الزنقة 56 كانت واحدة من أهم محاور حيّ شعبي رسم تاريخه بمداد العزلة و الضياع و التوهان، حيّ يُدعى دوار المعاضيد بالعاصمة الرباط. هو حديثي بصوت خافت مع التاريخ على ضوء شمعة في زاوية تضمن الجلوس بدفئ المكان في غفلة من الزمان، حديث تضرب فيه اللحظة موعدا مع أحداث و طرائف سجّلها التاريخ لجيل نال حظه الوفير من القسوة و التهميش والإقصاء؛ جيل عاش الصمت و احتمى بصراخ دفين في نفسه، إن هو صاح به أدركت أصواته مسامع الأصمّ. الزنقة 56 تكاد تحضى بهيبة الوقار حيث لا أحد كان يجرؤ على اعتراض طريق أبناء و بنات ساكنيها. هي حارة تحوّلت في يوم من الأيام إلى ملتقى و ملجأ لفُتوات مناطق الحي؛ كانت محور تموضع للشباب الضائع بين أزقة في دوارٍ كانت تسمّى الأيام فيه بعناوين القصص التي تسجّلها اللحظة خلال زمانٍ كادت أن توقفت فيه عقارب الساعة عن الدوران. كنتَ إذا غادرتَ المكان تاركا فلان يتّكئ على عمود الإنارة ( البّوطو)، و لا غرابة حين تعود بعد ساعتين أو ثلاثة لتجده لا زال في مكانه يعانق نفس العمود، و إذا ما حاولت الحديث إليه ستجده مؤهلا ليحكي لك قصة أو أكثر ابتكرها من نسيج خياله مستلهما بما وقع حوله خلال فترة و قوفه و عناقه "للبّوطو". الزنقة لم تكن مآلا لخرّيجي السجون ومحترفي العنف والتسيب فحسب، وإنما كانت قد أفرزت الكثير من الشباب الذي كان يتنفس أملا و لو الضئيل منه و رفض الإنحراف و الجريمة و اتخذ من المدرسة دربا لهدفه المنشود و ذلك على الرغم من قساوة الظروف و بشاعة التنكيل الذي كانوا يعيشونه اليوم تلو الآخر مع غياب التأطير والإهتمام والأمن. للزنقة طقوسها وأهازيجها و ألقاب رصخت في أدهان الساكنة... ألقاب كان الشباب يتهمكون بها على أنفسهم كطريقة للتعبير عن سخطهم على وضع حالهم و غياب إنصاف المسؤولين السياسيين لهم. ولكن وللأمانة فقد خلفت هذه الزنقة المهمشة في غفلة من الزمان مجموعة من الكفاءات في ميادين مختلفة و حملوا راية النضال و رسائل الوعي بخطورة المرحلة و إيفاد التطلع إلى الحرية والتغيير. رأس الزنقة كان بمثابة مسرحا للعديد من الأحداث تخفي تحت طياتها قصص السخرية و النكتة. كان المكان مسرحا أو مدرسة بدون سقف، و أمر ليس منه بُدّ. أكثر ما يمكن أن تتعلّمه فيه هو الحفاظ على البسمة بالرغم من بؤس الأحوال و الإهمال الجائر. من على فضاء رأس الزنقة ألفنا مجموعة من الوجوه كانت حاضرة على الدوام لتذكرنا بحقيقة المأساة والعزلة التي كنا نعيشها، فمن منا لا يتذكر "مامي" وهي تنتشي سجارتها من نوع - فافوريط - وهي تنادي دون انقطاع - حن يا حنان -، ومن منا لا يتذكر "حمّو الكَرّاب" ومغامراته التي لا تنتهي مع أبناء الحي؛ ومن منا لا يتذكر أيضا "نوعا" ذاك الفتى الأشقر الجميل الذي كان معروفا ببراعته في السباحة، والذي كان يعيش واقعا يصنعه بنفسه و لنفسه بعيدا عن حماقات المجتمع الذي كان يحتضنه، ومن منا لا يتذكر "مقهى قرطبة" لصاحبها "سي لحسن" التي كانت المتنفس الوحيد للساكنة في غياب المرافق الثقافية والترفيهية. كانت بيوت الحومة كلها بيوتنا وكانت أمهات الحي كلهن أمهاتنا وكان آباء الحي كلهم آباؤنا. زمان قد لا نفرح و لا نسعد له حيث ولّى. زمان زرع فينا حبّ العفوية و البساطة و حسن النوايا، لكنه زرع في أذهاننا كذلك ذكريات الخوف و الترهيب و البطش و التهميش؛ فتحية صدق و إخلاص و تقدير للجيل الذهبي، جيل السبعينات و التمانيمات، جيل الحي الشعبي و تحية لابن الحي الأخ مصطفى بلعسري الذي احيت كتاباته في نفسي الكتابة عن نوسطالجيا "الزنقة و أولاد الحومة"