تُمثِّل البُنى الاجتماعيةُ فلسفةَ التحولات الإنسانية على الصعيدَيْن الفردي والجَمَاعي . وكُل تحوُّل في شُعور الإنسان سينعكس على طبيعة العلاقات الماديَّة التي تربط بين المَعنى والوَعْي في المجتمع ، لأن الشعور سابق على المادَّة ، وصناعة الإنسان هي الخُطوة الأُولى في طريق صناعة المجتمع . وفي ظِل هذه التشابكات المعرفية ، تَظهر أهميةُ اللغة باعتبارها منظومةً وجوديةً رمزيةً تَجْمَع بين المَعنى والوَعْي ، وتُعيد صِياغةَ الإدراكِ الحِسِّي والتَّصَوُّرِ الذهني وماهِيَّةِ الروابط الاجتماعية.وإعادةُ الصِّياغة تعني تكوينَ تاريخ اجتماعي يُولَد باستمرار، ولا يتوقَّف عن الحركة ، فالتَّوَقُّف قتلٌ للمواهب الإبداعية ، والجُمود تَحطيمٌ للأنظمة الفكرية في المجتمع . والحركةُ المُستمرة هي الضَّمانة الأساسية لعدم سُقوط الظواهر الثقافية والأنظمة الفكرية في الفراغ والعَدَم . وكُل حركة في المنظومة الاجتماعية ، سواءٌ كانت أُفقيةً ( تتعلَّق بالهُوِيَّات المُكْتَسَبَة إراديًّا ) أَمْ عموديةً ( تتعلَّق بالهُوِيَّات المُتَوَارَثَة لاإراديًّا ) ، تعني تَوليدًا مُتواصلًا للطاقة الرمزية في المجتمع واللغة معًا . والمجتمعُ هو لُغة واقعية ، واللغةُ هي مُجتمع حَالِم . واللغةُ وَحْدَها هي القادرةُ على حَمْلِ الرموز المُنبعثة من شُعور الإنسان بذاته ومُحيطه ، وبناءِ التفسيرات الحقيقية والتأويلات المَجَازية للأنا والآخَر ، وصناعةِ التجارب الروحية والمادية في جسد الإنسان وجسد المجتمع ، وتكوينِ الظواهر المعرفية المُتجانسة ، ودَمْجِها معَ العناصر الفكرية المُتمركزة في جَوهر البناء الاجتماعي . وأهميةُ الطاقة الرمزية في اللغة تتجلَّى في قُدرتها على قراءة ما بين السُّطور . والإشكاليةُ المركزية في الوجود الاجتماعي هي أنَّ الإنسان يَقْضِي حياته لاهثًا وراء الأشياء الاستهلاكية ، ويَنسَى أن يَعيش . ومعَ مُرور الوقت ، يُصبح الإنسانُ شيئًا مِن الأشياء ، وتُصبح مشاعرُه تكريسًا لضياعِ ذاته الوجودية ، وغيابِ صَوته الاجتماعي الفاعل ، وانكسارِ هُويته المُميَّزة بين الثوابت والمُتغيِّرات . والحياةُ الرمزيةُ للإنسان لَيست الفترةَ الزمنية المُمتدة مِن ولادته إلى وفاته ، وإنما هي الفترةَ الوِجدانية المُمتدة مِن حُلْمه إلى جَوهره. والطبيعةُ الإشراقيةُ للمعنى الإنساني وجَدوى وُجوده ، لَيست التفاصيلَ التي يَحْياها الإنسانُ في داخل المجتمع ، وإنما هي التفاصيل التي يَحْياها في داخل نَفْسِه . وكُلَّما تَعَمَّقَ الإنسانُ في فَهْم نَفْسِه ، وإدراكِ أبعادها الداخلية ، استطاعَ إعادة تركيب نظام المشاعر الكامن في أعماقه ، وتَوظيفه من أجل فَهْم أسرار ذاته المُتوارية وراء الأقنعة والاستعارات والتشبيهات والتأويلات ، أي إنَّ الإنسان مُطَالَب بإيجاد صَوته الخاص خارج سُلطة الصَّدى ، والعُثورِ على وَجْهه الحقيقي خارج نُفُوذ مَرايا المجتمع المُتعاكسة . وهذه العمليةُ المُهِمَّة تُتيح للإنسان فُرصة الانتقال مِن أسرار ذاته إلى أسرار العلاقات الاجتماعية ، وتحليل طبيعتها غَير المَرئية ، والانتقال مِن جسد اللغة إلى تجسيدها على أرض الواقع ، وُجودًا ونظامًا وخِطَابًا ومَفهومًا ومَنطوقًا وإلهامًا وإشراقًا ولَفْظًا ومَعْنى . لذلك ، تَخرج اللغةُ _ في كثير من الأحيان _ مِن حَيِّز الوسيلة ( وسيلة الخِطَاب والتواصل ) إلى فضاء الغاية ، وتُصبح اللغةُ غايةً مُكتملةً ، وهدفًا قائمًا بذاته ، وسُلطةً مُكتفية بكِيانها، وزمانًا عابرًا للتناقضات الاجتماعية ، ومكانًا حاضنًا للأحلام الإنسانية . والمُجتمعُ المالكُ لِصَوْته ، والمُتحرِّرُ مِن الصَّدى ، والحاضنُ لرموز اللغة ، قادرٌ على تحويلِ الوسيلة إلى غاية ، وتَقَمُّصِ الأشكال المعرفية المُختلفة ، لأن الرمز كالماء يأخذ شكلَ الإناء الذي يُوضَع فيه . وكُلَّما سافرَ الإنسانُ إلى اللغة وَجَدَ نَفْسَه فِيها ، وَوَجَدَ كِيانَه في كَينونة المُجتمع ، مِمَّا يُشير إلى أنَّ اللغة هي هُوِيَّة الإنسان الوجودية ، وشَرعيته الوِجدانية ، وسِلاحه الرمزي . والجديرُ بالذِّكْر أنَّ منطق اللغة الرمزي لا يتحدَّد وَفْقَ الكلام الذي يَقُوله الإنسانُ ، وإنما يتحدَّد وَفْقَ الكلام الذي يَخاف أن يَقُوله الإنسانُ. وهذا يَكشف المسؤوليةَ الجسيمة المُلقاة على عَاتِق اللغة ، حيث إنَّها مُطَالَبَة بتفكيك العُقَد النَّفْسية في الإنسان ، وتحريره مِن الخَوف ، لأن الخائف عاجز عن الإبداع ، وفَكِّ شِيفرة التحولات الاجتماعية ، ورَبْطِها بالرموز الحاملة لتاريخ الإنسان وأفكاره وذِكرياته وعواطفه وأحلامه وطُموحاته ، مِن أجل التفريق بين الخيال والحقيقة . وإذا نجحت اللغةُ في تحمُّل هذه المسؤولية ، وأدَّت وظيفتها على أكمل وجه ، فإنَّها سَتَحْمي الإنسانَ مِن نَفْسِه ، وتَمنع عمليةَ هُروبه مِن الواقع إلى الخيال ، لأن الخيال موجود لتغيير الواقع ، ولَيس الهُروب مِنه .