طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المغرب    نشرة انذارية…تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المملكة    توقيف ثلاثة مواطنين صينيين يشتبه في تورطهم في قضية تتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات الرقمية    توقيف 3 صينيين متورطين في المس بالمعطيات الرقمية وقرصنة المكالمات الهاتفية    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    ترامب يعلن عن قصف أمريكي ل"داعش" في الصومال    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    "بوحمرون".. الصحة العالمية تحذر من الخطورة المتزايدة للمرض    الولايات المتحدة.. السلطات تعلن السيطرة كليا على حرائق لوس أنجليس    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب ودمج CNOPS في CNSS    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    الشراكة المغربية الأوروبية : تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    توقعات احوال الطقس ليوم الاحد.. أمطار وثلوج    اعتبارا من الإثنين.. الآباء ملزمون بالتوجه لتقليح أبنائهم    انعقاد الاجتماع الثاني والستين للمجلس التنفيذي لمنظمة المدن العربية بطنجة    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    شركة "غوغل" تطلق أسرع نماذجها للذكاء الاصطناعي    البرلمان الألماني يرفض مشروع قانون يسعى لتقييد الهجرة    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    BDS: مقاطعة السلع الإسرائيلية ناجحة    إسرائيل تطلق 183 سجينا فلسطينيا    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    رحيل "أيوب الريمي الجميل" .. الصحافي والإنسان في زمن الإسفاف    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    زكرياء الزمراني:تتويج المنتخب المغربي لكرة المضرب ببطولة إفريقيا للناشئين بالقاهرة ثمرة مجهودات جبارة    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    تنس المغرب يثبت في كأس ديفيس    بنعبد الله يدين قرارات الإدارة السورية الجديدة ويرفض عقاب ترامب لكوبا    "تأخر الترقية" يخرج أساتذة "الزنزانة 10" للاحتجاج أمام مقر وزارة التربية    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    المغرب التطواني يتمكن من رفع المنع ويؤهل ستة لاعبين تعاقد معهم في الانتقالات الشتوية    توضيح رئيس جماعة النكور بخصوص فتح مسلك طرقي بدوار حندون    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    العصبة الوطنية تفرج عن البرمجة الخاصة بالجولتين المقبلتين من البطولة الاحترافية    الولايات المتحدة الأمريكية.. تحطم طائرة صغيرة على متنها 6 ركاب    بنك المغرب : الدرهم يستقر أمام الأورو و الدولار    المغرب يتجه إلى مراجعة سقف فائض الطاقة الكهربائية في ضوء تحلية مياه البحر    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    انتحار موظف يعمل بالسجن المحلي العرجات 2 باستعمال سلاحه الوظيفي    السعودية تتجه لرفع حجم تمويلها الزراعي إلى ملياري دولار هذا العام    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    غزة... "القسام" تسلم أسيرين إسرائيليين للصليب الأحمر بالدفعة الرابعة للصفقة    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    حركة "إم 23" المدعومة من رواندا تزحف نحو العاصمة الكونغولية كينشاسا    هواوي المغرب تُتوَّج مجددًا بلقب "أفضل المشغلين" لعام 2025    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وَدَاعاً عَاماً مَضىَ بِثِفالِه.. وَمَرْحَباًعَاماً أقبلَ بآمَالِه!
نشر في الصحيفة يوم 31 - 12 - 2021

عِنْدَمَا رنّت دقّاتُ النَوَاقِيسِ (النّوىَ- قيسي) (!) فى مُنْتَصَف اللَّيْل، كان الكلّ كان ينتظر، ويرقب، ويترقّب،ويراقب ساعةَ الصّفر، ثمّ ما لبثت أن ملأت الأجواءَ حرارةُ المكان، وإنطفأت الأضواءُ في كلّ ركن، وكان العناقُ تلوَ العناق، الصّادق منه، والمائق، والزّائف، والدّافئ الزّائد الذي سرعان ما يتحوّل إلى نارٍ كاوية ، ودارتِ الأكْؤُسُ الدّهاق، وتبعتها الأكوابُ المُترعة حتى الثّمالة،ووُزّعت الصّحون الشهيّة، وإمتلأت البطونُ حتى التّخمة بالطعام المُزّ، والشّراب المُرّ، بعد أن وزّعت الشموع الملوّنة،وعلّقت القناديل المضيئة، وتمّ إيقاد الشمعدانات المذهّبة ذات الأيدي الأخطبوطية المتشعّبة ،التي يكاد زيتها يضيئ حيناً، ويخبو حيناً آخر، تسطع،وتتراقص،وتخفت أنوارُها فى رومانسيّة حالمة، خافتة،باهتة ،وتتأرجحُ فتائلها فى خَجلٍ بفعل الرّقصات الصّاخبة ،وإهتزازات تنّورات الصّبايا الحِسَان، المكان يملأه الأثاثُ المزخرفَ، والأواني المزركشةَ، والألوان الزّاهية، والمآدبَ الفاخرة،والمصاطب العليا،ومشروبات الكوكتيل الشهيّة الملوّنة، ودارت صواني طحالب السُّوشي اليابانية البحرية، وبطارخ الكافيار الرّوسيّة، والإيرانيّة الثمينة،وشطائر أسماك جاوة النادرة، وشرائح السَّلمُون النرويجي المُدخّن !.وخلف النوافذ المُشرعة تتراءى من بعيد الشهُب الإصطناعية البرّاقة التي تملأ الفضاءَ الفسيح،والتي تكاد تُغشى الأبصار، والحديث ذو شجون،وبعضُه ضربٌ من الجنون والفنون ، يجرّ بعضُه بعضاً،إنهم يفرحون، يمرحون، يعبثون، يتشاجرون، يتصالحون،يتعانقون، يصيحون، يُغنّون، ويُهلّلون،وهم دافئون..!
ساعة الصّفر
ها قد جاءتهم ساعةُ الصّفر إليهم تُجَرْجِرُ أذيالها ، ومعها تدنو وتقتربُ لحظةُ الهَوَس، والنَّزَق، والفرح والمرح، وها قد أزفتْ هنيهةُ (توديع عامٍ – وإستقبال آخر) .. فإذا بالكلّ يصيح بصوتٍ جهوري: أطفئوا المصابيحَ بُرهة.... ثمّ أوقدوا الشّموعَ،والقناديل، وانشروا الأنوارَ،وانثروا الضّياء ..فإذا الوجوهَ باشّةً هاشّة ً ضاحكة، وإذا القلوبَ تخفق سعادةً وهناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي، وهي تمتدّ في جَذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بإنسياب حِقبةٍ من الزّمان وإنقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن، والحواضرالكبرى تسبحُ في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج ، وأضواءُ النيّون ملأت الدّنيا، إنتشرت،وسطعت في أماكان بعينها، وإستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى، كثيرون منّا يجهلونها ، قليلون منّا يعرفونها ..عاقرت الكؤوسُ بعضَها بعضاً، وإنفرجت الأشداقُ من فرط القهقهات ، وزاغت العيونُ من فرط النظرات ، وانتفخت الأوداج، وتاهت العقول .
ويظلّ آخرون ..المنسيّون،المُهمّشون يلفّهم البردُ القارس الزّمهريرالذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلجَ الصقيعُ المتكاثفُ الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون المُرمّلة النحيلة ، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة،هناك دائماً وفرة، وزيادة، وغزارة ،وهناك تضخّم فائض، أو فيضٌ متضخّم،ولكن بالمقابل دائماً ثَمَّةَ عَوَزٌ، وخصَاصَةٌ ،وفاقةٌ،وفقرٌ، وإحتياج ،وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم ، ولفحات لاسعة من برد قارس.
حال الحَولُ، ودار الزّمانُ، وتوارىَ العام ، وتوارت معه أحزانُنا، وأتراحُنا، وبعضُ أفراحِنا، وجذلِنا،ومآسِينا، وإستقبلنا في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه، ولياليه في طيّ المجهول،وخبايا الكِتمان ،وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر من أعوام البشرية قد هَوَى، وإنْزَوَى، وَمَضَي إلى حالِ سبيله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أوالأتيِّ المنهمِرالضّائع بين أخاديد أيّامنا المنهوكة، وفى يذوي بين طيّات الزّمن،وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، ويتبخّر فى معارج طِباق السّماوات ، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة التي ولّتْ،ومضتْ، وإنقضتْ،وتوالتْ، وذهبتْ لحال سبيلها بدون رجعة..!
شارل بودلير وأزهاره
كان" بودلير" يكره الليل،لأنه كانت تقوى فيه عليه وتتفاقمُ آلامُه المُبرحة،كانت تتراءى له فيه هوّة عميقة ،حالكة ، سحيقة، لا قعر، ولا قاع لها أودت به فى آخر المطاف إلى التّوى، ثمّ فى جُنحه حاق به الرّدى،فقد كان يشمّ فيه- كما كان يقول- رائحة القبور.أواني الورد لديه، ومزهريّاته لا تكلّل سوى ب" أزهاره الشرّيرة" الملعونة، وهو معذورٌ على كلّ حال ، فهو فنّان معنّى، ومُبدعٌ معذّب، وعليل لا يشاطر الناسَ، ولا السّامرين شغفَهم بالليل، وهيامَهم بحلكته،إنه نقيضُهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه.
طاغور.. ترتيلةَ اللاّشئ
وهذا "طاغور"العظيم في " إنتقام الطبيعة" نراه يؤكد أنّ إنشطارالليل والنهار لايهمّه،ولا إنقسام الشهور،ولا الأعوام ، فتيّار الوقت عنده قد توقّف ، يرقص الزّمنُ على أمواجه، و يتمايل القشّ و تميس الأغصان،هو وحيدٌ تراه، مُجندلاً، كئيبباً، وحيداً في هذا الكهف المظلم المدلهمّ، منغمراً في نفسه ، منهمكاً في ذاته، منهوكاً بفكره ،والليل الأسودُ، الأبديّ، البهيمُ ،ساكنٌ كبحيرة جبلٍ نائيةِ المَدىَ، بعيدةُ الغُور،عميقة القرار، تخافُ عمقَها نفسُه ،الماء ينضحُ، ويرشقُ،وينساب، ويقطر من الشقوق المُبلّلة، وفي البِّرك الناتئة، والغُمُر المُوحلة، والتِّرع الآسنة تسبح الضفادعُ العتيقة ، إنّه حبيسُ ذاتِه ،ينشد ترتيلةَ اللاّشئ... إنّه حرّ.!
تعاقب الليل والنهار
قديماً كانت الأسطورة تقول: كان البدائيّون يبكون أفولَ الشمس ، وغيابَ القمر، وهم يراقبون تعاقب الليل والنهار ،كانوا ينتحبون سدولَ الليل،ذلك أنّ الليلَ كان يسرق منهم الضياء، ويحرمهم من الدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة ، ويبتلع كلّ شئ..والآن تَرَى النَّاسَ يهلّلون لمقدمِ الليل، ويضجرون من وضح النهار،ذلك أنّ الليلَ فى عُرفهم ساكنٌ،راكنٌ هادئٌ، حالم سماوى،لا حرّ ولا قرّ فيه،من أين يأتي الحرُّ، ومن أين يجيئ القرّ ،وهناك العديد من المدفآت،والمبرّدات،ومكيّفات الهواء، والمراوح،والرّيش، والطنافس،والسجاجيد، والألحفة التى بمقدورها التحكّم في قيظ الحرارة، أولسعة البرد حسبما شاؤوا،أوأرادوا،إنّهم مُحقّون في ذك لا ريب ،فالنّهار ليس لهم، إنّه للكادحين، والعسيفين،المُتعبين، الذين يعملون في الحقول، والمغاور، والمعامل، والمَصانع، والمَزارع، والمَقالع، والمَدامع، والمَعادن،أمّا الليل فهو ملك لهم ، أفرأيتَ إذن كيف إنقلبت الآية..؟ أفرأيتَ الآن كيف أنّ النّاس يتشاءمون،ويتثاءبون،ويستاؤون من غياب النّهار، وغروب الشمس..؟! ،
تفاقمتِ الحروبُ
الكلّ يصيح ،والكلّ يرقص طرباً ،ويضحكُ جذلاً بفرحة مَقدم العام الجديد،منتشياً، ومغتسلاً ببنات الدّوالي والكروم، وبهاجس إنسياب الزّمن، وزواله وإندثاره، فتنضحُ عنه ،ويستبشرُ بها خيراً في إستقبال العهد القادم المهروِل، تُرىَ ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه هذا اليعسوب الأثيريّ الطنّان الذي لا يتوقّف عن الزَنِّ والتحليق منذ الأزلْ، ولم يزلْ، تُرىَ ماذا يُخفي في طيّاته وثناياه..؟ أَ شَهْداً حُلواً مُصفّى وتَمْرَا..؟ أم حنضلاً مُرّاً وصِبْرا..؟ الكلّ ينشد السعادةَ،والهناءةَ، في عالمٍ مشحونٍ بالرّداءة،والكآبة، والشّقاء.
تفاقمت الحروب ، وزادت نارها، وإشتعل أوارها،وحمي وطيسُها، نمتْ وإستشرت الفِتنُ، والقلاقلُ، و وتفجّرت الثوراتُ في مختلف أصقاع المعمور ، وفي أماكنَ بعينها من العالم ما زالت رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الكريهة وستظلّ إلى أجَلٍ غيرِ معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيثُ القومُ الذين وُهِموا بالهداية والنّصر،ما برحوا يحتسون نُخبَ العام الجديد في جماجم بشرية ، أنا، وأنت، وهو، والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرضُ الطيّبة ..إنها حيث يتسلّل الصيّادون ليلاً بفِخاخ البشر،وحشيتُهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً ..هكذا يقولون، كفانا هُراءً، وهرطقةً، وزندقةً، وتفلسفاً،وإفلاساً، وتذمّراً،وتنمُّراً، وتنطّعاً، وشكوىَ ، فلنعانقْ، ولنعاقرْ ولنحتفِ، ولنمحِ من ذاكرتنا كلَّ شئ، ولو إلى حين،ولنجعلْ بيننا وبين الأحزان، والأشجان،والأدران برزخاً واسعاً،وهوّةً سحيقة عميقة.
عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي
الشّاعر البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) الذى عندما وضع يوماً عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه الضّخم فى الأزهر وإنصرف، وَضَعَ معهما كذلك كلَّ همومِه وأحزانِه ،وأتتهُ الجرأةُ، والجَّهر بالحقيقة..حقيقة الموقف الفادح، فصاحَ ذاتَ يومٍ والخلاّنُ يمرحون، والإخوانُ يصيحون مهنّئين إيّاه :" كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل .. صحّ النّوم "فصاح فيهم منشداً، مغتمّاً،مهموماً، كئيباً، حزينا :عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي/ عُدْتَ يَا أيّها الشقيّ .. الصِّبا ضَاعَ من يدِي/ وَغَزَا الشَّيْبُ مَفْرِقِي .
الشّاعر المُعنّى كامل الشنّاوي، فى رحلة عمره ، كان فى كلّ خطوة من خطواته يشبّ فى قلبه حريق، ويضيع من قدمه الطريق، كان صادقاً مع نفسه، ومع خلاّنه،ومع إخوانه،ومع واقعه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناسَ في عُرفهم ،إنّه يتوجّس خيفةً وهلعاً ورهبةً من هذا اليوم ،لأنّه يعرف مدَى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين،فهو لم يُخْفِ وجهَه،ولم يُدارِ مُحيّاه في الرِّمال كما فعل غيرُه، وإنساق وراء القطيع ،بل إنّه رفع رأسَه، واشرأبّ بعنقه عالياً،سامقاً، ليُدينَ الزَّمنَ القاهر، الذى لا يتوقّف عن الدَّوَرَان حتى يصادف اليومَ المشهودَ الذي زُجَّ به بدون إستشارته في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العُنف، والعَنت،والتنكيل، والشقاء، والمُعاناة. ولئن قُرِنَ الكلامُ هنا بعيد ميلادِ شخصٍ، فذلك لأنَّ له إرتباطاً وثيقاً به، وفيه مَعنىً متقارب جدّاً بالنسبة لإنقضاء عام، وقدوم آخر،هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا، أو للبشرية جمعاء،ذلك أنّ كثيرين منّهم يشتركون في الإحتفال، والإحتفاء به جماعةً في كلِّ مكان، ففيه ترتفع الأهازيجُ، وتعلو أصوات الشّدو، والطرب، والغناء، والسّماع، وصلةُ كلّ هذه المعاني هي إلى الألمِ، والحزنِ، والأسى، والشّجن أقربُ منها إلى الفرح، والمرح ،والسعادة،والجّذل، والغِبطة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادوْن في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سُعداء ...وقد يكون صنيعُهم ذاك من باب الإنتقام، وإغتنام الفرص وَعَمَلاً بنصيحة " الخيّام " القائل في هذا القبيل أن تمتّع بيومك قبل غدك،فمن أدراك أنّك راءٍ أو مُدْرِكٌ هذا الغدَ المجهول،أو من باب : الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ / ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا .
إنّه كلام يتناثر،ويتطايرفي الفضاء ،تماماً كما تناثروتطاير في القديم كلامُ مَنْ شَيّد في أخيلته مُدناً فاضلة ،وأقام فيها صروحاً وقصوراً ولكن العدالةَ ظلّت فيها طائراً حسيراً، كسيرَ الجناحين يحلّق بالكاد حولها، لا يَشمُّ سوى رائحةَ الظلم،والعنت،والتفاوت في كل مكان، واليومَ لم يعد ثمةَ أناس من هذا النّوع،فقد أصبحوا في عُرف الآخرين شبيهين بالحَمْقى أو بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام،والأحلام، والخيالات،والترّهات التي لا طائلَ تحتها . بل ربّما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم مختلفَ ضُروب البّؤس، والتعاسة، و الضنك،النكد، والحرمان ،بعد أن كسدت أسواق الفكرالخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة في كلّ شئ،فى دنيا الفنون، والجنون، والمجون من كل ضرب، ربّما كان هؤلاء أكثرَ حظّاً، وجَدّاً ، وحُظوةً من أولئك في الحياة الرّغدة.
حافظوا على الطبيعة !
ألا ترى الناسَ هذه الأيام، وفي هذه التواريخ بالذّات يهيمون مُسرعين،ومُهرولينً، يذرعُون الشّوارعَ، ويجوبون الأزقةَ والدّروبَ، يجرون عاجلين فوق البسيطة، ويزحفون تحتها، ويطيرون فوقها في الفضاء اللاّمتناهي الفسيح، ويغوصون فى أعماق البحار، وفى أغوارالمُحيطات، ويتزلّجون فوق لججها وأمواجها، ويقطعون الصّحارى والقفار؟، والمَفاوز،والمهامه، والآكام،والآجام،.إنّهم يتسارعون على غيرِ هُدىً منهم، وعلى غير عادتهم، يُسرفون، ويبذرون،يقتنون الحاجيات، والآليات، والمأكولات، والمشروبات، والهدايا،والهبات بِشَرَهٍ وَنَهَمٍ وبدون حساب، ويقتلعون شجيراتِ الصّنوبر الغضّة،ويجلبون أغصانَ الأَرز اليانعة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأطوارالعصيبة التي يجتازها العالَمُ المتحضّر،والمتصحّر أو فى طريق التصحّر..! وتماشياً مع سياسات الحفاظ على البيئة، وإحترام الطبيعة، وَصَوْن الأدغال والغابات، و الدفاع عن المحميّات الطبيعيّة، والإيكولوجية من كلّ نوع، بل نحن في حاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لنستظلَّ بظلالها ،ونستمتع برونقها، و ننعم ببهائها، وببساقتها،وبساتنها، ونضارتها، وجمالها الخلاّب . كم أنتَ قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمحُ لنفسك ؟ وكيف يتمادى بك الغيُّ، ويبلغُ بك الغرورُ لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الكُبْرىَ، وتقتل، وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشّجيرات البريئة لتجعلها زينةَ، وقتيةَ، عابرة في منزلك، تغمرها بالباقات، والبطاقات،والياقات،والورقات، والأضواء، والألوان ،لتطوف حولها وأنت ثملٌ عديم الإحساس بها، وبما، وبمن حولها في لحظاتٍ كان أجدرَ بك فيها تعميق فكرك،وإعمال نظرك فيما يدور حولك ويمور من أمور،وما يجري فى هذا العالم من رزايا،وخطايا،وقضايا، وأهوال، وويلات .البشريةُ التي غزا الشيبُ مفرقَها كذلك مثل شاعرنا المكلوم إيّاه، وأضاعت عمرَها هباءً منثوراً في ويلات التقاتل، والتطاحن، والتشاكس، والمواجهة، والمعاداة، والبغضاء.لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعثُ اللّوعةَ، والحزنَ، والضّنكَ في الأنفس الملتاعة المعنّاة.،وظلمُ البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطولُ حتّى الطبيعةَ،أمّنا الأولى، ومختلفَ الكائنات الحيّة المحيطة بها ، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء و" العُقلاء"! الذي يقتلع الأشجارَ ويصنح من لحائها ورقاً ويكتب عليه : ( حافظوا على الطبيعة..!) وهو الوحيد الذي يقتلُ فقط للإستمتاع وإشباع رغبة الإنتقام في نفسه الآمرة،أو الأمّارةُ بالسّوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظّمة، وغيرالمنظّمة في عالم الصّيد، والقنص، والطّرد .
أيّامٌ تمرّ وليالٍ تنقضي
هناك من السّنين ما تنطبع أحداثُها في أذهاننا ،وتسكنُ وجدانَنا ولا نجد لها أو منها مناصاً ،ولا فكاكاً،في حين أننا نمرّ بأعوامٍ، أوبالأحرى تمرُّ بنا أعوامٌ لا نقيم لها وزناً، أوحساباً، ولا نعيرها أهميّة وإهتماماً،وكأنّنا لم نعشها قط ّ من أعمارنا ،قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمنُ فيما نقدّمه خلالها من أعمال،وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت.
ما إنفكّت الحضارةُ المعاصرة تحملُ إلينا عشرات المفاجآت كلّ يوم ، فما كنّا نخاله بالأمس خرافةَ أضحى اليومَ حقيقةَ ماثلةً حيالَ أعيننا،وما كنّا نظنّه أسطورةً أضحى اليوم واقعاً ملموساً نصبَ أنظارنا ،وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام ، تماماً كما كان أجدادنا يفعلون، فذاك عندهم كان عامَ الطوفان،وعامَ الفيل ، وعام ولادة السيّد المسيح ،وعام الهجرة النبوية الشّريفة،وعام الفتنة..وما أدراكَ ما الفتنة،وعام الحملة النابليونية على مصر، وعام المجاعة، وعام الفتح،وعام النهضة إلخ ، وها قد أصبحنا نقول نحن اليوم كذلك كما كان أجدادنا يقولون ..هذا عام إندلاع الحرب الكونية، وذاك العام الذي وضعت فيه الحربُ أوزارَها،وتينك كانت سنة وعد بلفور المشؤوم، وأعقبه عام النّكسة اللعين، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصّعود الى القمر، وعام الهبوط منه..! وعام مهازل ويكيليكس،وعام التسونامي،وعام الإيبولا،وعام الظلام.. وعام الرّبيع العربي... وخريفه،وشتاؤه وقيظه كذلك...!
منتصف الليل على مشارف المَجْهُول
دقّات ساعة مُنتصف اللّيل..إطلالةٌ أو إيذان بدنوّنا من مشارف المجهول، وَوَقْعُ خطواتٍ على مجاهيل، وغياهب عتبات عام جديد،لابدّ أنّه يحمل في طيّاته، وثناياه كثيراً من التخوّفات، والتوجّسات، والتساؤلات،والإستفسارات، والإرهاصات، و الآمال،والتطلّعات، والآلام معاَ،إنها لعبة الجَدّ، أوالحظّ كما وصفها أبو الطيّب المتنبّي ذات يوم، التي تبتسمُ حيناً في وجه هذا، وتكشّر طوراً في مُحيّا ذاك، وهكذا حتى تفضُلَ فيه العينُ أختها، أوحتى يكون فيه اليومُ لليومِ سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي ،لقد ودّعنا فيك،وخِلاَلَك، ومعك بألمٍ مُمضّ صفوةَ من أصدقائنا، وثلّة من أحباّئنا، وخلاّننا ،ومعارفنا ممّن كنّا نتعايش معهم ،وكانت تربطنا بهم علائقّ حبٍّ، ونسجنا وإيّاهم عُرى مودّة وإخاء، وأقمنا معهم وشائجَ صفاء، ونقاء، ووفاء. فواعاماه... وواحسرتاه عليكَ أيّها الحَوْلُ النّكد ... وتبّاً لك أيّتها الأيّام، بل أيّتها الأعوام لقد تأسّى من قسوتك، وتشكّى من فداحتك، السّابقون، وها أنتِ ما فتئتِ تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلكِ ظهورَنا، وتتوالين مُهرولةً غير عابئةٍ، لا تلوين على شئ، مُنثالةً، مُسرعةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مُخيفاً،وتعصفين بحياواتنا عصفا مُريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل،ونتأمّل،ونرفع رؤوسنا، ونجيلُ بأعيننا إلى السّماء نحدّق فيها بإمعان، كأننا نستلطفها، ونستعطفها أمراً مّا كامناً في كنه أنفسنا، وفى أعماق أفئدتنا، وفى قرارة وجداننا ، في مطلع هذا الحَوْل الجديد الذي ها هو ذا يدنو منّا رويداً رويداً،ووئيداً وئيدا،.. ويكادُ يطلّ، ويهلّ علينا خجولاً من وراء الغيب السّرمديّ، وألسنةُ حالنا وأحوالنا تتوقّف برهةً ، حتى نمعن النظر ،ونعمل العقل فى هذه اللحظة الحاسمة الفارقة بين عام فات ، وعام آت، ألم يئن وقتُ تلاوة ترانيم مباركة لنردِّدَ مع "آغا ممنون" المنكود الطالع، والخائب الظنّ، والبَّخْس الرّجاء، وتقول بصوتٍ جهوريّ : ألا ليْتَ هذا اليَأسُ يَتْلُوهُ الرّجَاء / ألا ليْتَ هذا العَامُ يأتيِ بالضّيَاء. وداعاً عاماً مَضىَ بِثِفالِه.. ومرحباًعاماً أقبل بآماله! ..!.
*كاتب، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.