يحدث في تونس هذه الأيام: تتقدم إلى موظف الحدود بالمطار فيعلمك بكل بساطة بأنك ممنوع من السفر. لماذا؟ لا جواب. من اتخذ القرار؟ لا جواب. هل لديك نسخة من القرار؟ لا جواب. هذا طبيب يصطحب أحد المرضى للعلاج بالخارج فيمنع من المغادرة، ولأنه لم يصدّق ما جرى أعاد الكرة بعد بضعة أيام فإذا به يواجه نفس الإجراء. صحافي شهير ومتقاعد اقترح عليه أحدهم السفر إلى الخارج قليلا لتغيير الجو صحبة زوجته لكنه رد عليه بالقول إنه لن يتحمّل أبدا في مثل هذا العمر احتمال أن يتعرض إلى الإهانة ويرد على عقبيه من المطار. الأمر لا يتعلق بملاحقين قضائيا وإنما ببعض المواطنين الذين لهم مكانتهم في المجتمع، ومن لم يُمنع منهم من السفر تعرّض لبعض الإحراج، كتركه ينتظر قليلا للتأكد من وضعه، حتى وإن كان الكل يشيد للإنصاف بالتعامل المحترم لأعوان أمن المطار الذين قد لا يكونون بدورهم على اطلاع بخلفيات القرارات التي يبلغونها للناس. الحديث لا يتعلق كذلك بما تمت معرفته من أن كل نواب البرلمان الذي علّق الرئيس صلاحياته وأسقط الحصانة عنهم ممنوعون من السفر، ولا بالعدد الكبير من القضاة ورؤساء أندية رياضية ورجال أعمال ووزراء ورؤساء بلديات وكل ذلك بقرار من رئاسة الجمهورية تحت بند «الاجراءات الاستثنائية» المبهم والمفتوح. وإذ كان كثير من الشخصيات فضلت عدم كشف أنها ممنوعة من السفر خشية التنمر والتشهير اللذين باتا «خبزا يوميا» للكثيرين خاصة على موقع «فيسبوك» فإن نوابا من البرلمان ممن تعرضوا لهذا الإجراء نددوا به، وكذلك فعل القضاة الذين استنكروا في بيان لهم «الاعتداء المجاني والفظيع وغير المسبوق على حرية القضاة في التنقل والسفر كبقية المواطنين في غياب أي إجراء قضائي يمنعهم من ذلك» و«ما يستتبعه ذلك من تمييز ضدهم وإهانة ووصم جزافي لهم ولصفاتهم». طوال سنوات حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ودخوله في مواجهات مختلفة مع عدة قطاعات، كثيرا ما لجأ إلى منع السفر كسلاح سياسي، وكذلك الحرمان من جواز السفر، لكن كليهما تم في حدود معروفة للجميع لأنه ظل في الغالب ضد معارضين دخل معهم ودخلوا معه في معركة كسر عظام، في حين أن ما نشهده اليوم هو تعميم منع السفر حسب قطاعات معينة وأصناف مهنية محددة دون تمحيص أو تعليل وبالتالي فهو أمر فعلا غير مسبوق. لكل ذلك دعت «منظمة العفو الدولية» الرئيس التونسي إلى إنهاء حظر السفر على عشرات المسؤولين في البلاد واصفة إياه بأنه «خارج الأطر القضائية» مؤكدة أن على السلطات «إنهاء استخدام حظر السفر التعسفي واحترام حرية التنقل» على النحو المكفول بموجب المواثيق الدولية. الرئيس التونسي لم يرد سوى بالقول إنه لا ينوي تقويض الحق في حرية التنقل لأنه «مكفول بموجب الدستور والمعايير الدولية» مؤكدا بأنه «لو كانت النية تتجه فعليا لحرمان التونسيين من السفر إلى الخارج لتم إغلاق الحدود الجوية والبرية والبحرية» مشيرا فقط إلى أن ما يجري لا يعدو أن يكون «بعض التدابير الاستثنائية لأشخاص مطلوبين للعدالة» داعيا إياهم «لتسوية وضعيتهم لدى القضاء» مع أن الكل يؤكد استحالة اللجوء إلى القضاء لإبطال تلك الإجراءات في غياب أي قرار رسمي مكتوب يمكن الطعن فيه. وطالما أن الوضع السياسي برمته في تونس استثنائي وغير مسبوق وضبابي في نفس الوقت، فلا أحد يدري كذلك إلى متى يمكن أن تستمر اجراءات منع السفر هذه، فلا القضاء في وارد نقضها لاستحالة ذلك عمليا ولا قدرة للمشمولين بها فعل أي شيء، في الوقت الحالي على الأقل. من بين هؤلاء من تعطلت مصالحه أو تفرقت عائلته كذلك النائب في البرلمان الذي يمثل التونسيين في الخارج والمقيم في فرنسا لكنه منع من العودة إلى هناك. كان لافتا ما صدر عن وفد الكونغرس الذي التقى الرئيس سعيّد مؤخرا تأكيده أن «الولاياتالمتحدة ستواصل دعم الديمقراطية التونسية التي تستجيب لاحتياجات الشعب التونسي وتحمي الحريات المدنية وحقوق الإنسان» وكذلك ما ورد في بيان سفراء مجموعة الدول السبع بتونس من إشارة إلى «الالتزام العام باحترام الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لجميع التونسيين وباحترام سيادة القانون»... مما يدل على أن هذه المواضيع باتت مقلقة ويخشى أن يتم تدويلها. من مصلحة الرئيس قيس سعيّد، ومصلحة تونس كلها، الإسراع بإغلاق قوس التدابير الاستثنائية والعودة إلى الحوار بين كل الفرقاء والفاعلين لترتيب ملامح المرحلة المقبلة وما تستلزمه من تعديلات يراها الجميع ضرورية في القانون الانتخابي، وحتى في الدستور، والاتفاق على أي خطوة مثل انتخابات برلمانية سابقة لأوانها ولكن في كنف التراضي على عقد اجتماعي وسياسي جديد بعيدا عن الشعبوية والشعارات وتصفية الحسابات خارج القانون. لا شيء غنمه التونسيون طوال العقد الماضي سوى الحريات وابتعاد الخوف من السلطة الباطشة والظالمة ومن الغبن عودة مثل هذا الشبح المقيت. *عن القدس العربي