بصدور القرار 1701 من مجلس الأمن، بدأ الجميع في الحديث عن حسابات الربح والخسارة في الحروب الإسرائيلية - اللبنانية. تعجل بعضهم فاعتبر احد الطرفين كاسبا والآخر خاسرا، ناسيا أن هناك أطرافاً غير الطرفين المتحاربين تشارك في الصراع وتترقب النتائج. حسب البعض الآخر أن الحرب قد انتهت، وقد مني كل من الطرفين بنصف انتصار ونصف هزيمة، بينما تورط أحد المعلقين فاعتبروها آخر الحروب، اعتمادا على إبعاد قوات حزب الله إلى شمال الليطاني ونزع سلاحه في الجنوب. اعتقد أن الفرق في القيام بعمليات حسابية لبيان ‘'مكسب'' أو ‘'خسارة'' طرف أو آخر في اللحظة الآنية، هو تسرع مغلوط وقصر نظر ملحوظ. مازالت الحرب اللبنانية - الإسرائيلية الثالثة دائرة على رغم صمت المدافع، فالوضع السياسي اقرب إلى السيولة، منه إلى الاستقرار. ومازالت كل الأطراف تحاول أن تسبر غور دلالات ونتائج المعارك التي دارت، وتجتهد في تجبير نتائجها لصالحها، لكنني أكاد أن اجزم أن تلك ‘'الحرب'' لن تكون آخر الحروب العربية الإسرائيلية. بعد حرب عام 73 وإبرام اتفاقات ‘'السلام'' المصرية - الإسرائيلية ارتفعت الأصوات بأنها آخر الحروب، لكن طبيعة الصراع العربي الصهيوني والمناخ السياسي الثقافي للمنطقة التي يدور فيها اثبتا أنها ليست آخر الحروب. ووقعت بعدها حربا العام 1978 والعام 1982 بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. وحتى عندما خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان إلى الشتات وأصبح مقر قيادتها على بعد آلاف الأميال من حدود فلسطين في تونس انفجرت الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة العام .1978 حتى بعد اتفاقات ‘'أوسلو''، التي خدعت بعضهم فظنوا أنها الباب الملكي لإقرار السلام وإنهاء النزاع الفلسطيني - الصهيوني، انفجرت الانتفاضة الثانية ‘'انتفاضة الأقصى'' ومازال الصراع مستمرا. إذا أردنا أن نرصد الدلالات المباشرة للحرب الدائرة الآن في لبنان، لأدركنا أن الدلالة الأولى والأهم هي أن المقاومة اللبنانية قد أوجدت توازنا للرعب والردع مع الآلة العسكرية الصهيونية بشكل واضح وجلي لأول مرة في مسيرة الصراع العربي - الإسرائيلي. في العام 1973 استطاع المصريون تحييد سلاح الجو الإسرائيلي بشكل محدود، وفي العام 2006 استطاع حزب الله بصواريخ الكاتيوشا المطورة أن يردع ويسبب الأضرار الاقتصادية والنفسية الواسعة لإسرائيل. الدلالة الثانية قديمة وليست جديدة مبتكرة. في ظل اختلال موازين القوى بين الحكومات والأنظمة العربية وإسرائيل، وبسبب غياب الإرادة السياسية المقاتلة لدى الحكام العرب تصبح مواجهة الشعوب ‘'هي الأنجع والأكثر عملية في إدارة الصراع العربي - الصهيوني، بدلاً من مواجهة الجيوش'' التي فشل فيها العرب غالبا. الدلالة الثالثة تتعلق بالنظام الإقليمي في المنطقة، فقد ظهر بوضوح انهيار منظومة الأمن القومي العربي، الممثلة في جامعة الدول العربية''. بانت أوزان الأنظمة العربية وذيلية مواقفها، بل وتآمر بعضها على المقاومة. في الوقت نفسه ظهرت قوى إقليمية صاعدة على تخوم منطقة الصراع متمثلة في دولتي إيران وتركيا، ما يطرح تساؤلا بشأن إمكان صياغة منظومة امن إقليمية تدخلها الدولتان إلى جانب الدول العربية، وتستبعد من عضويتها إسرائيل. إذا جئنا للنتائج المباشرة والقابلة والاستثمار، تبدو قامة السيد حسن نصر الله زعيماً عربياً للمقاومة سامقة ومبهرة. نحن إزاء إمكان تخلق زعامة عربية جامعة، مثلما حدث مع عبدالناصر العام .1956 اكتسب ‘'نصر الله'' مصداقية وشعبية جارفة، تخطت حواجز الطوائف وحدود الأنظمة والدول. لكن تلك الإمكانية مشروطة بادراك السيد حسن نصرالله وحزب الله بطبيعة دورهما المستقبلي، وفي إيجادهما من مخرج الطبيعة الطائفية للمقاومة. لقد اكتسب نصر الله شرعية ‘'الزعامة التاريخية''، فوجب عليه أن يتخلى عن ‘'الشرعية الطائفية''. قد يتطلب ذلك التنازلات لقوى وتيارات سياسية مقاومة للمشروع الصهيوني، وتجد نفسها خارج إطار حزب الله. آن الأوان لزعامة مبشرة في حجم ووزن ‘'حسن نصر الله'' أن تخلع رداء الطائفة وتلبس رداء القومية. لاشك أن ‘'سوريا وإيران'' مرشحتان لجني كثير من النقاط في الحرب الأخيرة. أظهرت الحرب أن ‘'سوريا'' مازالت البوابة الرئيسة للبنان، وأن لبنان معرض لإخطار جسيمة في ظل علاقة عدائية مع شقيقته الكبرى ‘'سوريا''. يبدو العمق السوري الذي أتاح للنازحين اللبنانيين متسعا، وللمقاومة خطوط إمداد غير مشكوك فيها، حيويا للغاية. يتطلب تطوير تلك النقاط التي أحرزتها سوريا من نظامها السياسي تمتين جبهته الداخلية، وإحداث تطور ديمقراطي غير منقوص فيها عبر إتاحة الحريات السياسية والنقابية. يتطلب أيضا إدارة واعية للعلاقات بينها وبين لبنان، تحترم فيها خصوصيته وتفتح فيها قنوات جديدة صحية للحوار مع زعاماته السياسية. قنوات لا تتحكم فيها أيادي الأمن الغليظة، ولكن رحابة عقل السياسي والبحث عن المصالح المشتركة. يتطلب أيضا إدراكا بأهمية فتح الجبهة السورية للمقاومة من اجل تحرير الجولات. أثبتت إيران أنها دولة إقليمية كبرى في المنطقة، وأن حساباتها السياسية تخضع لرؤية استراتيجية واسعة. تأكد أن السلاح الإيراني قد اثبت نجاحه في المواجهة، وأن القدرات العسكرية الإيرانية التي تمثلت في تدريب أفراد حزب الله هي قدرات ومهارات لا يستهان بها. اكتسبت إيران تعاطفا شعبيا واحتراما رسميا. هذا التعاطف وذلك الاحترام يصلحان كأساس لبناء علاقات صحية متينة بين العرب وإيران. لكن ذلك مشروط أيضا بادراك الإدارة الإيرانية بالمخاوف العربية من تمدد ظالم لها. يرتبط ذلك بمدى قدرة إيران على اتخاذ موقف أكثر اتزانا وموضوعية في العراق، ومدى كبحها لجماح تدخلاتها ذات النظرة الضيقة هناك. إن وجود علاقات إيرانية - عربية قائمة على التعاون والتضامن في مسيرة الصراع العربي - الصهيوني وفي مواجهة المخططات الاستعمارية التي تستهدف المنطقة. بغض النظر عن حسابات المكسب والخسارة، تكتسب الحرب اللبنانية الإسرائيلية الثالثة دلالات وأهمية خاصة، سوف تتكشف باستمرار وبدينامية عالية مع تطورات الأحداث في المستقبل مهما رفعتم عاليا أسواركملن تمنعوا الشمس من الإشراق