فصل من رواية "ساعي البريد لا يعرف العنوان"، للروائي: محمد سعيد احجيوج رصاصةٌ واحدةٌ تكفي لتقتل إذا أسبغ القاتل النية وأحكم إطلاقها، غير أن الإعدام انتقامًا يتطلب أكثر من رصاصة واحدة. تحُول المشاعر المتدفقة مع رغبة الانتقام المتحكِّم في المشاعر دون إحكام التصويب ولا يمكن أن تفي رصاصةٌ واحدةٌ بالغرض. الرغبةُ بالإذلال المصاحبةُ للانتقام تتطلب تشويه الجسد وتحويلَه مصفاةً مشوَّهةَ الثقوب. رصاصةٌ واحدةٌ لن تكفي لتشفي الغليل، ولا خمسًا، ولا عشرًا. بل إحدى عشرة رصاصة. إحدى عشرة رصاصة اخترقت سكون الليل في ليلهامر النرويجية في تلك الليلة الماطرة ليوم السبت الحادي والعشرين من يوليو 1973، وحوَّلت الجسد المستهدف إلى مصفاة تدفَّق منها الدم شلَّالًا. بجانب الرجل الذي هوى أرضًا وسط بركة دمائه كانت زوجته الحامل في شهرها السابع، وكانا عائدين معًا من حفلة سينما شاهدا فيها فيلمين متتابعين. أصرَّ الزوج على مشاهدة الفيلم الإسرائيلي "الصقور تهاجم فجرًا"، وأرادت الزوجة أن تشاهد فيلم "دخول التنين" الذي ختم به بروس لي مسيرته الفنية وعرضته قاعة السينما في حفل خاص كتكريم لبروس لي الذي أُعلنت وفاتُه في اليوم السابق. شحبت الزوجة تمامًا وابيضَّ وجهها وانسحبتْ منه الدماء كأنها لم تكن هناك يومًا. انتفض قلبها وصار يدقُّ بجنون كأنه يريد الفرار من قفصها الصدري. كل ما كانت تفكر فيه أنها يجب ألا ترتعب. يجب أن تهدأ. مطلِقا النار هربا ولم تكن لهما نية التصويب عليها. يجب أن تهدأ. الوعاء يجب أن يبقى سليمًا. لا يجب أن يهتزَّ. الجنين يجب أن يعيش. لن تتحمل فقده. أغمضت عينيها عن زوجها المضرَّج في دمائه. شبَّكت أصابع يديها تحت بطنها المكوَّرة. تنفَّست بعمق. تنفَّست ببطء. تخيلت نفسها تدخل مع كل شهقة وتخرج مع كل زفرة كأنها ريشةٌ تحملها ريحٌ خفيفة. تخيلت نفسها تسري عبر دمائها وتصل إلى رحمها. تمسِّد رأس ابنتها وتدور معها، تسبَح معها، في ماء المشيمة، بسلام وهدوء. ليلتئذ، لم تنقذ توريل لارسن جنينها وحسب، بل الجنينُ نفسه، الابنة التي اختار لها أبوها من قبل اسم مليكة أنقذت هي الأخرى أمها. كانت ليلةً ممطرةً بلغت فيها سرعة الرياح ستِّين كيلومترًا في الساعة، ودرجة الحرارة بالكاد وصلت إلى خمس عشرة درجة مئوية. كانا متسترين بالظلام ينتظران. هو، جوناثان. جواز سفر بريطاني. وهي، أماري. تحمل جواز سفر كندي والمهنة: مصوِّرة. قبعا في الظلام. الساعة تشير إلى الحادية عشرة إلا ربعًا. رأيا أضواء الحافلة قادمةً من أسفل الشارع. توقفت الحافلة في محطتها. نزل الزوجان أحمد بوشيخي، وتوريل لارسن بوشيخي. أمامهما بضعة أمتار قبل الوصول إلى بيتهما. فتح أحمد المظلة. حملها بيمينه واحتضن زوجته بيسراه. نظرت أماري إلى جوناثان. أومأ لها، وتحركا معًا. خطوات واسعة. متجاورين. اقتربا من الزوجين الغافلين عنهما. أخرجا مسدسيهما على بعد مترين من الزوجين. صوَّبا بامتداد ذراعيهما، وأطلقا حسب الاتفاق المسبق بينهما. أطلق جوناثان خمس رصاصات إلى الصدر، وأطلقت أماري خمس رصاصات إلى البطن والفخذين، ثم أضافت رصاصتها السادسة إلى الجبهة تمامًا. إحدى عشرة رصاصة. رصاصةٌ مقابل كل روح أزهقها الرجل. تمَّت المهمة بنجاح. قبل أن يتهاوى جسد أحمد توقفت سيارتان بصرير مرتفع. قفز جوناثان إلى إحديهما وقفزت أماري إلى الأخرى، وانطلقت السيارتان في اتجاهين معاكسين. خرق دويُّ الرصاصات المتلاحقة سكون المدينة التي لم تعرف جريمة قتل طيلة ثلاثين سنة. ليلهامر المنعزلة أغلبَ شهور السنة بسكانها العشرين ألفًا. ظهرت الأنوار تباعًا في النوافذ المطلة على الشارع. التقطت امرأةٌ من نافذةٍ نوعَ إحدى السيارتين ولونَها قبل أن تغيب في الأفق المظلم. بيجو 500، بيضاء اللون. رغم شهور الإعداد والمتابعات والمراقبات والاغتيالات، والسعي نحو الرأس المدبِّر لعملية ميونيخ، علي حسن سلامة، الأمير الأحمر كما يصفوه، جاءت هذه العملية الأخيرة مشبَعةً بالتسرُّع والارتباك. كان أمل الموساد بالتخلص أخيرًا من الفلسطيني الذي أقضَّ مضجعهم، الذراع اليمنى لياسر عرفات، غير أن هذه العملية تحديدًا كانت إحدى حالات الفشل الأبرز في تاريخهم. الرجل الذي اغتاله ضبَّاط الموساد اسمه أحمد بوشيخي، وهو من أصل مغربي، ولا علاقة له من قريب ولا من بعيد بالأمير الأحمر المطلوب رأسُه. كان الارتباك سيد الموقف، ولذلك كان من السهل على الشرطة تتبُّع السيارة التي هربت فيها أماري، والوصول إليها في الصباح التالي في موقف سيارات المطار. قُبض على أماري ذلك الصباح رفقة زميل لها من فريق العملية. اختيار هذا الضابط لهذه العملية كان فشلًا آخر من سوء تدبير العملية، الذي رغم نجاحه في مهمات سابقة، إلا أنه لم يكن أهلًا للانضمام للاستخبارات مع عقدة الكلوسترفوبيا التي يعانيها. ما إن أُقفِل عليه في غرفة الاستجواب في مركز الشرطة النرويجي حتى أفصح الرهاب عن نفسه وبدأ الاختناق، وصرخ الرجل يطلب إخراجه معلنًا استعداده للاعتراف بكل شيء.. واعترف، وتمكنت الشرطة من ملاحقة باقي أعضاء الفريق الموزَّعين على شقَّتين وضبط مجموعة من الوثائق المزوَّرة وقائمة بأسماء العملاء والشقق الخاصة في النرويج وفرنسا. وجدتْ أماري نفسها في مأزق. كانت تحسُّ منذ البداية بمدى الارتباك في سير العملية، وغياب التأكيد الفعلي اليقيني للهدف، وانعدام الخبرة لدى نصف الفريق على الأقل. لم يكن أمامها، أمام أسئلة المحققين المتتالية، سوى الصمت المطبق في انتظار تدخُّل وزارة الخارجية الإسرائيلية، وشغل نفسها باسترجاع مسيرتها. عمليتها الأولى، الاغتيال الأول، كان قبل سنوات من انضمامها الرسمي للموساد. كانت سارة (وهذا اسمها الأول قبل تغييره إلى أماري معلنة عن ولادتها من جديد) متيَّمةً بمصطفى. كانت تنتظره في نهاية الزقاق ليخرج من صلاة الجمعة، وكانت تتلهَّف أن يبتعدا عن الأعين حتى تمسك يده وتقف على أصابع قدميها لتخطف قبلةً من شفتيه، كما ستتلهَّف مستقبلًا في زقاق شبه مظلم تنتظر أن يمرَّ، هو نفسه، لتُودع في جبهته رصاصةً ستكون خطوةً تحملها إلى مسيرة مهنية لم تخطر على بالها يومًا. كانت تعرف من شظايا حكايات سمعَتها من مصادر مختلفة أن والدتها كانت تحبُّ شابًا مسلمًا. شابًا اسمه يوسف سيترك خلفه بعد أن يموت مراهقًا اسمه إبراهيم سيأتي ليعيش معهم كأنه فردٌ من العائلة. تعرف سارة أن والدتها ضغطت على والدها ليقبل باحتضان اليتيم إبراهيم، وأبوها لا شكَّ يعرف أن أب الفتى كان حبيب زوجته، قبل زواجها. لكنه لم يملك، أمام التهديد الصامت في عيني الزوجة من كشف خياناته وحرمانه من إدارة أموال أبيها، سوى أن يستجيب لطلب زوجته ويقبل أن يعيش اليتيم إبراهيم، الذي ما عاد له أحد، معهم ويتربَّى مع ابنه إسحاق وابنته. لكنه أشار إلى زوجته أنه سيكسر رقبة إبراهيم بيديه لو تجرَّأ ونظر إلى ابنته سارة نظرةَ غير الأخ. وفي سريرة نفسه، تمنى لو يتجرَّأ ابن يوسف ويطمع في ابنته حتى يتخلص منه. ليس يهمُّ سارة سوى أن أمها أحبَّت مسلمًا وكانت فعلًا ستتزوجه لولا أن الموت كان إليه أقرب. ما يهمُّ سارة أن أمها ستتفهَّم حبَّها لمصطفى المسلم وستدعم قرارها بالزواج منه. لكن أمها صدمتها بالرفض. كان الرفض عاتيًا هائجًا وغير مبرَّر. ألجمت المفاجأة، في البدء، سارة ثم حين تمكنت من زمام نفسها أطلقت لسانها، "لكنكِ أيضًا أحببتِ مسلمًا وكنتِ راغبةً بالزواج منه—". ولم تمهلها صفعة أمها أن تكمل جملتها. ارتدَّت سارة إلى الخلف وسقطت. إنها المرة الأولى التي تمدُّ إليها أمُّها يدها. المرة الأولى التي يضربها فيها أحدهم. قررَتْ يومها أن تنتقم. أن تضع أمها المنافقة أمام الأمر الواقع. هذا اليوم، هذه الجمعة، قررت سارة، وهي في ذروة استعدادها الأمومي، أن موعد التنفيذ حان. في هذا الوقت حيث كل المحلَّات مقفلة وسكان المدينة ملتفُّون على غداء الجمعة، أخذت سارة مفاتيح وكالة جدِّها السياحية وأخذت معها مصطفى. دخلا إلى الوكالة، إلى مكتب أبيها، وارتمت على الأريكة الفخمة وفتحت ساقيها في دعوة لم يكن مصطفى ينتظر أكثر منها. دخل الاثنان إلى الوكالة، وحين خرجا، خرجوا. كانوا ثلاثة. ستتعلم سارة قريبًا درسًا لن تنساه. لا شيء أبدًا يسير كما المتوقع، كما ستتعلم ألا تمنح قلبها بعد ذلك لأحد. بعد شهرين من اللقاء الأول، وقد تكررت اللقاءات على الأريكة ذاتها وعلى العشب الأخضر في حدائق المدينة تحت ظلال الغروب، تأكدت سارة من نجاح مهمتها. إنها حامل. اغتبطت وانطلقت تجري إلى مصطفى. تعلقت بعنقه وسط السوق، وسط دهشة الناس الذين خدشت حياءهم، وقالت بفرحة طفولية أنها حامل. صرخت بعبارتها بصوت سمعه كل من كان قريبًا منهما. تجمَّد مصطفى في مكانه، لكنه تمالك نفسه بسرعة، ستعترف سارة مستقبلًا أن المحترفين في مجالها أنفسَهم لا يملكون تلك البراعة الفطرية، وأبعد يديها عن عنقه. رسم الدهشة على وجهه، وشيئًا من البلادة، وادعى أمام جمهور المتفرجين أنه لا يعرفها. لا يعرف من تكون ولا شأن له أن تكون حاملًا. ألجمت المفاجأة سارة، ولأنها لم تتوقع شيئًا من ذلك لم تعرف ماذا تفعل إلا أن تنعطف على عقبيها وتسير دون وعي إلى حيث تقودها قدماها، وقد أوصلتاها إلى الوكالة، وأمامها كان إبراهيم قد انتهى من تلميع زجاج سيارة أبيها. توقفت، ثم زأرت واندفعت تجري وصارت تلكم صدره ووجهه وتصرخ بكلام غير مفهوم. لم يفهم إبراهيم أي عاصفة هبَّت عليه، ولم يملك سوى أن يحمي وجهه إلى أن خرج أندريه من مكتبه، ويبدو أنه فهم الأمر لا كما يجب أن يُفهم، فقد جرَّ إليه ابنته وهوى بصفعة على وجه إبراهيم ألقته أرضًا ونظر إليه متوعدًا بقتله إن رآه مرةً أخرى. احتضن أندريه ابنته ودخلا إلى مكتبه. حاول أن يفهم من كلامها المتقطِّع بين نشيجها ولم يستوعب سوى كلمة واحدة. حامل. وقف وزأر. "سأذبح ذلك اللعين إبراهيم". توقفت سارة عن النشيج ذاهلةً تحاول أن تستوعب كلام أبيها. احتاجت بضع ثوانٍ قبل أن تفهم. ارتمت على الأريكة وعادت إلى نشيجها، بعد أن نطقت جملة واحدة من كلمتين: "ليس هو". سيسأل أبوها كثيرًا: "من إذن؟". وستسأل أمُّها، وستُحبس في غرفتها وسينتظر والداها كثيرًا أن يعرفا من أبو جنينها، ولن يعرفا. خلال أيام حبسها قررت سارة أمرًا، وحين جاء الحاخام لزيارتها، بطلب من أمها لعله يعرف منها من اعتدى عليها، أفصحت له عن طلبها، وكان مسرورًا للغاية أن يستجيب لها ويصيد عصفورين بحجر واحد. رفع رداءه وجلست هي على ركبتيها، وبعد يومين عاد الحاخام من جديد ورفع رداءه، وقبل أن يغادر سلَّمها المسدس كامل التعبئة الذي طلبت. في اليوم نفسه تسلَّلتْ من البيت، وكمنتْ في زقاق يمرُّ منه مصطفى مساءً بعد عودته من السوق. "مصطفى". نادت بخفوت المحبين، ما إن انعطف إلى الزقاق حيث تنتظر. الدهشةَ أولًا، رأت على وجهه، ثم الغضبَ. أطبق على معصمها وضغط ودفعها إلى الجدار. "اللعنة. عليكِ اللعنة. ماذا تفعلين هنا؟". جرَّها إليه وعاد يدفعها إلى الجدار. "لا أريد أن أراك مجددًا". "أعرف". قالت. "جئت أودعك". توقفت برهةً وأكملت والدمع بدأ يلمع في حدقتيها. "لن تراني بعد اليوم حبيبي". الدهشةَ أولًا، رأت على وجهه، ثم شيئًا من الراحة. خفَّف الضغط على معصمها وابتعد نصف خطوة إلى الخلف. نظر إلى بطنها ورأت سارة السؤال في عينيه. "لا تقلق. سأذهب إلى إسرائيل. لم أخبر أحدًا بأمرك ولن أخبر". "حسنًا". قال وعاد الجمود إلى وجهه. "هو الوداع إذن". تبادلا نظرات صامتة ثم دفن رأسه في صدره وأكمل طريقه. "الوداع حبيبي". قالت سارة بخفوت لم يسمعه مصطفى، ثم نادته بكل إصرار العزم لديها، "مصطفى". استدار إليها متبرمًا، وحين استدار رأى، وحين رأى كان آخر ما رآه المسدس في يدها وومضة الضوء القصيرة. انطلقت الرصاصة. اخترقت الرصاصة جبهته. مرت الرصاصة عبر دماغه. خرجت الرصاصة من مؤخرة رأسه. رأت سارة كل ذلك ببطء متعمد كأن الزمن يغشُّها ليترسَّخ المشهد بتفاصيله الدقيقة في ذاكرتها إلى الأبد، ولم تر ملاك الموت يتلقف روحه المنسحبة منه. دوَّى صوت الرصاصة في الزقاق الصامت وارتعبت سارة من الصدى المتردد أكثر مما ارتعبت من الثقب الأحمر المتوهج في جبهة مصطفى. تجمَّدت هي كما تخشَّب مصطفى في وقوفه وكما تجمَّدت الدهشة على وجهه. ثوانٍ بدَتْ لها دهرًا، اعتقدت خلالها أن الرصاصة لم تقم بمهمتها المنذورة لها، وانتفضت حين هوت الجثة الفارغة من الحياة دفعة واحدة. ما كادت الجثة تسقط أرضًا حتى توقفت سيارةٌ عند مدخل الزقاق وجاء الهتاف من داخلها، "هيا سارة، بسرعة". لا تعرف سارة صاحب الصوت ولا السيارة، وبقيت في وقفتها جامدة، حتى خرج من المقعد المجاور للسائق شابٌّ تقدَّم نحوها وجرَّها، وهي مسلوبة الإرادة كأن فعل سحب زناد المسدس أتى على كل طاقة الفعل لديها، ودفعها عبر الباب بعد أن سحب المسدس من يدها المتخشِّبة. "هيا قبل أن يتعرف عليكِ أحدٌ من السكان". لم تبِت سارة ليلتها تلك في بيتها، ولم تعرف أين هي. حُملت من السيارة بعد رحلة تجاوزت الساعة ثم أُدخلتْ بيتًا يبدو كأنه فيلَّا. ستقودها امرأةٌ إلى غرفة نوم وستوصلها إلى الفراش وتنزع حذاءها. ستنام سارة نومًا طويلًا ستقول عنه لاحقًا أنه موتٌ لم تشعر خلاله بشيء. كانت قد استَنزفت كل طاقتها واحتاجت إلى عشرين ساعةً من النوم المتواصل قبل أن تستردَّ بعض عافيتها وتفتح عينيها. ستعرف أنها في فيلَّا في طنجة وبأنها لن تعود أبدًا إلى تطوان، إلا مرةً واحدةً سريعةً لتُودِع رصاصةً في جبهة الحاخام الذي لا يزال مذاق لحمه النجس في فمها، وستأخذ منه بعد ذلك قطعة اللحم تلك لتكون تذكارًا هو الأول لها ولن يكون الأخير في خزانتها السرية في تل أبيب. ستعرف سارة أنها في ضيافة خلية من شباب اليهود يدرِّبهم ضبَّاط الموساد على العمليات العسكرية في مخيمات مغلقة، يُفترض أنها مخيماتٌ ترفيهيةٌ رياضية. علمتْ أنها في اللحظة التي اختارت فيها، طوعًا، أن تضغط زناد المسدس، اختارت مسارًا جديدًا لحياتها لا رجوع عنه. خلال الشهر السابع من الحمل قرَّرت التخلص من الجنين، وكادت أن تموت خلال ذلك. بعد إجهاض الطفل، بعد عودتها من الموت، أحسَّت أنها وُلدتْ من جديد، وأمامها الآن مشوارٌ طويلٌ من المجد الذي لن يضاهيها فيه أحدٌ من زملائها في الموساد، كما في جيش الدفاع من قبل. في مكتبها في الموساد الذي نادرًا ما تستقرُّ فيه، عُلِّقت لوحة الوصية التلمودية: "إذا عزم شخصٌ أن يقتلك، قم إليه واقتله أولًا". صارت العبارة تلك دستورها في الحياة. لكن مسيرتها العظيمة تلك انهارت دفعة واحدة بسبب التسرُّع الأخرق لرئيسها في تدبير هذه العملية. الهلع الذي أثاره علي حسين سلامة، وعملياته العسكرية الاستخباراتية بالغة الاتقان أصابت الرجل بالجنون، وعلى ما يبدو أن الإشاعة صحيحةٌ أن المدير كان يريد التضحية به فداءً بسبب إخفاق الموساد الذريع في ملاحقة الأمير الأحمر. لم تفشل أماري من قبل في سلسلة عملياتها بالغة الإتقان. فقط مرة واحدة كادت تفشل وتخسر معها حياتها. تمكنت يومذاك من اختراق حفلة نظمتها السفارة الإسبانية في روما، واستطاعت التسلل إلى مكتب الملحق العسكري الذي كان الموساد يشكُّ بتعاونه مع المخابرات الليبية. بدأت التنقيب في أدراج مكتبه حين جاء الصوت من خلفها بالإسبانية، "ماذا تفعلين هنا؟". استدارت ببطء، وقبل أن تصل يد الحارس إلى مسدسه قفزت أماري إليه بخطوة واسعة وضغطت بيمناها على رقبته ويسراها أمسكت يمينَه قبل أن يخرج المسدس. دفعته إلى الحائط وضغطت فصَّ خاتمها في فمه. انتفض الرجل فورًا وقد سرى السمُّ في دمه، وتراخى جسده. فشلت العملية، التي كان يُفترض أن تكون سرية، لكنها على الأقلِّ نجت بحياتها، ولتمنح لنفسها وقتًا إضافيًا للخروج قبل اكتشاف الحارس المقتول فتحت النافذة وتحققت من عدم وجود حراس في الحديقة أسفل النافذة، وجرَّت الحارس بجهد غير هيِّن حتى أسندته على النافذة، ودفعته ليسقط.