يمكن لهذا الظرفية الصعبة التي يمر منها المغرب والعالم برمته أن تكون، أيضا، ظرفية عظيمة في مسار قضية الصحراء المغربية والوحدة الترابية للمملكة. إذا في الوقت الذي كانت تسعى فيه جبهة البوليساريو، وحاضنتها الجزائر، إلى تنزيل مخطط منظم قائم على تغيير الوضع في منطقة الكركرات والمنطقة العازلة منذ يوم 21 أكتوبر المنصرم من خلال إغلاق معبر الكركرات الحدودي الدولي بين المغرب وموريتانيا وشل حركة السير التجارية والمدنية فيه؛ تدخلت القوات المسلحة الملكية، بتعليمات من الملك محمد السادس، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، صباح يوم الجمعة الماضي، بكل حزم وصرامة وأعادت الأمور إلى مسارها الطبيعي، بل أكثر من ذلك استعاد المغرب سيطرته الكاملة على المنطقة من خلال إقامة حزام أمني يمنع تسلل العناصر الانفصالية مستقبلا إلى محيط المعبر. وبعد نجاح المغرب في تفكيك هذا المخطط الانفصالي الذي لم يكن فقط، يستهدف المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المغربية، بل حتى مصالح الجارتين موريتانيا وإسبانيا ودول غرب إفريقيا؛ خَرَجَت قيادة الجبهة ودروعها الإعلامية إلى إعلان الحرب على المغرب، إذ اعتبرت العملية العسكرية المغربية بمثابة إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته مع بعثة الأممالمتحدة سنة 1991، لكن الجبهة تناست أنها هي من خرق الاتفاقيات العسكرية الثالث واتفاق وقف إطلاق النار منذ 21 أكتوبر المنصرم، ضاربة عرض الحائط التدخلات والوساطات والمناشدات الدولية والإقليمية؛ بينما كان المغرب على طول مدة إغلاق المعبر من قبل الانفصاليين ملتزما بمبدأ ضبط النفس، وفسح المجال أمام الأممالمتحدة ومجلس الأمن لردع الجبهة. وأمام عجز الأممالمتحدة والدول الأعضاء في دفع الجبهة للانسحاب من المعبر ووقف الاستفزازات غير المحسوبة العواقب، تدخل الجيش لتحرير المعبر وتأمين حركة السير المدنية والتجارية. وهي العملية النوعية التي نفذت بدون خسائر بشرية، وبدون اشتباكات مع العناصر المدنية التي فرت من المخيم، باستثناء تبادل إطلاق النار للحظات مع مليشيات انفصالية مسلحة قبل أن تفر بدورها. سياقات المخطط المُفكك لا يمكن فهم التطورات الخطيرة التي آلت إليها قضية الصحراء دون العودة إلى السياقات التراكمية التي فرضت على الجيش المغربي التدخل لتحرير المعبر وتأمين حركة السير المدنية والتجارية فيه يوم الجمعة الماضي. أولى بوادر المخطط الانفصالي خرجت إلى العلن يوم 7 ماي المنصرم عندما أعلن الرئيس الجزائري الجديد، عبدالمجيد تبون، أي بعد 5 شهور من تنصيبه رئيسا للبلاد، عن مضامين المسودة الأولية للدستور الجديد، والتي أكدت، في سابقة، دسترة تدخل الجيش الجزائري خارج حدوده بعد موافقة البرلمان. وينص البند الثاني من المادة 91 في الدستور الجزائري الجديد قائلا: "يقرر (رئيس الجمهورية) إرسال وحدات من الجيش الشعبي الوطني إلى خارج الوطن بعد مصادقة البرلمان بأغلبية ثلثي (3/2) أعضاء كل غرفة من غرفتي البرلمان". هذا البند جعل المراقبين يتساءلون إن كان الجيش يُحضِّر للتدخل خارج الحدود الجزائرية. ثانيا، تأسيس يوم 20 شتنبر الماضي بمدينة العيون ما سمي ب"الهيئة الصحراوية لمناهضة الاحتلال المغربي" بزعامة الانفصالية أمينتو حيدر، حيث سقط القناع الحقوقي عن انفصاليي الداخل، وظهر جليا الوجه السياسي لأمينتو حيدر ومجموعتها التي أعلنت ولاءها للجبهة. هذا التأسيس أظهر أن ملف الصحراء دخل منعطفا جديدا. ثالثا، بعد تأسيس الهيئة المزعومة شرعت الجبهة عبر عناصر مدنية تابعة لها في استفزاز أفراد القوات المسلحة الملكية المرابطين في الشريط الحدودي للمنطقة العازلة، بل بلغ بها الأمر أيضا استفزاز موظفي بعثة الأممالمتحدة "المينورسو" والتشويش على تحركاتها من خلال تنظيم وقفات احتجاجية منظمة أمام بعض مقراتها، وهي الاستفزازات التي انتهت بتنزيل "المخطط الخفي" القائم على إغلاق معبر الكركرات يوم 21 أكتوبر المنصرم من قبل 60 عنصرا مدنيا، وشل حركة السير المدنية والتجارية فيه. وإذا كانت الجبهة، وحاضنتها الجزائر، تريدان، عبر إغلاق الكركرات، تغيير الوضع القائم وجر المغرب إلى رد فعل عسكري للظهور بمظهر الضحية، فإن الاستراتيجية المغربية القائمة على "ضبط النفس" و"فسح المجالات للمفوضات" بين الأممالمتحدة والجبهة، فككت المخطط الانفصالي، بحيث تأكد أن الجبهة لا تستهدف من خلال إغلاق المعبر المصالح المغربية فقط، بل حتى الموريتانية والإسبانية والإفريقية الغربية. رابعا، لوحظ منذ 20 شتنر الماضي أن هناك حملة إعلامية منظمة تقودها وسائل الإعلام الجزائرية، وأخرى تابعة أو قريبة من جبهة البوليساريو ضد المغرب. القائمون على هذه الحاملة كانوا يصورون عملية إغلاق المعبر والتحرش بأفراد الجيش المغربي وموظفي المينورسو كما لو أنها تحركات مدنية ووقفات احتجاجية لا علاقة لها بقيادة الجبهة. لكن سرعان ما بددت البلاغات الانفصالية الأخيرة نفسها هذا الزعم، عندما قال زعيم جبهة إنه سيتصدى لأي دخول مغربي للكركرات. خامسا، الترويج في منتصف أكتوبر المنصرم إلى احتمال توقيع اتفاق دفاع مشترك بين الجزائر والبوليساريو وجنوب إفريقيا، علما أن البوليساريو سبق لها أن لوحت بهذه الورقة في الأسابيع الماضية. وعن هذا يقول مكاوي: "إن الجزائر عبر وسائل إعلامها لم تعد تختفي وراء الطرف المعني بالنزاع، بل تتدخل عبر وسائل إعلامها ودبلوماسييها إلى درجة ترويج ل"اتفاقية مزعومة للدفاع المشترك بين جنوب إفريقيا والجزائر والبوليساريو". سادسا، يوم الاثنين 26 أكتوبر جرت محادثات بين وزير الخارجية الجزائري والأمين العام للأمم المتحدة عن بعد بخصوص تطورات ملف الصحراء، ولا يستبعد أن تكون الأممالمتحدة اضطرت إلى التواصل مع الجزائر لإقناعها بضرورة إعطاء أمر لتابِعتها البوليساريو للانسحاب من الكركرات تجنبا لأي تصعيد قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية في أي لحظة، لا سيما وأن المغرب عبر في أكثر من مناسبة أنه لن يسمح بتهديد مصالحه الاستراتيجية. لكن يبدو أن الجزائر والجبهة كانتا قد اتفقتا على مواصلة إغلاق المعبر. عوامل أصابت البوليساريو والجزائر في مقتل بالكاد شرعت جبهة البوليساريو وحاضنتها الجزائرية في تنزيل المخطط الذي انكسر الجمعة الفائت على صخرة الجيش المغربي، حتى تلقت ضربات عدة داخليا وخارجيا ساهمت بشكل كبير في اختيارهما سياسة الهروب إلى الأمام والأرض المحروقة، وربما حتى الانتحار السياسي والعسكري بالنسبة إلى الجبهة بعد إعلانها، أول أمس، التخلي عن الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع الأممالمتحدة ما بين 1991 و1997، واتفاق إطلاق النار الموقع سنة 1991، معلنة بذلك الحرب على المغرب. أول ضربة تلقتها الجبهة كانت في شهر ماي الماضي من خلال التقرير الأخير (2020/938) للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الصادر يوم 23 شتنبر، الذي أكد بالملموس خرق الجبهة لاتفاق وقف إطلاق النار واتفاقيات العسكرية، وعرقلة مهام موظفي الأممالمتحدة وعدم التعاون معهم، بل أقر أن الجبهة عرقلت حركة السير في الكركرات ما بين 11 و13 يناير الماضي. وانتهى التقرير إلى أن الجبهة قامت ب57 انتهاكا. وبدل رواية "تقرير المصير" التي ترددها الجبهة، كان أكد التقرير على "حل سياسي عادل ودائم يقبله الطرفان". ثاني ضربة تلقتها الجبهة تتمثل في تأسيس الحركة الصحراوية المعارضة للجبهة "صحراويون من أجل السلام"، والتي عقدت مؤتمرها التأسيسي السبت 3 أكتوبر المنصرم بالعيون عن بعد تحت شعار "الأمل"، أي بعد أسبوعين تقريبا من تأسيس الهيئة الانفصالية . لكن الشيء البارز في أشغال هذا الجمع التأسيسي هو مشاركة رئيس الحكومة الإسباني السابق، خوسي رودريغيز ثباتيرو، صديق المغرب. وهو المؤتمر الذي وجهت فيه الحركة الجديدة رسائل ود واضحة للمغرب مقابل انتقاد الجبهة واتهامها بانتهاك حقوق الإنسان. أما الضربة الثالثة، فتتجسد في افتتاح يوم الأربعاء 4 نونبر الجاري قنصلية الإماراتبالعيون، وهي أول تمثيلية عربية في الأقاليم الجنوبية بعد العديد من التمثيليات الإفريقية. لكن الضربة الخامسة والقوية، فتمثلت في خطاب المسيرة الخضراء يوم 7 نونبر الجاري، والذي قطع الشك باليقين بالتأكيد على أن صبر المغرب من الاستفزازات الانفصالية له حدود. هكذا كان للخطاب الملكي ما بعده. إشارات حازمة في أسبوع الحسم يظهر التتبع اليومي لتطورات الأحداث في الصحراء منذ منتصف شتنبر الماضي، أن قرار التدخل النوعي المغربي لتحرير معبر الكركرات بدا جليا مع الخطاب الملكي يوم 7 نونبر، وهو اليوم عينه، الذي تأكد فيه فوز جو بايدن في الانتخابات الأمريكية. كما يتضح، أيضا، أن قرار التدخل اطلعت عليه بعض دول الجوار المعنية بالنزاع المفتعل، والذي عمر لما يزيد عن 45 عاما. فيوم 12 نونبر الجاري كان هناك اتصال هاتفي بين رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، ونظيره الإسباني بيدرو سانشيز، ورغم أن الطرفين لم يؤكدا التطرق لملف الصحراء، لكن لا يُستبعد أن يكونا تباحثا بخصوصه، خاصة وأن المصالح الاقتصادية والتجارية في موريتانيا تضررت من إغلاق المعبر، كما أن أي تصعيد قد يهدد أمن واستقرار المنطقة. يوم واحد قبل الاتصال بين الحكومتين المغربية والإسبانية، كانت الحكومة الموريتانية قررت التعبير عن موقفها علانية من عملية إغلاق معبر الكركرات من لدن عناصر الجبهة بعد صمت دام ل21 يوما. وقد أوضح الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية، سيدي ولد سالم، الأربعاء الماضي، أن «الدبلوماسية الموريتانية تعمل على حل مشكلة الكركرات بأسرع وقت وبأقل كلفة للمنطقة»، ووجه رسالة واضحة إلى البوليساريو قائلا: «هذه منطقة (الكركرات) منزوعة السلاح، وتابعة للأمم المتحدة، ومتعلقة بنزاع قديم». وأضاف: «ولله الحمد، لسنا طرفا في النزاع، وطبعا نحن معنيون به لأننا جيران لأطرافه». خرجة الحكومة لموريتانية كانت تزامنت، كذلك، مع زيارات مسؤول عسكري كبير للحدود الموريتانية المحاذية للمعبر، علما أن قيادات عسكرية مغربية سبق لها أن زارت المنطقة، استعدادا لكل الاحتمالات. يوم الأربعاء الماضي نفسه أجرى وزير الشؤون الخارجية الموريتاني، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، اتصالا هاتفيا مع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس. وتطرق الطرفان، وفق البلاغ الحكومي الموريتاني، إلى «الأوضاع المتوترة في شريط الكركرات»، كما تحدثا عن «خطورة الوضع القائم والتخوف من أن يؤدي إلى أعمال عنف لا تحمد عقباها». إذ أَطلَع غوتيريس الوزير الموريتاني على كل الاتصالات التي يجريها منذ يومين من أجل تجنب أي تفاقم للوضع على الميدان، لكنه لم يخف مخاوفه مما وصل إليه الوضع الميداني من خطورة. وطلب الأمين العام الأممي من موريتانيا أن تلعب دورها الإيجابي والمعترف به من كل الأطراف من أجل حلحلة هذه الأزمة، فيما أكد الوزير الموريتاني أن هذه الجهود قائمة بكثافة منذ أيام، وفق الحكومة الموريتانية. لكن فشل الأممالمتحدة في ردع الجبهة، دفع القوات المسلحة الملكية إلى التدخل وتحرير المعبر وتأمين حركة السير المدنية والتجارية التي استؤنفت بشكل عادي، وفق مصادر عدة، بينما لازال أفراد الجيش المغربي مرابطين في الحزام الأمني الذي مدد إلى النقطة الكيلومترية 55 مع موريتانيا، حيث انتشر، كذلك، الجيش الموريتاني، وفق مصادر من الجارة الجنوبية، ما يعني قطع كل السبل التي قد تستعملها الجبهة للعودة إلى الكركرات، لهذا يعتقد، وفق مصادر متطابقة، أن تكون الجبهة نقلت تشويشاتها إلى منطقة المحبس التي تبعد عن تندوف ب50 كلم فقط، وهو ما يسمح لعناصر الجبهة بالقيام ببعض الأعمال العقيمة قبل الفرار، على عكس الكركرات التي تبعد ب1500 كلم عن تندوف. كل هذه السياقات والعوامل والإشارات التي توجت بتأكيد وزارة الخارجية المغربية صباح الجمعة الفائت "أن المغرب قرر التحرك، في احترام للسلطات المخولة له، وذلك بمقتضى واجباته وفي انسجام تام مع الشرعية الدولية"، وهو التحرك الذي انتهى بتحرير المعرب. وردت الجبهة مباشرة بالقول إن "الحرب بدأت". بعد ذلك، أوضح بلاغ للقيادة العامة للقوات المسلحة الملكية، صباح يوم الجمعة نفسه، أنه أقيم ليلة الخميس- الجمعة، حزام أمني من أجل تأمين تدفق السلع والأفراد عبر المنطقة العازلة للكركرات، التي تربط المغرب بموريتانيا. فيما حاولت الجزائر الظهور بمظهر غير المتورط في الاستفزازات الأخيرة، داعية "المملكة المغربية وجبهة البوليساريو، إلى التحلي بالمسؤولية وضبط النفس". ويبقى التساؤل المطروح حاليا، هو هل سيقرر المغرب التدخل لفرض سيطرته على باقي المناطق العازلة في حالة قررت الجبهة مواصلة تهديداتها بعد إعلانها إسقاط اتفاق وقف النار؟