إن المشهد الصادق المؤثر لتحرك التجمعات الإحتجاجية الواسعة لشعب لبنان، بكل فئاته وطوائفه ومناطقه، قد أوصل مضمون خطابه إلى المعنيين المحليين والإقليميين، وإلى إدارات الدول صاحبة القرار، وإلى حكومة الإحتلال في العراق وفرق الموت التابعة، وإلى المقاومين الشرفاء، وإلى الصابرين من أهل العراق، وأيضا إلى شعوب العالم المضطهدة، وشعوب الدول المجاورة، كي تنتفض في وجه الخنوع والظلم والفساد، لإسقاط بائعي الأوطان، وإنهاء حالة التخلف، كي تبدأ مرحلة جديدة، مرحلة بناء مجتمع التقدم والحرية والرفاه. فالتحرك الإحتجاجي لم يكن رفضا شكليا للحكومة القائمة وآلية عمل سلطاتها، وما تتخذه من إجراءات وتوجهات مناقضة لرغبات وطموحات شعب لبنان، وإنما انتفاضة مجتمع قِيَمي ضد مسار متحلل غارق في الفساد، ورفض لأن يقاد شعب لبنان إلى التقاتل مجددا بين أبنائه من أجل ان يكون لبنان مرتكزا لقوى الغير العدوانية وممرا إلى الداخل الشامي بأبعاده وإلى شعوب الجوار من أفغانستان وتركيا إلى حدود الأطلسي. إنه رفض لغباء السلطة المتذاكية واحتيالاتها المتكررة على شعب متخم بالخبرات منذ انبثاق الحضارات، إنه رفض للتكاذبات ولاستعراضات القوة والضعف المخادعة، ورفض للإختباء الاحتيالي المزيف خلف قدسية دستور، تخترق روحية نصوصه سلطة كلما أصبحت أو غابت عنها الشمس في المساء، بهدف استثارة الأحلام الطائفية بين أبناء طوائف المنطقة العربية، وتصعيد الخوف الحاقد لديهم لدفعهم الى الانكماش أو الجموح الناقم لالغاء الآخر في مناطق العزل أو الإست قلال الطائفي المُزمعة، بينما في هي في حقيقة الأمر تساهم هذه في صنع الكتل السكانية المتقابلة، لتقاتل قريب بين أبناء البلد الواحد والعائلة الواحدة، من أجل احتفالات الموت الفردي أو الجماعي على الحواجز وخطوط التماس لسنوات الحرب القادمة خدمة مجانية لمخططات الغير. لقد استطاع سماسرة الحرب في لبنان وتجّار السلاح والمخدرات ولصوص المصارف والصفقات ومخربي الدولة ومقاولي مشاريع القتل والدمار- عقب المسرحية البكائية على مقتل الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 التي شهدتها ساحات بيروت ومسارحها وأخرجتها إلى الناس محطات بثهم الدعائية العالمية - أن يتسلموا السلطة في لبنان بتواطؤ وتدبير ودعم من قوى عربية وإقليمية مجاورة ودولية، مكافأة لهم على انجازاتهم الميدانية السابقة ونجاحهم في تجربة نقل أفراد الطوائف أثناء الحرب اللبنانية من موقع القيم العائلية المتوارثة والتربية البيتية وسلوكياتها المؤسسة على الرزق الحلال إلى موقع الارتزاق من تجارة الموت والكسب الحرام، التي استخدِمَت نتائجها في العراق، ومن أجل مهام الإعداد لمشاريع الفتنة الجديدة وذلك بتصنيع تكتلات متجابهة محاربة تغرق لبنان والمنطقة بالفقر والموت والدمار. إن ما تفعله، وتتحرك وفق مضمونه إدارات دول الحلف الأمريكي، ليس سوى استمرار للذهنية الغربية ونمطيتها الاستهدافية، التي شهدت أفعالها الاغتصابية المنطقة العربية منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولم تزل تعتقد هذه بأن لها إرث مقدس فيها لا يجوز لأحد مساسه . وعلى عكس ما يحاول أن يُروجه البعض عن إيجابيات تحرك الحلف الأمريكي في تناغم مع برامج وسائل الدعاية الملحقة بمشروعها الجديد، فإن هذا التحرك في حقيقته مشروع تهديمي، ولا يحمل بكل تلاوين صوره الجديدة أي مقومات بنائية. وجلّ ما يمكن أن يقدمه إلى شعوب المنطقة فوضى ممنهجة، ذلك من خلال مسلسل مدروس لايجاد معادلة لتحطيم دول المنطقة وبناها الإقتصادية ذاتياً بغية دمار وإبادة وتهجير سكانها وإفقار ما تبقى منهم ونزع هويتهم وانتمائهم على غرار العراق، لإعادة تشكيلها وصياغتها وفق أسس جديدة تتفق مع تطور رؤية مصالح القوى الإقتصادية الكونية وحاجاتها المتنامية صاحبة القرار والمتحكمة والمتصرفة والآمرة لإدارات تلك الدول، بما يتيح ذلك من مجال لإحداث أفعال استثمارية (تجربة إعمار لبنان بعد الإقتتال الأهلي75-90). ومن ناحية مقابلة، كان الإصرار على الموقف الممانع لطلائع الشعوب العربية وقياداتها المؤتمنة، عاملا فعالا وقف حائلا عبر كل تلك السنوات دون تنفيذ هذه الأطماع، كما قد أتاح لها هذا الموقف فرصة للتحقق من صحة ثوابتها البديهية للتشبث بها والدفاع عنها، هذه الثوابت القائلة بأن مصالح شعوب المنطقة هي واحدة، وأن كياناتها السياسية المتعددة هي واحدة في الجوهر مجزأة شكلا، وأن تحررها مشروط بطرد الغزاة من أراضيها، والفكاك من قيود الهيمنة والتبعية الإقتصادية والسياسية، كما أن بقاء هذا التحرر مشروط بإقامة مجتمع متقدم عادل تتحقق فيه المواطنة الحقة لشعوبها وحرية ممارسة حقوقهم لإشاعة مناخات الممارسة الديمقراطية، وأن هذه الشعوب وقياداتها، لم يكن لها من خيارات متاحة لحماية هذه الثوابت وتحقيق أهدافها غير أعمال المقاومة، أكان في ثوراتهم الاستقلالية المتعددة، أو في تحرير فلسطين من الغزاة الذين احتلوا أرضها وشردوا شعبها في أكبر مأساة عرفها التاريخ الانساني الحديث بعد مأساة المجازر العرقية والمذهبية لشعب شرق الأناضول في بداية الحرب الأولى. إن الطوائف والإثنيات في المنطقة على تنوعاتها، كانت ولم تزل نبتٌ حي لأرض واحدة، صنعت شعوبها الحضارات، كما أنها استمرار متجدد لهذه الحضارات، وأن بقاءها على الأرض الواحدة ليدلل على مدى ارتقاء مفاهيم العيش المشترك لدى أبنائها وقبول الآخر في فرص تناوبها وتبادلها السلطة على أرض ذات البلاد. كما أن تعاونها السلامي فيما بينها، وقبول شعبها المستقر لهذا التنوع، قد أعطى المنطقة سمة مميزة، كانت تتجدد من خلالها عطاءاتها الحضارية في كل منعطف تاريخي أكان في طرق الانتاج وتبادله أو في شكل التنظيم الاجتماعي ونظم الحكم، لذا كان التعبير عن وحدة التنوع والتعدد مقبولا في ظل المسمى الواحد سريانيا أو هلنستيا بيزنطيا مسيحيا أو عربيا، وكان ذلك نوع من التجاوز المتجدد على الذات للانفتاح على الآخر مقابل الانغلاق، وامتزاج هادئ مؤسس على الآليات المتنوعة لتبادل الخبرات ومنافع ثمرات الإنتاج. ولقد استطاعت دعوات التحرر العربي في إطار هذا المفهوم أن تجمع أبناء كل طوائف وإثنيات أرض العرب للإنضواء تحت لوائها، تلك التي قادتها الأحزاب والجمعيات الوطنية ورجالات الوطن وزعاماته منذ ما قبل الثورة العربية الكبرى 1916 إلى الثورة المصرية بقيادة عبد الناصر . لقد اختلفت الأزمنة والمفاهيم والسلوكيات كما اختلفت المقولات والطروحات إلا أن مضمون الموضوع لم يزل ذاته، دول قوية تبغي الهيمنة للعيش على حساب استهلاك الشعوب، وشعوب تأبى أن تخضع، غير أنه لم يعد واردا في غياب جيوش المستعمرات احتلال أراضي الغيرإحتلالا مباشراً إلا بما قد تقتضيه الظروف. وفي هذا الصدد فلقد انكشفت أيضا دعوات الديمقراطية والحرية ورسل الرفاه، التي تعني حرية العملاء بتسليم الأرض والمقدرات والثروات للقوى الخارجية، بما يتبع ذلك من فرض أنظمة في المنطقة لكيانات مجزأة جديدة، وتسوية القضية الفلسطينية العالقة بما يناقض الحقوق المشروعة لشعب أرض فلسطين ولشعب الجوار، وشرعنة عمليات إغتصاب الأراضي ونهب الثروات وإبادة الشعوب. لذا كان على القوى الخارجية العمل على تجديد أساليبها بما يُعوض عن المتغيرات السلبية الحادثة في بنيتها الجديدة، وذلك بزيادة الاعتماد على عملاء الداخل وتفعيل وجودهم لتوليد عناصر التدمير الذاتي في بلادهم على ما في ذلك من مخاطر غير مضمونة، وعليه فإن اتكاء هؤلاء العملاء على القوى الخارجية لحماية ذاتهم من الجزاء المترتب على أفعالهم الجرمية كوكلاء عن الغير في تنفيذ مخططاته، لن يكون مجديا ولن يحميهم من غضب شعوبهم. لقد كان لتغيير الطبيعة الاقتصادية لسكان دولة مثل لبنان، وتحويل المجتمع فيه من مجتمع منتج تأسست قيمه المدنية على كفاءة العمل بما ينتج من صدق في العلاقات التبادلية إلى مجتمع استهلاك بهدف زلق أبنائه إلى الإرتزاق من مصادر الإحسان، قد غير من طبيعة وسلوك بعض الشرائح اللبنانية وربطها بانتماءات جديدة، وأسقطها في متاهة منطق المغامرة وشعوذة السحّار وقارئي الكف وإباحة المحرمات بكل ما يعنيه ذلك من اغتصاب مال الغير وأفعال الشطارة للغنى السريع، لكن هذا، على خطورته، لم يُغيّر من طبيعة إنتماء أبناء لبنان في غالبيتهم إلى الطوائف كمرجعٍ وموئلٍ للقيم. إن الطوائف والإثنيات في المنطقة هم جماعات تاريخية يتكون من أفرادها شعب ومجتمع الوطن، وهي في طبيعة تكوينها أداة إعمار وتصالح وسلام، لا أداة إلغاء واقتتال، وأبناؤها يرتبطون بمجتمع وأرض الوطن ويدافعون عنهما، لذا فإن المتغيرات وبعض الاستنسابات المرحلية الطارئة سلبا أو إيجابا، هي التي تجعل من بعض الطوائف في المنطقة وفي زمن ما، أن تكون لها قبل غيرها في الوطن شرف الدفاع عنه، وأن يكون من أوليات حياة أبنائها مهام النضال صونا لكرامة كل أهل الوطن، كما الطائفة المسلمة السنية في العراق المقاوم، والطائفة المسلمة الشيعية في لبنان المقاتل، وسنة فلسطين دفاعا عن قدس كل العرب، وكما تصدر تلك المهام سابقا أهل جبل العرب الموحدين في الثورة السورية ضد الفرنسيين، فالشذوذ إن حدث يبقى ملتصقا بصاحبه أكان خائنا مجرما أو لصا فهو لا يعني طائفته، كما لا يمثل الوطن. لذا فإن ما يحدث في لبنان من تحرك لكل القوى الممثلة للكيان اللبناني في إجماع وطني يلتف حول المقاومة المقاتلة، إنما هو رفض لكل صيغ بَيع الوطن وكل منطق للتكسب يرتبط بشطارة الزعران، كما يدخل من باب التمسك بالثوابت والعودة إلى القيم المجتمعية الأخلاقية التي أنتجتها طيلة قرون أرض لبنان، وأودعتها لدى رجالاته من أجل الحفاظ على حرية أهل لبنان، من أجل بقاء لبنان سيدا كريما معطاء لكل سكانه.