تشكل انتخابات سبتمبر 2021 ثالث الاستحقاقات في ظل دستور 2011 الذي غذى الآمال في إحداث تغيير حقيقي يجعل من الانتخابات لحظة حاسمة للارتقاء بالتجربة الديمقراطية الفتية إلى مستوى أفضل ، وإعطاء الناخبين المغاربة فرصة حقيقية لأجرأة مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي ينص عليه الدستور . وحتى تكون لعملية التصويت دلالتها الحقيقية لدى الناخبين وتسمح لهم بإحداث الفرز الحقيقي بين الأحزاب ، خاصة التي تحملت مسؤولية تدبير الشأن العام ،فإن محاسبة هذه الأخيرة بناء على ما تم تنفيذه من البرامج الانتخابية التي خاضت بها حملاتها لكسب ثقة وأصوات الناخبين ، هي التي تعيد للمؤسسات مصداقيتها. للأسف لا شيء من هذه المحاسبة تحقق ، إذ أخلف الناخبون الموعد كما أخلفه مقاطعو الانتخابات مهما كانت مبرراتهم ودوافعهم . ذلك أن الدستور ، وهو التعبير عن الإرادة العامة للشعب في لحظة تاريخية مميزة ، خصوصا لما يحظى بموافقة غالبية فئاته الراشدة ، لم يتم تمثله بالقدر المطلوب في العمليات الانتخابية . فحين تتسع قاعدة المقاطعين للانتخابات أو يتردد أغلب الناخبين في ممارسة حقهم الدستوري المتمثل في المحاسبة ، يكون هؤلاء جميعا مسؤولين إلى حد ما في تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تسببت فيها التجربة الحكومية . ولعل الشاهد هنا هو تصدر حزب العدالة والتنمية للانتخابات عام 2016 ، وهي الانتخابات الثانية في ظل الدستور ، رغم الكوارث الاجتماعية التي جرّتها تجربته الأولى على رأس الحكومة ( إفساد نظام التعاقد ، تحرير أسعار المحروقات الذي نتج عنه الارتفاع الصاروخي للأسعار ، ضرب القدرة الشرائية ، فرض التوظيف بالتعاقد ، إلغاء الترقي بالشهادات الجامعية ، الرفع من نسب الضريبة ، تقليص ميزانية الاستثمارات العمومية وميزانية قطاعي الصحة والتعليم ...).ولعله من حسن حظ المغاربة أن تقرير لجنة النموذج التنموي جاء ينبههم إلى الحصيلة الحكومية برئاسة البيجيدي قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات ، ويقدم لهم المعطيات الكافية للحكم بالفشل على تجربة هذا الحزب في تدبير الشأن العام وكذا الوفاء بوعوده وشعاراته الانتخابية بتحسين الأوضاع الاجتماعية ومحاربة الفقر وتجويد الخدمات . فبحسب التقرير ( فإن الفوارق الاجتماعية لا زالت في مستوى مرتفع في ظل سياق يتسم بضعف الحركية الاجتماعية وبعجز في إدماج ، بعض الفئات من السكان ، وبكون الحماية الاجتماعية لا تزال في بدايتها. وتواجه الطبقة الوسطى تراجعا ملحوظا في قدرتها الشرائية بسبب التكلفة العالية لخدمات التربية والصحة المقدمة من طرف القطاع الخاص كبديل لضعف جودة العرض العمومي لهذه الخدمات)(ص 27). إن حزب العدالة والتنمية لم يكتف بالإجهاز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للموظفين والمأجورين وعموم الشعب المغربي بمن فيهم المقاطعون ، بل وفّر الحماية السياسية والقانونية لناهبي المال العام عبر قرار "عفا الله عما سلف" الذي اتخذه رئيس أول حكومة في ظل دستور 2011 ؛ الأمر الذي شجع على الفساد والنهب والتهرب الضريبي وتهريب الأموال . رغم كل هذه الجرائم في حق الشعب المغربي وماليته العمومية ، تصدّر البيجيدي الانتخابات وتولى رئاسة الحكومة لولاية ثانية ؛ وهاهو اليوم يراهن على الولاية الثالثة دون أن تنازعه شكوك في أن يفقد رئاسة الحكومة(صرح أحد قياديي الحزب بأن الشعب المغربي لازال بحاجة إلى حزب العدالة والتنمية ،وأن "البيجيدي يملك من التجربة و الكفاءات لتنزيل النموذج التنموي الجديد" ). إن مسألة تخليق الحياة العامة باتت مطلبا ملحا لعموم المواطنين الذين باتوا مقتنعين بأن التصدي الصارم للفساد بكل مستوياته هو المدخل الأساس لأي تنمية . وقد شدد تقرير لجنة النموذج التنموي على لسان المواطنين دعوتهم إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة (يدعو المواطنون الذين تم الاستماع إليهم إلى ترسيخ حكامة ناجعة وفعالة ترتكز على أدوار ومسؤوليات محددة بكامل الوضوح. وتولي الانتظارات أهمية بالغة لتخليق الحياة العامة، وللمكافحة الصارمة للفساد والامتيازات غير المستحقة ولحالات تنازع المصالح. كما أن الربط بين المسؤولية والمحاسبة يبقى في نظر المواطنين ضرورة ملحة .(ص37). هذه مسؤولية الدولة التي لا ينبغي لها مجاراة التهاون الحكومي في محاربة الفساد ولا التستر على تواطؤ رئاسة الحكومة مع ناهبي المال العام بتجميد عرض الملفات التي أعدها قضاة المجلس الأعلى للحسابات على القضاء ، أو مطالبة النيابة العامة بوقف المتابعات في حق البيجيديين الفاسدين إلى ما بعد الانتخابات. فالنيابة العامة ، من حيث كونها مستقلة عن وزير العدل أو رئيس الحكومة ، هي مطالبة بالتصدي لجرائم المال العام بنفس الفعالية التي تتصدى بها للملفات الجنحية . فلا يمكن أبدا إقناع المواطنين العاديين بوجود قضاء عادل ونزيه وهو يرى رموز الفساد والنهب يتوالون على تدبير الشأن العام المحلي دون أن يُمنعوا من الترشيح للانتخابات أو يُحاكموا . ذلك أن الإفلات من العقاب ومن المحاسبة ، لا يؤدي فقط إلى العزوف السياسي ومقاطعة الانتخابات ، ولكن يؤدي أساسا إلى فقدان الثقة في كل مؤسسات الدولة ، كما يخلق قناعة وليس فقط انطباعا ، بلا جدوى الدستور والتشريعات والقوانين التي تعجز عن حماية المال العام ومعاقبة المفسدين.لقد كانت كل الشروط السياسية ( دستور يربط بين المسؤولية والمحاسبة ، الخطب الملكية الحاثة على تخليق الحياة العامة وتطبيق القانون ، انتظارات الشعب للقطع مع الفساد والنهب ..) مواتية للحكومة وتسندها إن هي قررت مكافحة الفساد ، لكن الحزب الذي يرأس الحكومة تنعدم لديه الإرادة السياسية في تطبيق الدستور وتفعيل المحاسبة. نأمل أن تكون الفترة الفاصلة بين تقرير لجنة النموذج التنموي وموعد الانتخابات كافية لتقديم الدليل على دخول المغرب مرحلة القطع مع الفساد والإفلات من العقاب وذلك بالبدء بتفعيل مذكرة التعاون بين المجلس الأعلى للحسابات مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة بغرض "تحسين فعالية التصدي للإخلال بواجب الاستقامة والنزاهة في تدبير الشأن العام".