار كاسح لن يستطيع أحد أن يوقفه أو يتصدى له لأنه منطق التاريخ ولزوم التقدم والتطور الجارف في طريقه كل معترض.في حينها أغرقت تلك الدعاية الكاسحة العالم كله بسيل من البرامج والكتب والدراسات والإحصائيات والأرقام التي تبشر بأن من يتجاوب مع «العولمة» سيدخل إلى الفردوس في التو واللحظة. فردوس السلع الأرخص والإنتاج الأكثر والأرباح الأضخم والتنمية الأسرع. لكن لحظة الحقيقة هنا كشفتها الكارثة الاقتصادية التي فوجئت بها دول جنوب شرقي آسيا في سنتي 1997/1998. كارثة لخصتها حقيقة أن الدول نفسها التي كانت تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تسجل أنها من «النمور الآسيوية» التي نجحت في جيل واحد أن تحقق نمواً اقتصادياً حققته دول أخرى في ثلاثة أو أربعة أجيال على الأقل، لكن فجأة صحت تلك الدول نفسها ذات صباح، وبالتتابع، لتجد أنها تحولت من دول دائنة ورابحة ومصدرة إلى دول مفلسة ومدينة ومستوردة وقوتها العاملة المتعلمة يتم القذف بها إلى شوارع البطالة، وعليها أن تشرع فوراً في بيع كل صناعاتها الرابحة إلى الرأسمالية الدولية المتوحشة... بسعر التراب. الدولة الوحيدة التي أنقذت نفسها بسرعة في حينها كانت ماليزيا، لأن رئيس وزرائها مهاتير محمد أعاد فوراً فرض القيود الصارمة على خروج رأس المال مصححاً بذلك الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها تلك الدول بسماعها مشورة صندوق النقد الدولي والبنك لدولي.مع ذلك تزامن شحوب الحديث عن «العولمة» وقتها مع التوسع في الحديث عن الدور المتصاعد لمنظمة التجارة العالمية باعتبارها مهندس حرية التجارة وضابط الإيقاع في إزالة الحواجز التجارية بين الدول وفتح الأبواب أمام الرأسمالية المتوحشة الدولية الجديدة. رأسمالية كان النظام الرأسمالي الأميركي نفسه أول من وضع القيود على جشعها في سنوات فرانكلين روزفلت بعد أن ألحقت الخراب بالاقتصاد الأميركي وصدرته بالتبعية إلى معظم العالم.لكن مع انفراد أميركا بعرش القوة العالمية واختفاء الخصم الأيديولوجي المنافس استردت الرأسمالية المتوحشة أحلامها من جديد في التحلل من القيود داخليا ودوليا. هكذا تابعنا إدارة الرئيس جورج بوش في ولايته الأولى يبادر بإعطاء تخفيضات فلكية في الضرائب على كبار الأثرياء والشركات الكبرى، مع التنصل في الوقت نفسه من أعباء الرعاية الاجتماعية والصحية التي كانت توفرها الدولة ولو لقطاع محدود من المواطنين.وكما سجل جوزيف ستيغليتز الخبير الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل أخيراً فإن المجتمع الأميركي «بدأت تخترقه الفروق الاجتماعية الحادة ويفرغ من الطبقة الوسطى. أما بالنسبة للبلدان النامية التي تسعى المؤسسات المالية العالمية والدول الغنية إلى إقناعها بفوائد العولمة وضرورة الانخراط في الاقتصاد العالمي، فهي تعاني الأمرين من جراء اتفاقيات التجارة مع دول الشمال ذات الشروط المجحفة وغير العادلة».. وأصبح «اللافت حقاً هو أن الدول المتقدمة تفرض رسوماً جمركية على الدول الفقيرة تفوق أربع مرات ما تفرضه تلك الدول الغنية على بعضها بعضاً. وفي المقابل تكلف اتفاقيات التجارة الحرة الدول الفقيرة ثلاث مرات أكثر مما تتلقاه من مساعدات إنمائية من الدول الغنية بسبب القيود التي تفرضها هذه الأخيرة على دخول المنتجات الزراعية القادمة من البلدان النامية».تحت لافتة التجارة الحرة إذن أصبحت تتم جرجرة الدول النامية إلى فتح أسواقها... وفتحها فقط بما يناسب مصالح الدول الغنية، وتحديدا لحساب نموذج الرأسمالية المتوحشة الباحثة فقط عن تعظيم أرباحها والتحلل من كل مسؤولية اجتماعية ونهب الموارد المحدودة للدول النامية بعيدا عن رقابة، بل وحتى متابعة، الدولة النامية ذاتها. ومع أن التجارة الحرة تستدعي بالضرورة فتح الأبواب أمام دخول وخروج رأس المال، إلا أن الدول الغنية ترفض في اللحظة نفسها فتح أبوابها هي أمام أي عمالة قادمة من الدول النامية. هي تريد موارد وأموال الدول النامية، ولكنها لا تريد بالمرة أي عمالة منها.وبعد أن تعهد الرئيس الأميركي جورج بوش للمكسيك مثلاً بفتح صفحة جديدة معها بمجرد التزامها بالتجارة الحرة مع أميركا، إلا أنها بمجرد أن فعلت ذلك تراجع عن تعهداته وأصدر القوانين المقيدة لهجرة المكسيكيين إلى أميركا... بل وحتى الشروع في إقامة سور عازل بامتداد الحدود بين البلدين.لم يكن غريبا إذن أن يتصاعد العداء لأميركا في دول أميركا اللاتينية والجنوبية رفضا للتجارة الحرة معها. ولم تعد كوبا هي وحدها المناوئة لأميركا، ولا حتى فنزويلا بقيادة هوغو شافيز، وإنما تابعنا في السنة الماضية (2006) امتداد الاتجاه المعادي نفسه إلى بوليفيا والإكوادور ونيكاراغوا، وحتى المكسيك.في العنوان العريض بترول. ولكن حيثما لا يوجد بترول ليتم نهبه توجد أسواق ليتم فتحها وأرباح ليتم شفطها وصناعات ناجحة لتتم خصخصتها. وفي منطقتنا مثلاً بدا أن الإذعان لطلبات الرأسمالية المتوحشة يمضي بسهولة مدهشة وبسرعة مريبة يعبر عنها برنامج خصخصة الصناعات والبنوك الكبرى، بمعنى بيعها إلى القطاع الخاص.وفي البداية قيل إن هذا يستهدف توسيع الملكية العامة وتدعيم القطاع الخاص المحلي. لكن في التطبيق تبين أن المسألة عكس ذلك بالمرة. المسألة هي البيع والبيع والبيع، ولشركات أجنبية تحديدا، وبالذات الأكثر توحشا في سعيها إلى شفط الأرباح من الداخل وتحويلها إلى الخارج أولا بأول. وبموازاة كل بيعة وبيعة تصدر شهادات حسن السير والسلوك من أطراف تابعة لشركات الرأسمالية المتوحشة أعجابا بالانخراط الحكومي في الإصلاح الاقتصادي، وهو تعبير الشفرة بديلاً عن الخراب الاقتصادي. موال متكرر تابعناه سابقاً في حالات مماثلة... من الأرجنتين إلى أندونيسيا.هكذا تابعنا في مصر مثلا بيع شركات الأسمنت، وهي الصناعة الحاكمة في قطاعات البناء والإنشاءات، إلى شركات أجنبية. وخلال 15 شهراً فقط رفعت الشركات الأجنبية أسعار بيع الأسمنت للمصريين داخل بلدهم بنسبة ثلاثمئة في المئة... كلها خسارة للاقتصاد المصري لكن كلها أيضا أرباح للشركات الأجنبية أصبح الاقتصاد المصري ملتزما بتحويلها إليهم أولا بأول وبالدولار الأميركي بينما مصر مدينة أصلا بثلاثين بليون دولار.هكذا رأينا أيضا صناعة عريقة في مصر كالغزل والنسيج تتحول بفعل فاعل خلال سنوات قليلة من رابحة ومصدرة إلى خاسرة ومستوردة، ومن جاذبة للعمالة الكثيفة إلى طاردة للعمالة الكثيفة المدربة والخبيرة. وتحت لافتة المعاش المبكر جرى إخراج مئة وخمسين ألف فني وخبير من تلك الصناعة العريقة إلى سوق البطالة. ربما يرى البعض في هذا إبداعاً غير مسبوق عالمياً حيث، بدلا من أن تكد الدولة النامية ليل نهار لخلق فرص عمل منتجة لمواطنيها، فإنها تدفع لمن يعملون في وظائف منتجة فعلاً أموالاً كي يصبحوا عاطلين عن العمل.وامتد برنامج الخصخصة أيضا إلى البنوك، وهي الحصن الأخير للاقتصاد الوطني، وإلى قطاع الطاقة والتجارة وصناعة الأدوية. بل إن احتفالا رسميا جرى في مصر، وحضره رئيس الوزراء، احتفاء ببيع مصنع دواء مصري إلى شركة أجنبية. وللسخرية، هذا المصنع قطاع خاص. ولمزيد من السخرية فإن صفقة البيع تضمنت شرطاً غريباً وملفتاً هو تعهد البائعين المصريين بعدم إقامة أي مصنع جديد للدواء في مصر.لم يتوقف أحد لمراجعة ما يجري أو التدقيق فيه أو المحاسبة عنه. تماما كما لم يتوقف أحد منذ سنوات قليلة أمام بدعة استدعاء شركات أجنبية لجمع القمامة من مدن مصر الكبرى مقابل رسوم تحددها تلك الشركات وتتقاضاها من المواطنين المصريين. وحينما اكتشف المواطنون الخدعة الكبرى، حيث القمامة زادت بدل أن تجمع، فاجأتهم الحكومة بتشريع يفرض رسوم جمع القمامة إجباريا بتحصيلها مع فواتير استهلاك الكهرباء... فمن لا يدفع يتم قطع الكهرباء عن منزله أو متجره في التو واللحظة.وأصبح هذا إبداعا جديدا يضاف إلى ما سبق. حيث تتحول الدولة إلى كرباج في يد الشركة الأجنبية ضد مواطنيها، فلا قمامتهم جرى جمعها ولا حوسبت الشركة على تقصيرها، فحتى في بلاد الرأسمالية المتوحشة لم تقم الدولة بهذا الدور لأنه يتنافى بالأساس مع أي مفهوم بدائي للرأسمالية وللسوق الحرة. 14/1/2007حركة القوميين العرب