تصور أنك تعمل في شركة وأن أحد زملائك تطاول عليك بألفاظ غير لائقة، عندئذ -غالبا- ستعترض على تطاول زميلك وتوقفه عند حدوده.. لكن ماذا يحدث لو أن رئيس الشركة هو الذي تطاول عليك؟.. هنا يجب أن تحسب الأمر جيدا.. فالذي تطاول عليك رئيس الشركة، الذي يملك أن يرقيك ويزيد راتبك ويملك أيضا أن يخصم من راتبك أو يطردك من العمل.. ستكون بين اختيارين: إما أن تدافع عن كرامتك، مهما يكن الثمن، وإما أن تقبل الإذلال لتحتفظ بعملك. هذه المقدمة ضرورية لنفهم ما يحدث للعاملين المصريين في السعودية.. ليس من حقنا، بالطبع، أن نعمم أو نطلق أحكاما جزافية، كما أننا لا نقصد أي سوء بالشعب السعودي الذي نقدره ونعتز به في مصر، لكننا نتحدث عن آلاف المظالم الموثقة التي حاقت بالمصريين على مدى عقود. أولى وكبرى هذه المظالم نظام الكفيل الرهيب، «الذي تعتبره الأممالمتحدة نوعا من العبودية»، الكفيل يتطفل على جهد الآخرين.. فأنت تعمل طبيبا، مثلا، لكن شخصا آخر يحصل على جزء من راتبك -دون أن يعمل- مكافأة له على أنه سعودي، بل إن هذا الكفيل يمتلك حقوقا عليك ربما لا يمتلك مثلها على زوجته وأولاده.. فأنت لا تستطيع أن تسافر داخل السعودية أو خارجها دون موافقته، وشكوى بسيطة منه قد تؤدي إلى طردك من عملك، وربما إلى إلقائك في السجن.. ويكفي أن تبحث في تقارير منظمات حقوق الإنسان أو في أضابير الخارجية المصرية لتفزعك آلاف الحالات التي تم فيها نهب مستحقات المصريين أو طردهم أو اعتقالهم بغير ذنب. هذا الظلم البين لكثير من المصريين في السعودية استمر ثلاثة عقود للأسباب الآتية: أولا: الفقر والبطالة في مصر.. فالذين يسافرون إلى السعودية قد ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، وهم مستعدون غالبا لتحمل كل شيء حتى يوفروا قوت أولادهم.. الكفيل يشتري جهد الآخرين، ولأنه يملك المال فهو يستطيع أن يغير بضاعته البشرية ببضاعة أخرى. مصريون كثيرون يتعلقون بعملهم في السعودية تعلق الغريق بالقشة، ويتحملون ظروفا ظالمة لأنه ليس لديهم اختيار آخر. منذ أعوام، تم القبض على طبيبين مصريين يعملان في السعودية وحوكما في ظروف غامضة وحكم عليهما بالسجن والجلد.. كتبت آنذاك دفاعا عن حقهما في محاكمة عادلة، فتدفقت عليّ عشرات الخطابات من القراء تحكي لي حكايات محزنة يتعرض فيها المصريون لمعاملة ظالمة ومهينة، على أن الغريب أن بعض القراء كتبوا يطلبون مني ألا أدافع عن الطبيبين المظلومين خوفا من أن تغضب السلطات السعودية وتطرد المصريين من أعمالهم؛ ثانيا: كان نظام «مبارك» نفسه يهين مواطنيه ويعذبهم ويعتدي على حقوقهم، مما يجعل موقفهم غير منطقي ولا مقبول إذا تظاهروا بالحفاظ على كرامتهم في الخارج.. ولأن المجلس العسكري امتداد ل»مبارك» في الفكر والفعل فهو الآن في موقف «مبارك» نفسه.. هل يحق للمجلس العسكري أن يغضب إذا أهين مصري في السعودية أو تم اعتقاله بغير وجه حق، بينما المجلس العسكري ذاته يعتقل آلاف المصريين ويتركهم يقتلون في مذابح متوالية، ويسحل جنودُه المواطناتِ المصريات ويهتكون أعراضهن على الملأ؟!.. هل يمكن للمجلس العسكري أن يصون كرامة المصريين في الخارج بينما هو أول من يهدرها في مصر؟! ثالثا: القانون في السعودية غير مطابق لمعايير العدالة الدولية.. الناس هناك أمام القانون ليسوا سواسية وإنما درجات، كلٌّ وفقا لجنسيته ونفوذه.. القانون الذي يطبق على المصريين في السعودية يستحيل أن يطبق على الأمريكيين أو الأوربيين، والقانون هناك لا يطبق أبدا على أمراء آل سعود الذين يتم استثناؤهم من أي قانون، فهم يفعلون ما يريدونه في أي وقت وبالطريقة التي يريدونها.. هذا المفهوم للقانون، الذي ينتمي إلى العصور الوسطى، لا يجعل المصري يحصل على أبسط حقوقه القانونية في تحقيق قانوني نزيه ومحاكمة عادلة؛ رابعا: بعد حرب أكتوبر عام 1973 تضاعف سعر النفط عدة مرات ليصنع من السعودية قوة إقليمية كبرى، وقد حدث هذا الانتعاش أساسا بسبب حرب خاضها الجنود المصريون ودفعوا حياتهم ودماءهم ثمنا للنصر فيها، مما جعل الرئيس الراحل أنور السادات يطلب رسميا من مجلس التعاون الخليجي أن تكون لمصر وسوريا نسبة ثابتة في عائد النفط، لأن الازدهار النفطي جاء بفضل الله وتضحيات الجنود المصريين والسوريين. لم تتم الاستجابة لطلب السادات، لكن مال النفط الوفير تدفق على مصر في أشكال أخرى، أولها تدعيم الفكر الوهابي المتطرف بملايين الدولارات لأسباب سياسية، فالنظام السعودي قائم بالأساس على تحالف مشايخ الوهابيين مع آل سعود، وبالتالي فإن انتشار المذهب الوهابي في مصر والعالم يؤدي في النهاية إلى استقرار النظام السعودي. النتيجة الثانية لتدفق مال النفط على مصر هي إنشاء شبكة من المصالح في كل مكان ترتبط بالسعودية ارتباطا وثيقا، أينما ذهبت في مصر ستجد مصريين مصالحهم وثيقة مع السعودية، بدءا من العاملين في وسائل الإعلام السعودي إلى مشايخ السلفية الذين يعملون في قنوات دينية سعودية برواتب فلكية، إلى كثيرين من مشايخ الأزهر الذين يقومون بالتدريس في جامعات سعودية، إلى رجال أعمال يعملون مع السعوديين.. حتى مرشحو الرئاسة لا يجرؤ أغلبهم على توجيه نقد حقيقي للنظام السعودي دفاعا عن حقوق المصريين. هكذا كان المشهد طوال حكم مبارك. المصريون يتم الاعتداء على حقوقهم داخل الوطن وخارجه بلا أدنى مساءلة أو حساب. ثم قامت الثورة، فاتخذ النظام السعودي موقفا واضحا ضدها ومارس ضغوطا غير مسبوقة على الرئيس الأمريكي أوباما من أجل إنقاذ نظام مبارك، ثم من أجل منع محاكمته. كان عداء النظام السعودي للثورة طبيعيا لأن إقامة ديمقراطية حقيقية في مصر ستشكل نموذجا للعالم العربي كله وتهدد الحكم السعودي الاستبدادي الذي مازال يقاوم أي إصلاح سياسي حقيقي في بلاده.. في وسط هذا المشهد المتوتر، لم يدرك النظام السعودي مدى التغيير الذي أحدثته الثورة في سلوك المصريين، وقد تجلى ذلك في قضية الأستاذ أحمد الجيزاوي المحامي. «الجيزاوي» محام شجاع ثوري دافع عن ثوار كثيرين أمام المحاكم العسكرية، ثم انتقل إلى الدفاع عن المصريين المعتقلين دون محاكمة في السعودية، مما دفعه إلى أن يختصم قضائيا الملك السعودي نفسه.. ذهب أحمد الجيزاوي وزوجته لأداء العمرة وهو مطمئن إلى أن النظام السعودي لا يمكن أن يعاقبه على مواقفه السياسية، حيث إن الإسلام يعتبر كل من يحج أو يعتمر ضيفا للرحمن لا يجوز لأحد أن يمسه بمكروه، لكن للأسف ما إن هبط «الجيزاوي» في السعودية حتى تم اعتقاله، وقيل لمن سأل عنه إنه سيتم جلده وسجنه لأنه أساء إلى ملك السعودية، ثم مرت عدة أيام قبل أن تعلن السلطات السعودية أنها عثرت مع «الجيزاوي» على أكثر من 21 ألف قرص مخدر.. هذا الاتهام الساذج لا يستحق المناقشة.. «الجيزاوي» مناضل شجاع اعتقل عدة مرات دفاعا عن مبادئه، ما الذي جعله يتحول فجأة إلى تاجر مخدرات؟!.. وهل هو من الغباء بحيث يسافر بهذه الكمية من المخدرات التي يستحيل الخروج بها من مطار القاهرة، حيث يتم الكشف على الحقائب جميعا بالأشعة السينية؟!.. كما أن هذه الكمية من الأقراص يزيد وزنها على 60 كيلوغراما، والوزن المسموح به لا يزيد على 30 كيلوغراما، وسجلات مطار القاهرة تؤكد أن وزن حقيبة «الجيزاوي» وزوجته لم يزد على المسموح به.. ثم لماذا لم تعلن السلطات السعودية عن «حدوثة» المخدرات الخائبة هذه من البداية؟ وأين الفيديو الذي يصور تفتيش الحقيبة في مواجهة «الجيزاوي» (كما ينص على ذلك القانون الدولي)؟ ولماذا تركت السلطات السعودية زوجة «الجيزاوي» وقبضت عليه، بينما حقيبة المخدرات المزعومة تخصهما هما الاثنين؟!.. لقد تم تلفيق التهمة ل«الجيزاوي» بطريقة ساذجة ومشينة. ولعل السلطات السعودية لم تتوقع أي رد فعل مصري جاد؛ فالذي حدث مع «الجيزاوي» قد حدث من قبل مع مصريين كثيرين اعتقلوا وطردوا من أعمالهم ظلما ولم يحدث شيء... إلا أن الثورة أعادت إلى المصريين إحساسهم بالكرامة، فخرجت المظاهرات الحاشدة أمام السفارة السعودية تندد بالظلم وتطالب بمحاكمة عادلة ل«الجيزاوي». المظاهرات في العالم كله وسيلة احتجاج مشروعة عادة ما تستعمل رسوما عدائية ضد المسؤولين، ولو أن هذه المظاهرات حدثت ضد السفارة السعودية في لندن أو واشنطن لما جرؤ النظام السعودي على الاعتراض، لكن أن يتجرأ المصريون على المطالبة بحقوقهم، فهذا شيء لم يعتده النظام السعودي ولم يتقبله.. سحبت السعودية سفيرها للتشاور وأغلقت سفارتها، عندئذ ارتبك نظام مبارك بشدة، فاعتذر «الجنزوري» واعتذر وزير الخارجية الذي سارع القنصل التابع له في السعودية إلى إدانة «الجيزاوي» قبل أن يحضر التحقيق، واعتذر مشايخ الأزهر «لا يعرف أحد لماذا»، بل إن صفحة المجلس العسكري على «فيس بوك» أرجعت الأزمة بين مصر والسعودية إلى الأقلام المأجورة! نظام مبارك الذي مازال يحكم مصر يتصرف على طريقة مبارك.. لقد اعتذرت الدولة المصرية كلها لمجرد أن المصريين تجرؤوا وطالبوا بمحاكمة عادلة لمواطن مصري.. أما الإخوان المسلمون الذين رفضوا الاعتذار عن صفقتهم مع المجلس العسكري وتخليهم عن مبادئ الثورة من أجل مصالحهم، فقد سارعوا إلى الاعتذار إلى السعودية على لسان «الكتاتني»، رئيس مجلس الشعب. العلاقات الوطيدة بين النظام السعودي والإخوان أهم لديهم من كرامة الشعب المصري.. إن الذين يتخلون عن حقوق «الجيزاوي» هم أنفسهم الذين تخلوا عن الثورة المصرية: المجلس العسكري وحكومة «الجنزوري» والإخوان المسلمون.. لم يبق إلا الثورة لتدفع ثمن كرامة المصريين وتطالب بمحاكمة عادلة ل«الجيزاوي». بإغلاق السفارة السعودية ومنع التأشيرات على المصريين، يريد النظام السعودي أن يؤكد حقه في أن يفعل بالمصريين ما يريده دون أن يحاسبه أحد.. هذه رسالة مرفوضة، وعلى الحكومة السعودية أن تدرك أن زمن إهدار كرامة المصريين مجانا قد ولّى إلى غير رجعة. سنظل نؤيد حق «الجيزاوي» في محاكمة عادلة ونطالب بالإفراج عن كل المعتقلين المصريين في السجون السعودية وتعويضهم وأسرهم عن الظلم الذي أصابهم.. إن الشعب المصري، الذي قدم مئات الشهداء وآلاف المصابين من أجل الحرية، لن يسمح بالاعتداء على كرامة مصري واحد داخل مصر أو خارجها. الديمقراطية هي الحل.