ربيع الشعوب العربية هو الحدث الأهم، منذ بداية القرن في العالم، قبلنا قامت شعوب أخرى بثورات مشابهة، نذكر منها دول شرق أوروبا حديثاً بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، ودول أمريكا اللاتينية بعد فترة الحكم العسكري، ولكن أول من حمل إسم «ربيع الشعوب» كانت ثورة الشعوب الأوروبية بالنصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي توجت عام 1848 بثورة شبه شاملة في أوروبا، لم ينج منها سوى روسيا القيصرية. ورغم هزيمة الثورة في معظم هذه الدول، إلا أن التحولات التي تبعتها تدريجيا، أدت إلى انهيار زمن الامبراطوريات والممالك والأمراء، والذهاب إلى زمن الدول القومية ذات السيادة، حيث توحدت ألمانيا وايطاليا وبلجيكا، هذه الدول القومية لم تنه التنافس والتقاتل الذي إستعر في النصف الأول من القرن العشرين، لينتهي بايجاد حل نهائي وهو الإتحاد الأوروبي، المبني أولا على أسس اقتصادية. أما التجربة العربية الحديثة فهي تختلف جذريا عن سابقاتها، بكونها لا تهدف إلى قيام دول قومية، وإنما ديمقراطيات ذات بعد قومي جامع. حراك ثوري عاصف بعد جمود دام عشرات السنين، وبعد مرحلة أنظمة الانقلابيين العسكرية، أو تلك الثورية التي تبعت الاستقلال الوطني بالدول العربية، بدأت الأمة بحراك ثوري عاصف جديد انطلق من تونس ولم يتوقف، مرحلة عنف رد الثورة المضادة والتدخل الأجنبي الصارخ، وما رأيناه من قتل وتهجير الملايين في سوريا وليبيا واليمن والبحرين، كان يهدف لإطفاء الحريق الآتي من تونس. ظن أعداء الثورة، أنهم نجحوا عندما تراجعت الثورة السورية، كما ظن هؤلاء أن تدمير مدن كاملة مثل حلب وحمص والموصل والرقة وصنعاء وعدن وبنغازي وطرابلس، سوف يكون رادعاً فعالاً ونهائياً، خصوصاً في ظل الدعم اللامحدود لقوى أجنبية إقليمية أو دولية، مثل إيران أو روسيا، وسكوت مشبوه للدول الغربية، وتخبط بالمواقف التركية، وهدوء تام على الحدود مع إسرائيل، وعدم الرد على أي من غاراتها على دول محور المقاومة، المُنشغل بإخماد ثورة سوريا. تراجع القضية الفلسطينية، وتوغل الاستيطان، وبلع القدس، هي أيضاً إحدى نتائج ارتماء أنظمة الردة في أحضان إسرائيل، حتى تحميها وتضمن لها الدعم الأمريكي. كذلك الغياب شبه الكامل، لقيادة الحراك الوطني، حزبي أو مستقل، والغياب لأي فكر يُعبر عن تطلعات الناس، بل على العكس، ارتماء هؤلاء المثقفين والكتاب بأحضان الأنظمة والدفاع عنها. كل هذا أظهر عقم الفكر العربي، وعقم القلم العربي، عن مُسايرة الأحداث الجمة، بل عمل على العكس على إفشالها. الثورة المضادة انحسار الربيع لبضع سنوات، سماه البعض فشلاً، خريفاً أو شتاءً، خصوصاً مع انتشار الحركات الإسلامية الفاشية المتطرفة، لصالح قوى الثورة المضادة، فكان من يئس بالكاملً من أي نجاح وانتصار، وكان من أظهر ابتهاجه بالحدث، وتطبيله لحكام الإجرام وأنظمة القتل والبراميل المتفجرة. لم يتصور أي طرف عودة الحراك والثورة، من حيث لا يتوقعون، وبقوة هائلة، جرفت أمامها طغاة الفساد، أمثال بوتفليقة في الجزائر، والبشير في السودان، وبدأت بإسقاط أنظمة الفساد في العراقولبنان، هذه الأنظمة وداعموها، سقطوا في مفاجأة، لم يكن مفكروهم والمصفقون لهم قد توقعوها، فهم يتخبطون ويتوجهون بكل الاتجاهات دون تخطيط ولا تفكير، تجاوبهم مع مطالب الحراك الشعبي، ليس واردا لديهم، بقدر ما يقومون بمناورات المخادعة باهتة اللون، للالتفاف على مطالب الثورة، لكن وعي الشباب الثائر، وتعلمه من دروس الماضي، لم يسمح بنجاح هذه المحاولات، الجارية على قدم وساق في الجزائر، عن طريق انتخابات صورية، أو تلك الجارية في العراق أو لبنان، مع محاولات البعض الخروج بأقل الخسائر. مشكلتهم أن الأمة عن طريق أبنائها بالشوراع والساحات، قد أعادت ترتيبات أوراق أولوياتها كاملة، فلم يعد التناقض الأساسي مع الخارج، أي ضد الاستعمار، وإنما مع هذه الأنظمة نفسها، فالحصول على الحرية، وتأسيس دول ديمقراطية، مبنية على حقوق المواطن ومركزيته، هو الهدف الوحيد لهذه الفترة، وهو ما يلخصه الشعار الأول للثورات العربية، «الشعب يريد إسقاط النظام.» ما يميز الحراك العربي في مرحلته الثانية، هو انتهاء الخوف من الثورة المضادة، والتي أظهرت فشلها على كل الأصعدة، فهي لم تحقق أي إصلاح داخلي، ذات معنى، بل ركزت كل جهودها، على سحق أي نفس ثوري ديمقراطي، مهما كان، كما يفعل الرئيس السيسي حالياً في مصر، وزادت بحدة الأزمات الداخلية، الخوف وحده كسياسة، لفرض وجود هذه الأنظمة، لم يعد كافياً ولا ممكناً، والشجاعة الفائقة لثوار العراق، وتحديهم لآلة الموت العسكرية الحاكمة والداعمة، يظهر مدى هذا الإصرار للسير من جديد بالمشوار الثوري إلى نهايته. المُطالبة بإسقاط السلطة كاملة، بدل رأس السلطة، بدءا بثورة السودان، هو دليل تعلم هذه الثورات، من تجارب المرحلة الأولى. رفض العسكر كحكام، مهما كانوا، هو شعار أصبح بديهيا، كما نرى في الجزائر «مدنية ماشي عسكرية»، أو «يسقط يسقط حكم العسكر». التجربة المصرية كانت بكل تأكيد مصدر إلهام لكل هذه الشعارات، والتي ربطت، بين مدنية الدولة المرجوة، وإبعاد العسكر النهائي، كشرط لنجاحها. ما يميز هذا الحراك الجديد أيضاً، هو تراجع القوى والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلاموية، رغم معاناتها في فترة الربيع العربي الأول، وحتى يمكننا القول، أن الحراك الثاني يرفض هذه التوجهات الإسلاموية، وهو ما رأيناه بوضوح في السودان والجزائروالعراق، مرد ذلك برأيي، هو كون هؤلاء أقرب إلى الفكر التقليدي منه إلى الثوري، واستعدادهم الدائم للتعاون مع السلطة القائمة، وهو ما يتناقض مع مطالب الجماهير الثائرة. وظهور قيادات من المجتمع المدني، وخصوصاً من التجمعات المهنية، كما رأينا في السودان، أعطى زخماً وقوة جديدة، لم تكن موجودة بالحراك الأول. تزامن الثورات الحديثة بدول عدة، أعطاها قوة هائلة جديدة، وأظهر البعد القومي وليس القطري، كما أنه أربك أعداء الحراك المحليين والقوى الأجنبية، كما نرى ذلك في هشاشة السياسة الإيرانية، التي تفاجأت بأكثر من ثورة في العراقولبنان، كانت تُعتبر مناطق تحت سيطرتها، بالإضافة للحراك الثوري الإيراني نفسه، والذي لن يتوقف، حتى لو تراجع لبعض الوقت من شدة القمع. كما أن إنهاك قوى الثورة المضادة، لم يعد يسمح لدول مثل إيران، إرسال عشرات آلاف الجنود، لإطفاء ثورات الدول المجاورة كما حدث سابقاً مع سوريا. تهميش القضية الفلسطينية لقد تغنى كثيرون من معارضي الثورات العربية، أنها همشت القضية الفلسطينية، والتي لم تعد أولوية العمل، الحقيقة هو العكس، فالجماهير التي أعطت لتناقضها الرئيسي، التعريف السليم، أي مع الأنظمة الاستبدادية، وليس مع الاستعمار أو الامبريالية، أعطى الانطباع بصحة طرح هؤلاء المشككين، لكن الظن أن تحرير فلسطين، سيتم من خلال هذه الأنظمة، كان خطأً فادحاً، ما نراه حالياً، من ارتماء للأنظمة بحضن إسرائيل لدليل على ذلك. الترتيب السليم لسلم الأولويات، هو من سيحرر الإنسان العربي، القادر حينها على تحرير ما تبقى من أوطانه تحت الاحتلال. مظاهرات الجزائريينواللبنانيين والتوانسة وحملهم أعلام فلسطين، وإنشادهم لأهازيجها، يعني للداني والقاصي، أن فلسطين هي جزء من الهم الداخلي العربي، ولكل شعوبه، ولن يقبل أي مواطن حر في بلده، أن يتعامل مع أحد مستقبلاً، بدون الأخذ بالاعتبار للمصلحة الفلسطينية. الربيع العربي، بموجته الثانية، هو تصحيح لمسار الموجة الأولى، من ناحية الوسائل، ولكنه يسير نحو الهدف نفسه: بناء المجتمع العربي الحديث، هو الآن على الطريق السليم، لكن هذا لا يعني أن الأنظمة أصبحت أقل عنفاً، لكن هشاشتها، وهشاشة داعميها، أصبحت أكبر، وسقوطها لم يعد إلا مسألة وقت. وقت قد يكون أقصر مما يمكن تصوره. *نقلا عن صحيفة القدس العربي