لو انك في بلد غربي وجلست في مكان عام ثم وجدت بجوارك رجلا عسكريا بزيه الرسمي ستجده محل احترام الناس جميعا ولربما اجتمع حوله الأطفال يتبادلون معه الحديث بإعجاب ويلتقطون معه صورا تذكارية. هذا الاحترام العميق للعسكريين يعود إلى حقيقة انهم يدافعون عن الوطن بكل شجاعة وقد يخوضون الحرب ويفقدون حياتهم في أي لحظة حتى ينعم المواطنون في بلدهم بالأمن. في أي دولة ديمقراطية عندما يقاتل الجيش ضد الأعداء ويسقط منه شهداء أثناء المعركة. عندئذ يتم تكريم الشهداء على المستوى القومي وتتخذ السلطات كل الإجراءات اللازمة لتخليد ذكراهم وتكريم أسرهم ومهما بلغ تكريم الشهداء ماديا ومعنويا، فانه بالطبع لا يرقي أبدا إلى مستوى التضحيات التي قدموها. مع تكريم الشهداء يحدث أمر آخر بالغ الأهمية إذ تتشكل لجنة مشتركة من أعضاء البرلمان وقيادات الجيش تكون وظيفتها تقييم أداء الجيش في المعركة وتتم المراجعة الدقيقة لأحداث المعركة والتحقيق مع أطراف عديدة، وذلك بغرض الإجابة على الأسئلة التالية: 1 – هل كانت هناك طريقة لتفادي قتل هؤلاء الشهداء، وهل اتخذ القادة ما يلزم لحفظ حياة المقاتلين؟ 2 – هل تلقى هؤلاء الشهداء تدريبا كافيا يجعلهم متفوقين في المهارات القتالية على القوات المعادية؟ 3 – هل تمت إدارة المعركة بواسطة القادة بشكل احترافي سليم وهل اتخذوا أثناء المعركة القرارات الصحيحة أم أنهم أخطأوا أو قصروا في أداء واجبهم؟ تبحث اللجنة هذه الأسئلة وتجري تحقيقاتها وفي النهاية تصدر تقريرها إلى البرلمان وفيه توصيات محددة تقوم قيادة الجيش بتنفيذها لضمان عدم تكرار التقصير إن كان قد حدث. الاحترام العميق للجيش، إذن، لا يمنع تقييم الأداء في المعارك ولا يمنع أبدا من محاسبة المقصرين والتعلم من الأخطاء التي حدثت في المعركة حتى لا تتكرر. الناس هناك يحترمون الجيش لكنهم لا يقدسونه ولا يضعونه فوق المحاسبة والنقد بل إن اعتزازهم بالجيش يفرض عليهم محاسبته ليظل دائما في أفضل حالة.. هكذا يتعامل الشعب مع الجيش في الدول الديمقراطية، أما نحن في مصر فإننا لا نجرؤ على توجيه كلمة نقد واحدة إلى الجيش ولا نجرؤ حتى على التفكير في تقييم أدائه. لقد أنشأ السيسي جمهورية الرعب في مصر حيث أصبحت كلمة نقد واحدة تكتبها على تويتر أو فيس بوك كافية لإلقائك في السجن سنوات بتهم الإساءة للقوات المسلحة وإشاعة أخبار كاذبة ومساعدة جماعة إرهابية إلى آخر هذه التهم المطاطية الكاذبة التي يستعملها نظام السيسي للتنكيل بمعارضيه.. إن خوف المصريين من القمع إنساني ومفهوم لكن المؤسف حقا أن قطاعا من المصريين قد تم غسل أدمغتهم بواسطة إعلام المخابرات، حتى تشوه وعيهم إلى درجة جعلتهم يعتقدون ان كل من يوجه نقدا لأداء الجيش إنما هو خائن للوطن وعميل للمخابرات الأجنبية. إن هؤلاء المغسولة أدمغتهم يخلطون بين العبودية والوطنية. إن العبد فقط هو الذي يطيع السيد ويهلل له ويسبح بحمده ولا يجرؤ على توجيه النقد لسيده مهما فعل. أما المواطن فهو صاحب البلد وصاحب الجيش ومن حقه وواجبه أن يوجه النقد للجيش ويطالب بتقييم الأداء ومحاسبة القادة إذا أخطأوا. إن جيشنا العظيم يخوض حربا مشروعة ضد الإرهابيين في سيناء ولكن عندما يسقط الجنود شهداء مرة بعد أخرى في هجوم على الأكمنة يشنه الإرهابيون بنفس الطريقة يكون من حقنا أن نسال: لماذا لم يتخذ قادة الجيش الاحتياطات اللازمة لحماية حياة الجنود؟ لكنك إذا سألت هذا السؤال المنطقي ستجد هؤلاء المغسولة أدمغتهم ينهالون عليك بالشتائم المقذعة ويتهمونك بالخيانة مع أن الوطنية الحقيقية تستلزم محاسبة المسئولين عن سقوط الشهداء من جيشنا. إن السبب الحقيقي في الهزائم التي منينا بها هو انعدام المحاسبة للجيش وعدم الكشف عن أوجه التقصير. آخر مرة حاسب فيها المصريون الجيش كانت عام 1950 عندما فجرت مجلة روز اليوسف بقيادة الأستاذ إحسان عبد القدوس قضية الأسلحة الفاسدة التي استعملها الجيش المصري في حرب فلسطين وسرعان ما انتقلت القضية إلى البرلمان وساحات القضاء. منذ استيلاء العسكريين على الحكم عام 1952 وحتى يومنا هذا لم تتم محاسبة الجيش قط، فنحن لا نعرف أي تقييم لأداء الجيش أثناء تصديه للعدوان الثلاثي عام 1956 ولا نعرف أي تقييم لأداء الجيش المصري في حرب اليمن التي استشهد فيها آلاف الضباط والجنود بل إننا لا نعرف حتى اليوم لماذا دخلت مصر هذه الحرب أساسا التي اعترف عبد الناصر بنفسه أنه تورط فيها. حتى نكبة 1967 وهى أسوأ هزيمة منيت بها مصر في تاريخها لم يتم التحقيق فيها ولم نعرف من المسئولين عنها باستثناء محاكمات شكلية أجراها عبد الناصر لقادة الطيران بهدف امتصاص الغضب الشعبي ثم قام بتخفيف الأحكام الصادرة ضدهم بل إن الفريق سعد الدين الشاذالي قائد الأركان وصاحب الفضل الأول في نصر أكتوبر 1973 أكد في مذكراته أنه حذر أنور السادات من تطوير الهجوم لكن السادات أصر على تنفيذه مما أدى إلى حصار الجيش الثالث بواسطة القوات الإسرائيلية. إن واقعة بهذه الخطورة لو حدثت في جيش دولة ديمقراطية لتم التحقيق فيها فورا لكننا اليوم بعد نحو خمسين عاما لم يحدث تحقيق واحد في وقائع حرب 1973. إن محاسبة الجيش حق أصيل للمصريين وهو أيضا واجب عليهم تفرضه الوطنية الصادقة. إذا كنا نحب الجيش ونحترمه فيجب أن نحاسبه حتى نعرف الأخطاء ونتلافاها. هكذا تنتصر الجيوش في الدول الديمقراطية. الديمقراطية هي الحل المصدر: DW عربية