يرتبط فصل الشتاء بطقوس خاصة وتقاليد عريقة، تعمَد ساكنة منطقة جبالة ومعها ساكنة الريف، إلى إعادة إحيائها كلّما هبت الريح الشتوية، وزمجر الرعد في السماء معلنا حلول الشتاء، وانتهاء مرحلة الخريف. بداية الشتاء.. يتذكر عبد السلام.ك، فقيه مسجد، وواحد من شيوخ منطقة فناسة بجماعة باب الحيط، سنوات خلت كان المطر ينزل مدرارا، وكانت المياه تجري في الوديان والشعاب، حيث لا صوت يعلو على صوت زمجرة الرعد، والرياح الهوجاء. "هذا الحال يستمر أسابيع طويلة، كنا نطلق عليه اسم الغمضة"، يشرح الفقيه عبد السلام، مضيفا " كنا ننتظر ظهور الشمس في السماء بفارغ الصبر". شهادات الكثير من الفلاحين بإقليمتاونات توضح ارتباطهم بالغيث، وبتدفق مياه الوديان والعيون، وحتى في اللحظة التي كانت تدوم فيها " الغمضة" ويستمر نزول المطر مدرارا من السماء، كان التفاؤل سيد الموقف، وكان الأمل في سنة فلاحية واعدة يغني عن كل قنوط نتيجة توالي أسابيع المطر.طقوس الشتاء.. إن العارف بأرض جبالة، وبتراب إقليمتاونات، وأجزاء من أقاليم مجاورة، يدرك جيدا ما تحتاجه ليالي الشتاء الطويلة، سواء ما يرتبط بما هو مادي كالحطب والمواد الاستهلاكية والأغطية والألبسة.. أو بما هو رمزي حيث ساعات الليل الطويلة تمنح متعة لا متناهية للصغار و الكبار؛ إنها متعة الحكي في حضرة المطر، ومتعة السمر رفقة الأقران في بيوت أو دكاكين يجتمع بها القرويون، ويستأنسون ببعضهم البعض، في جو يحقق لهم الكثير من المتعة، ينبه عزيز .ب من دوار بني كزين على ضفة وادي ورغة. الكانون للتدفئة وفيه مآرب أخرى!كانت عادة الأهالي كلّما اقترب موعد فصل الشتاء، بالمداشر والقرى، التوغل في الغابات، وبجنبات الوديان، لجمع الحطب، وتخزينه، فيما ينتظر آخرون ارتفاع منسوب مياه وادي ورغة المصب الرئيسي لسد الوحدة، خلال أمطار الخريف، وجمع العود، ومخلفات الأشجار التي يقتلعها، قبل أن يحملها معه في جوفه ويقذف بها على جنباته، حيث عدّت أمطار الخريف فرصة للتزود بحطب التدفئة، وما يكفي لقضاء مآرب الناس في وقت " الحزّة". في كل بيت يوجد " كانون"، تعمد النسوة إلى بنائه اعتمادا على حجر وطين، ثم تثبت عليه قطعة حديدية تسعف في حمل القدر. شكل الكانون تتفنن فيه النسوة، وتبدع فيه أناملهن، ذلك أن وظيفة الكانون، تؤكد فتيحة، ابنة دوار جبلي بتاونات، تتجاوز التدفئة، وتسخين مياه الوضوء، إلى إعداد وجبات الطعام، ووضع ما بقي من رماد في مِجمر يرافق الأسرة إلى بيت الجلوس. البوط والسلهام.. والبيصارةيصعب ارتداء حذاء في فصل الشتاء بالقرية، لأن المجال الجغرافي مترب، والأوحال تغزو كل شبر من تراب الدواواير والمداشر القروية، حيث يجد الجميع ملاذهم في ارتداء " البوط"، لأنه يقيهم الأوحال، ويمكنهم من شروط قضاء مآربهم، سواء التنقل عبر المسالك المتربة، أو ممارسة بعض الأشغال في الحقول، بل يعفيهم أيضا في لحظة عبورهم مجرى مائي، مما يعني أن البوط، في أعراف القبيلة الجبلية، جزء من توليفة فصل الشتاء، لا تكتمل متعة الانتشاء بالمطر إلا بوجوده رفقة " السلهام" وهو لباس فوقي لا يسمح بتسرب الماء إلى الجسد، كما أنه يوفر دفئا إضافيا لمن يرتديه خلال فترات الشتاء. قصة ساكنة القرى مع البوط والسلهام لا يمكن اختصارها في سطور، لأنها جزء من احتياجات تلامذة المدارس، تضمن لهم تنقلا سليما من وإلى حجرات درسهم، وتقيهم برودة الطقس، وتبلل أطرافهم وملابسهم. لا تكتمل توليفة القروي مع الشتاء إلا بالانضباط لطقس غذائي محوره الرئيسي البيصارة وما يتصل بها من قطاني، والإقبال على هذه الوجبات ومعها الحريرة و" التيشة"، يؤكد الفقيه عبد السلام، يعزى إلى دورها في تدفئة الجسم، ومنحه المناعة الكافية لمقاومة برودة الشتاء. الشتاء والموروث الثقافي.. يقترن فصل الشتاء بالخصب، واحتباس المطر يعني القحط، وهذا ما جعل البنية الثقافية للمجتمع القروي زاخرة بكل معاني الرجا، واللطف، حتى في لحظات القنوط، حيث كان القرويون يتوجهون إلى الله طلبا للشتاء، ويجسدون طقوسا خاصة تترجم عمق الارتباط بالتراث الشفهي، ومنها خروج الأطفال في طقس " غنجة" كلما انحبس المطر، وترديدهم أهازيج كان الأولون يرددونها في وقت الشدة، من قبيل " غنجة غنجة بودرابل طيح الما على المزابل".