في المفهوم كثر الحديث مؤخرا حول النموذج التنموي بالجديد بالمغرب، وسالت فيه أقلام، وكثرت حوله اللقاءات والنقاشات وتكثف بخصوصه السجال العمومي. وهذا أمر لعمري محمود، يجعلنا نستشعر أن الأمة المغربية بخير . ومن وجهة نظري الخاصة كمتابع للشأن العام أنه حين نتحدث عن النموذج التنموي الأمريكي أو الصيني أو الروسي أو الألماني أو الفرنسي، فنحن بذلك نتحدث عن خصائص مميِّزة للمقاربات العامة والتوجهات الكبرى التي تحكم أهداف التنمية ووسائلها وأولوياتها. وبذلك فإن النموذج التنموي يختلف عن المخطط الإنمائي القطاعي، أو حتى البرنامج الحكومي، لأن الأخير مداه أقل وأضيق نوعيا وزمنيا. كما أن النموذج التنموي يختلف عن المشروع المجتمعي لأن الأخير مداه أطول ونطاقه أوسع وسقفه أرحب وهكذا، فإن النموذج التنموي هو في مرتبة وُسطى ما بين المشروع المجتمعي كسقف، وبين البرنامج كأداة لتنزيل النموذج التنموي، زمنيا أو قطاعيا، أو حتى لفترة انتدابية حكومية محددة. هذا المفهوم يدفعنا للتساؤل عن المسار التاريخي لنماذج التنمية بالمغرب. د. عبد النبي عيدودي مدخل تأريخي لنماذج التنمية الوطنية السابقة في سياق النقاش الوطني الجاري حول ضرورة بلورة نموذج تنموي جديد لبلادنا، نحن مُطالبون بمراجعة تامة للتوجهات القائمة التي تؤطر "النموذج التنموي" المعتمَد حاليا. وفي البداية، لابد من التذكير بأن المغرب عرف، منذ الاستقلال، العديد من "النماذج التنموية"، أو على الأصح "نماذج النمو"، حيث تبنى نموذجا قائما على الصناعات التقليدية بعد الاستقلال وحتى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثم تلاه نموذج التقويم الهيكلي بفعل أزمة المديونية الضاغطة إبان الثمانينيات، ثم بعدها الانتقال إلى اعتماد نموذج قائم على الصادرات وعلى الانفتاح الاقتصادي على المستوى الدولي (الانخراطفياتفاقية الكات سنة 1987 وفي المنظمة العالمية للتجارة عام 1995( وتجدر الإشارة إلى أن ما يجمع هذه النماذج الثلاثة هو ارتباطها بالسوق الدولية ورهانها على القطاع الخاص الوطني والدولي. كما أن المغرب تمكن خلال هذه الفترات كلها من تحقيق نسب نمو مقبولة على العموم، لكن من دون أن يتمكن من تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، بشكل مثالي، لأن هذه الأخيرة لا تُختزل في النمو، حيث أن النمو يُقاس فقط من خلال مؤشرات ارتفاع الناتج الداخلي الخام، بينما التنمية، كما هو متعارف عليه، تحرص على إدراج العديد من العوامل الأخرى، كدرجة الاستجابة إلى المتطلبات الاجتماعية المختلفة، والتغيرات البنيوية التي تشمل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والسياسية والمؤسساتية والقانونية. وهذا ما يفسر ترتيب بلادنا على الصعيد الدولي في سُلّمِ مؤشرات التنمية الاجتماعية (المرتبة 126)، وهو ما يؤكد أن نتائج النمو لا يستفيد منها جميع المغاربة بنفس المقدار. فهل النموذج التنموي الحالي قادر على مواكبة التطورات المستقبلية بهذه المعطيات الواقعية و الحالية؟ أم يمكن الجزم بانه استنفذ قدراته؟ النموذج التنموي الحالي استنفذ قدرته لسير بالمغرب نحو المستقبل إن المغرب، رغم نهجه للانفتاح عبر الانخراط في عدد من اتفاقيات التبادل الحر مع عشرات الدول التي توفر نظريا نحو مليار مستهلكاً، إلا أنه لم يستفد من ذلك كما هو مُفترض. إذ أن النمو الذي سجله المغرب لم يتم تحقيقه إلا بفضل الاستهلاك الداخلي، أما الطلب الخارجي فلا يزال سلبيا في ميزان النمو، حيث يسجل الميزان التجاري المغربي عجزا مُزمناً، يتفاقم عاماً بعد عام. إن الاندماج المغربي في السوق العالمية لا يزال مجرد تطلع، فبلدنا لا يساهم إلا بنحو 0.13% من معاملات التجارة الدولية، و0.14% في الإنتاج العالمي، في حين أن نسبة الساكنة المغربية تشكل 0.4% من مجموع سكان العالم. ويرجع هذا الضُّعف إلى نقص تنافسية إنتاجنا الوطني، ومحدودية العرض التصديري. لقد اتسم النموذج التصديري الحالي بالفشل في تحقيق الإدماج الاجتماعي وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، حيث أن الأرقام تعبر عن تنامي الإقصاء الاجتماعي وتوسع هوة الفوارق بشتى أنواعها. والدخل الوطني يعرف توزيعا غير متكافئ، وتستحوذ الباطرونا على 50% من فائض القيمة، في حين لا يحصل المنتِجون إلا على 30%، والباقي يرجع إلى الدولة في شكل موارد ضريبية. مع ملاحظة أن الضغط الجبائي يقع أساساً فوق أكتاف المأجورين وعدد صغير من المقاولات المواطِنة. إضافة إلى ذلك فإن اللاعدالة المجالية تمتد أيضا إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والماء والكهرباء والتطهير السائل. وعليه، فإن النموذج الحالي، رغم حَسناته الماضية، فقد استنفذ إمكانياته الراهنة، ولم يعد مؤهلا للسير بنا نحو المستقبل. فما هي الغايات التي ينبغي السعي إليها في النموذج التنموي البديل؟ ثلاث غايات كبرى ضرورية لأي نموذج تنموي بديل هذا التشخيص أصبح الجميع يُجمِعُ عليه، وأصبح النداء الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل التفكير في نموذج تنموي جديد، هو مرجعنا الجماعي من أجل الإسهام في صناعة هذا المنعطف الوطني، من أجل تجاوز نقائص النموذج الحالي والمرور إلى نموذج بديل أكثر فاعلية ونجاعة وعدالة وإنصاف، اجتماعيا ومجاليا. ومن الأساسي أن يكون النموذج التنموي الذي نفكر فيه قادرا على التوفيق بين ثلاث غايات، وهي: 1. تأمين الاستقلال الاقتصادي يجب أن يُفهم من ذلك أننا ندعو إلى حماية الاقتصاد من المتغيرات الدولية، كما حدث هذه السنة مع جائحة كورونا ، حتى يتحقق التحصين والحماية المستدامة لآليات الإنتاج والتسويق، فلاحيا وصناعيا على وجه التحديد، وللمنتوج المغربي عموماً، واعتماد شراكات دولية متكافئة تحفظ المصالح الاقتصادية للدولة والمقاولة بالمغرب. وكذلك نريد بالاستقلال الاقتصادي ضمان الأمن الغذائي والمائي والدوائي والطاقي على وجه الخصوص. * تحسين ظروف عيش المواطنين ويمكن إجمال ذلك في ضرورة إعطاء المكانة لمفهوم الدولة الراعية، لا سيما على مستوى تعميم التغطية الاجتماعية التي أمر بها جلالة الملك، وتمكين النساء والشباب من الانخراط في حلقات الإنتاج والاستهلاك، ومحو الأمية، والقضاء على البطالة، وإعادة توزيع الثروات الوطنية اجتماعيا ومجاليا، بإنصاف، مع إقرار العدالة الأجرية، وإعطاء الأولوية العمومية للصحة والتعليم. * الحكامة و العدالة المجالية هنا، يجب إصلاح البنيات الإدارية والمؤسساتية والتشريعية والقيمية، وإعطاء دفعة جديدة لمحاربة كافة أشكال الريع والمحسوبية والزبونية والفساد والاحتكار غير القانوني والحد من نظام الاستثناءات، وتفعيل دولة القانون في المجال الاقتصادي، وإعادة النظر في مقاربات الاستهداف الاجتماعي. خمسة مداخل لنموذج تنموي ناجح إن أي نموذج تنموي ناجح، لا بد له أن يرتكز، في نظرنا، على مداخل خمسة، وهي: أولا: عدم الاكتفاء بتنمية الثروات المالية، والالتفات إلى وقع أي قرار عمومي مالي واقتصادي على الإنسان، باعتباره أصل وهدف المجهود التنموي. وبعبارة أخرى ينبغي أن يكون الإنسان محورا، وهدفاً وغاية، وليس مجرد رقم في الإنتاج أو في الاستهلاك. ثانيا: العناية بالثروة اللامادية وتثمينها، والاستثمار فيها، لأن لها انعكاسا مباشرا حتى على أرقام النمو الاقتصادي، حسب كل خبراء التنمية. والاشتغال على الرأسمال اللامادي يحقق فرص شغل عديدة و متنوعة ، ويعطي مردودية جيدة و متميزة في النسيج الاقتصادي التضامني الاجتماعي. ثالثا: ضرورة تخلص القطاع الخاص المغربي من تبعيته شبه المطلقة لاستثمارات الدولة، حيث عليه أن يحقق نموه الخاص، وأن يساهم في المجهود التنموي للدولة التي يتعين أن تتكفل بأدوارها الحيوية والاستراتيجية، لا سيما توفير المناخ المناسب للأعمال والتكفل بالملفات الاجتماعية. رابعا: إقرار مبادئ الحكامة الجيدة، مؤسساتيا وتنظيميا وقانونيا، وردع الممارسات المسيئة للعمل والأعمال، وإحلال الممارسات الفضلى وفرضها وتعميمها على جميع الفاعلين. خامساً: إطلاق جيل جديد من الحقوق المتعلقة بالمساواة بين المواطنين الرجال والنساء، وعلى الصعيد المجالي، وعلى مستوى الأجيال، وفي الأجور، وفي الحظوظ التنافسية بين جميع الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والاقتصادين من خلال إطلاق جيل جديد من مشاريع وبرامج الرقمنة، وتسريع تنزيله لتتحقق هذه الغاية من تكريس المساواة بين جميع شرائح المجتمع. بعد هذا البسط للمفهوم والمسار التاريخي للنماذج التنموية بالمغرب، وبعد تأكد استنفاذ النموذج التنموي الحالي لرصيده في مواكبة التطور والدينامية الإقتصادية والرقمية التي يعرفها المغرب، تظل المداخل الخمس التالية: أولا: عدم الاكتفاء بتنمية الثروات المالية؛ ثانيا: العناية بالثروة اللامادية وتثمينها؛ ثالثا: ضرورة تخلص القطاع الخاص المغربي من تبعيته شبه المطلقة لاستثمارات الدولة؛ رابعا: إقرار مبادئ الحكامة الجيدة؛ خامساً: إطلاق جيل جديد من الحقوق المتعلقة بالمساواة بين المواطنين...تظل أساسية ولابد منها لأجل تحقيق الغايات الثلاث المرجوة والمتمثلة في تأمين الاستقلال الاقتصادي؛ تحسين ظروف عيش المواطنين؛ ثم الحكامة والعدالة المجالية. والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده. * باحث في الشوؤون السياسية - مدير المركز المغربي للقيم والحداثة