نعم هو كذلك. قبل أيام قليلة من رحيله أخبرني الصديق رمسيس، ونحن معا، أنه لا يود أن يعكر مزاجي بخبر صادم. صمتُّ قليلا. ولما ألححت عليه في إخباري بالأمر، قال: خاري صارح... ولم يضيف شيئا. صمت قليلا وقد بدا لي أن صمتي طاااال.. قلت له: هل...؟ قال: لا. ليس بعد لكن حالته تنبئُ بالنبأ الحزين. جهشت بالبكاء وسط الناس، وسرعان ما طلب مني بإلحاحٍ أن أكف عن ذلك. تمالكت نفسي قليلا وتشجعتُ. كانت شجاعة جبان -وأعترف بذلك-. حاولت أن أتناسى الأمر قليلا. وسريعا ما عدتُّ أتأمل بعض الصور التي يحتفظ بها هاتفي. أما الصور العالقة في ذاكرتي فقد تزاحمت بقوة. هل مات حقا؟ هل رحل؟ أتذكر أنه في آخر مكالمة لي معه قال: ادعو لي بالشفاء، فدعوتك مستجابة. تصنعت الشجاعة اللازمة وقلت له: خاري صارح إن شاء الله ستكون بألف خير وصحة وسلامة. توادعنا على أمل اللقاء متى سأزور الناظور. ما أن أكملت المكالمة حتى أطفئتُ هاتفي ونمتُ. في نومي تمنيت أن أحلم بشفاء "ثْبَابَتْ إينو"، كما كان وكنتُ أناديه. تمنيت أن يسعفه الله في أن يعود لعافيته... لكن شيئا من ذلك لم يحدث. بين الأحلام والكوابيس تعذبتُ. أحسست بانهيار؛ لكن حاولت أن أكون أقوى، والحقيقة؛ وهذه هي الحقيقة؛ أني كنت جبانا. لماذا؟ لست أعلم. لكن، كنتُ كذلك. قبل يوم من ذلك، تحدثت إلى ابنه عبد الكريم، وقد سماه بهذا الإسم إسوة بالأمير الخطابي، وأخبرني بتدهور صحته وحالته، وعن عدم قدرته على الكلام. أما حينما جاء النبأ الحزين والمؤلم، فقد فقدت أنا هذه المرة القدرة عن الكلام والتفكير... كان إنسانا عفيفا ومتواضعا، غارقا في طيبوبته وإنسانيته. جمعت شخصيته بين كل الصفات والقيم النبيلة، جعلت منه إنسانا نبيلا. كان فيه الأخ والصديق والأب... كما كان اسمه "صالح" اسما على مسمى. بمرارة حاولت أن أتساءل: لماذا يرحل وتخطف منا الموت مثل هؤلاء الطيبون؟، لكن سرعان ما اكتشفت أني أبحث عن مبرر أقنع به نفسي بفقدان واحد من الطيبين. والمؤلم أننا سنفتقد برحيله، رجلا "صديق الجميع" كما كان يطلق عليه، ومن الصعب أن يكون الانسان كذلك. تذكرت اللحظات والمناسبات والأنشطة والزيارات التي جمعتنا رفقة أصدقاء آخرون في مختلف قرى وبلدات الريف، لكن واحدة منها كان لها وفيا أكثر. ذكرى رحيل الدكتور قاضي قدور، وحرصه على زيارة قبره كل شهر شتنبر، وكذلك ذكرى انتفاضة 1984. جمع بين العمل الفني؛ والرياضي؛ والثقافي؛ والجمعوي والإنساني. استغل كموظف بميناء الناظور منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي. شاهد على عصره. واكب منذ البداية الانطلاقة الثقافية والمجموعات الغنائية الأمازيغية بالريف. ساهم بقدر مستطاعه، وظل وفيا لاستمرارية حمل الشباب والأجيال الصاعدة للمشعل. كيف لا، وهو واحد من "إصفضاون". آمن بحتمية قيادة السفينة "أغاربُّو نّغْ" دون المراهنة على أحد أخر. جزء من ذاكرة أزغنغان والناظور والريف الذي ظل يعتز بشموخه. مرة قال لي: أحمد الله أني ريفي ولا غير ذلك. "خاري صارح"، "عزّي صارح"، "أيّوز"، "أذِلانتي"... كلمات سنفتقد لمن ارتبطت به، لكننا لن نفتقد جميله وبقاءه حيا في وجداننا. جمعتنا لحظات أبدا لن تنسى. عليك الرحمة أيها الشامخ. عليك السلام يا رمز السلام والطيبوبة. دوما سأتذكرك في كل لحظة كأننا نعيشها. تعازي الحارة لكل أفراد أسرتك وعائلتك. وعزاونا في رحيلك جميل أخلاقك وتواضعك وحبكَ للناس. أش يرحم أربي أ "ثْبابات نّغ".