يحكى أن أحد الملوك خدعه خياط محتال وأقنعه بأنه سيصنع له ثوبا سحريا عظيما لا يراه إلا الحكماء. اقتنع الملك بمهارة الخياط المحتال وخرج على وزرائه عاريا تماما، وقال لهم: - انظروا .. ما رأيكم في هذا الثوب السحري الذي لا يراه إلا الحكماء..؟! بعض الوزراء خافوا من غضب الملك فقالوا: - هذا ثوب عظيم يا مولاي. وبعض الوزراء كانوا طامعين في عطايا الملك، فقالوا: - يا مولانا، لم نر في حياتنا أجمل ولا أروع من هذا الثوب. كان هناك طفل صغير في القاعة، قال ببراءة: - أين هو الثوب الذي تتحدثون عنه، إني أرى الملك عاريا. حاول الوزراء إسكات الطفل بأي طريقة.. لكزوه ووبخوه وهددوه، لكنه ظل يصيح: - إني أرى الملك عاريا. عندئذ ضربوه وأخرجوه من القاعة حتى يخلو لهم الجو مع الملك. هذه الحكاية التي تناقلتها كتب التراث تحمل معاني كثيرة، فالوزراء الذين يخافون من بطش الملك أو يطمعون في عطاياه يتظاهرون بأنهم يرون ثوبا وهميا ويتجاهلون الحقيقة الساطعة: أن الملك عار، أما الطفل البريء فهو لا يريد شيئا ولا يخاف من شيء، لذلك يقول الحقيقة ويظل مخلصا لها حتى النهاية مهما يكن الثمن.. هذه الحكاية تتكرر الآن في مصر.. لقد قامت ثورة عظيمة خلعت حسني مبارك وتولى المجلس العسكري الحكم في الفترة الانتقالية. استطاع المجلس العسكري، عبر مجموعة من القرارات، أن ينهك المصريين وأن يزرع الانقسام بين القوى الثورية، استطاع المجلس العسكري أن يقرب إليه سياسيين وأحزابا يخافون من بطشه أو يطمعون في رضاه حتى يصلوا إلى الحكم.. الوحيدون الذين ظلوا أوفياء للثورة هم شباب الثورة الذين دعوا إليها ودفعوا من دمائهم ثمن الحرية. هؤلاء الثوريون الحقيقيون يشبهون ذلك الطفل الشجاع الذي واجه الملك العاري بالحقيقة. إن ملايين المصريين الذين نزلوا في الشوارع وواجهوا الموت وقدموا الشهداء ليست لهم مطامع سياسية ولا يريدون شيئا سوى أن يروا بلادهم حرة وقوية ومحترمة . إن هؤلاء الثوار يمثلون أنبل ما في مصر. أكتب هذا المقال من فرنسا حيث جئت لتقديم النسخة الفرنسية من كتابي عن الثورة المصرية. عقدت ندوات في باريس وليون ومارسيليا، وفي كل مكان ذهبت إليه، ووجدت الفرنسيين مبهورين بالثورة المصرية العظيمة. سمعت الفرنسيين أكثر من مرة يقولون إن شباب الثورة المصرية ألهموا العالم كله، حتى إن تأثير ميدان التحرير قد انتقل إلى الحركات الاحتجاجية في كل أنحاء الدنيا. بقدرما أحسست بالزهو كمصري أصابني الحزن عندما جاءت الأنباء بأن مذبحة جديدة يتعرض لها المتظاهرون في ميدان التحرير. ماذا فعل المتظاهرون السلميون حتى يتم قمعهم بهذه الوحشية..؟! هل يعطي المجلس العسكري الفرصة لقيادات وزارة الداخلية حتى ينتقموا من شباب الثورة..؟ هل يمكن في أي بلد في العالم أن يتم قتل المواطنين وإطلاق الرصاص في أعينهم ليفقدوا أبصارهم لمجرد أنهم يعبرون عن رأيهم بطريقة سلمية..؟ هذه جرائم ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي، ولن يفلت المجرمون الذين ارتكبوها من العقاب أبدا. إن المذبحة الجديدة التي ارتكبتها قوات الأمن بأمر من المجلس العسكري إنما تكشف الحقيقة كاملة. واجبنا الآن أن نرى الأشياء على حقيقتها بلا مجاملة ولا تغطية. حقيقة ما يحدث في مصر تتلخص في الآتي: - أولا: المجلس العسكري كان جزءا أساسيا من نظام مبارك، وكان متوافقا معه إلى أقصى حد. لم نسمع قط بأن المشير طنطاوي ورجاله قد اعترضوا على استبداد مبارك وجرائمه، ولم نسمع أنهم راجعوا مبارك في أي قرار اتخذه. المجلس العسكري لم يشترك في الثورة، بل إنه في موقعة الجمل قد ترك البلطجية المسلحين يقتلون الثوار ولم يتدخل لحمايتهم. صحيح أن المجلس العسكري رفض إطلاق النار على المتظاهرين، وهذا موقف وطني وأخلاقي يحسب له قطعا (وإن كان المشير طنطاوي قد عاد وأنكر أنه تلقى أوامر من مبارك بقتل المتظاهرين). يجب أن يكون واضحا للجميع أن الثورة هي التي منحت المجلس العسكري شرعية الحكم خلال الفترة الانتقالية. بعد أن أجبر الثوار مبارك على ترك السلطة، ارتضوا بكامل إرادتهم أن يكون المجلس العسكري وكيلا للثورة ليعمل على تحقيق أهدافها. لكن المجلس العسكري تحول، بكل أسف، من وكيل للثورة إلى سلطة استبدادية فرضت على مصر قرارات وسياسات أدت إلى تعطيل الثورة وإخراجها عن مسارها، واحتفظت بالنظام القديم ومكنته من الانقضاض على الثورة. - ثانيا: المجلس العسكري يحكم مصر حكما مطلقا لأنه يجمع في يده السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبالتالي فهو المسؤول الوحيد عن كل ما حدث في مصر بعد تنحى مبارك. الثورة غير مسؤولة إطلاقا عن أية أزمات تحدث الآن لأنها (الثورة)، ببساطة، لم تتول السلطة حتى تتحمل المسؤولية.. الانفلات الأمني وانتشار البلطجة وارتفاع الأسعار وتدهور الاقتصاد وتراجع السياحة.. كل هذه مشكلات ناتجة عن قرارات خاطئة اتخذها المجلس العسكري الذي يجب عليه الآن أن يسارع إلى تشكيل حكومة ائتلافية من القوى الثورية تتولى تسيير الأمور حتى تأتي الانتخابات بسلطة مدنية منتخبة. - ثالثا: بينما يتبنى المجلس العسكري سياسة قمعية عنيفة ضد الثوار نجده في نفس الوقت رقيقا وحنونا إلى أقصى درجة مع كل المنتمين إلى نظام مبارك، ومعظمهم من كبار القتلة والمجرمين واللصوص.. فالضباط الذين قتلوا مئات الشهداء وأصابوا آلاف المصريين خلال الثورة والوزير السفاح حبيب العادلى بل وحسني مبارك نفسه، كل هؤلاء ينعمون بمحاكمات عادلة أمام قاضيهم الطبيعي، يتمتعون خلالها بالحصانات الكاملة وأفضل أنواع الرعاية القانونية والطبية، وبالمقابل يصر المجلس العسكري على إحالة شباب الثورة على محاكمات عسكرية بتهم ملفقة ويلقي بهم في السجن الحربي. إن إحالة المدنيين على محاكم عسكرية مخالف لأبسط قواعد العدالة، وهو ينتهك حقوق الإنسان ويناقض المعاهدات الدولية التي وقعت عليها الحكومات المصرية المتعاقبة. لكن المجلس العسكري يصر على إحالة المدنيين على القضاء العسكري وكأنه يريد أن يحتفظ في يده بسلاح قمعي جديد يضاف إلى جهاز أمن الدولة الذي لازال يعمل بنفس الأسلوب وإن تغير اسمه إلى الأمن الوطني. - رابعا: المجلس العسكري لا يرى الفرق بين النظام والدولة، وبالتالي فهو يعتبر إسقاط النظام القديم هدما للدولة المصرية؛ هذا المفهوم المختلط هو الذي يفسر دفاع المجلس العسكري المستميت عن نظام مبارك الذي لازال قابعا على رأس السلطة في مصر. لقد رفض المجلس العسكري تطهير الشرطة من القيادات الفاسدة ورفض تطهير القضاء من القضاة المزورين ورفض حل المجالس المحلية إلا بعد صدور حكم قضائي ورفض حل الحزب الوطني؛ وبعد أن صدر الحكم بحله سمح المجلس العسكري لأعضاء الحزب الوطني المنحل بتشكيل أحزاب جديدة ليدخلوا إلى البرلمان. بعد عشرة شهور على الثورة، لازال معظم المسؤولين في الدولة ينتمون، قلبا وقالبا، إلى نظام مبارك؛ وبقاؤهم في السلطة يشكل خطرا داهما على الثورة وعلى مصر كلها. معظم الأزمات التي تحدث الآن مفتعلة ومدبرة من فلول نظام مبارك الذين يريدون إشاعة الفوضى وتعطيل التغيير الذي سيؤدي بهم إلى فقدان مناصبهم ومحاكمتهم، بل والقاء معظمهم في السجن. - خامسا: المجلس العسكري في تعامله مع القوى السياسية ليس محايدا ولا منصفا، لكنه يطبق القواعد على البعض ويغفل تطبيقها على البعض الآخر؛ المجلس العسكري يراقب بصرامة مصادر تمويل ائتلافات شباب الثورة ومنظمات المجتمع المدني، وقد اتهم اللواء الرويني، عضو المجلس العسكري، الشبان الوطنيين من أعضاء حركة 6 أبريل باتهامات فارغة عجز عن إثباتها ورفض حتى أن يعتذر عنها.. في نفس الوقت، فإن ملايين الجنيهات التي ينفقها الإخوان والسلفيون كل يوم من أجل الدعاية الانتخابية تمر أمام أعين أعضاء المجلس العسكري، فلا يتوقفون أبدا ليسألوا من أين تأتي هذه الأموال. السلفيون والإخوان -بسبب ما ستكشف عنه الأيام- مقربون من المجلس العسكري، فهو يغض الطرف عن مصادر تمويلهم بينما يناصب شباب الثورة العداء ويسعى إلى تشويه صورتهم عن طريق الإعلام الحكومي الذي لازال على تضليله ونفاقه كما كان في عهد مبارك.. هذا التربص من قبل المجلس العسكري بالثوريين لا تفسير له إلا أنهم يواجهونه بالحقيقة، لا ينافقونه ولا يخافون منه ولا يقبلون التنازل عن أهداف الثورة مهما يكن الثمن.. - سادسا: المجلس العسكري أهدر كرامة المصريين وقمعهم وضربهم وقتلهم وهتك أعراضهم مرارا وتكرارا، سواء عن طريق الشرطة العسكرية أو قوات الأمن. وبعد كل جريمة يتم ارتكابها في حق المتظاهرين السلميين، يقوم المجلس العسكري بإجراء تحقيقات في القضاء العسكري، فيصبح هو الخصم والحكم في نفس الوقت، مما يفقد التحقيقات مصداقيتها، وفي نفس الوقت يتم دفن هذه التحقيقات فلا نعرف عنها شيئا. من الذي قتل المتظاهرين، ومن الذي هتك أعراض المتظاهرات بدعوى إجراء كشف العذرية المهين، وما هي العقوبة التي تم توقيعها على هؤلاء المجرمين..؟! لا شيء، وبالتالي من حق المصريين أن يفقدوا الثقة تماما في عدالة المجلس العسكري. ما يحدث في مصر أصبح جليا وواضحا. إن المجلس العسكري يتبع سياسات ستؤدي، في النهاية، إلى إعادة إنتاج نظام مبارك، ولكن بدون مبارك وأسرته. بدلا من هدم النظام الفاسد وبناء نظام جديد عادل ومحترم، فإن المجلس العسكري يستبقي النظام القديم ويريد أن يقتصر التغيير على إقالة مبارك. إن إجهاض الثورة المصرية وتحويلها إلى مجرد انقلاب قد تم تنفيذه على عدة مراحل، بدءا من تعديل الدستور القديم بدلا من كتابة دستور جديد ثم الاستفتاء الذي أدى إلى انقسام قوى الثورة، ثم تشويه سمعة شباب الثورة والضغط على المواطن المصري بأزمات مفتعلة حتى يتم إنهاكه فيكره الثورة ويقبل كل ما يفرض عليه، وأخيرا المذابح المتكررة من أجل قمع الثوريين وإرجاعهم إلى ما قبل قيام الثورة. على أن الذي لم يفهمه المجلس العسكري أن المصريين بعد الثورة قد تحرروا من الخوف وأنهم لن يذعنوا للظلم أبدا.. واجبنا الآن أن نتوحد جميعا حتى ننقذ الثورة. لا بد من تأجيل كل الخلافات السياسية حتى نعود صفا واحدا ونضغط على المجلس العسكري ليشكل حكومة ائتلافية ثورية محترمة تتولى الحكم، حتى يتم انتخاب سلطة مدنية تتسلم السلطة من الجيش. مصر لن ترجع إلى الوراء. الديمقراطية هي الحل.