تتعالى الصرخات والهتافات.. المجلس البلدي ارحل، آل البوكيلي ارحلوا واتركونا نبني مستقبل أبنائنا بأيدينا، اتركونا نتنفس شيئا من نسيم الربيع الذي هب علينا وأنتم جاثمون على صدورنا، لقد عثتم في الأرض فسادا طوال عقود ملكتم كل شيء حتى لم يبقى لنا أي شيء. الدريوش تنتفض ويحق لها ذلك، كيف لعائلة أن تسيطر على كل شيء وتترك الفتات للشعب المقهور، كيف لنا أن نتمادى في صمتنا الذي كلفنا غاليا ونتركهم يخطون لنا الطريق نحو المجهول. شباب اليوم لم يعد يطيق هذا اللوبي الذي زرعه امحمد البوكيلي الذي تمنى لو اشترى كل شيء بالملايير التي يكدسها في بيته، لكن عقلية سنوات الرصاص ليست هي عقليات اليوم. إن الصرخات التي تعالت في الشوارع مطالبة برحيل المجلس العائلي، والذي لا توجد به معارضة تذكر لتدل على درجة الحنق الذي وصلت إليه الفئات الشعبية التي ترى أن آل البوكيلي الذين تربعوا على كرسي الرئاسة سواء محليا أو برلمانيا. فالكرسي لدى العائلة متوارث ولا يجب التفريط فيه، بل يعتبر كل منافس لها عدوا وجب الإطاحة به بشتى الطرق لأن ذلك يعتبرونه إرثا مقدسا لا يجب أن يحصل عليه غيرهم. البداية مع امحمد البوكيلي الشيخ الذي بقي خالدا في البرلمان وفي رئاسة المجلس البلدي، إلا أن تنحى وفرش الورود لابنه الذي يترأس المجلس الإقليمي أيضا لدخول البرلمان وكان له ما أراد. أما رئاسة البلدية فهي في قبضة وريث آخر والذي لم يبخل على عائلته واستجمعهم حوله ليكونوا مجلسا عائليا بامتياز. الساكنة التي خرجت للشوارع، لم تناد برحيل آل البوكيلي عن السلطة لمجرد الإسم بل إنها تعلم جيدا أن الفساد استشرى وعم الديار منذ عقود خلت ومازال، خاصة مع إحداث الإقليم الجديد والذي وجدت فيه عائلة آل البوكيلي فرصة للإنقضاض على المناصب وحجزها لأبنائها كما فعلت عضوة بالمجلس العائلي وحجزت لابنها منصبا بالمجلس الإقليمي دون مراعاة طرق ومساطر التوظيف والأحقية التي ينادي بها المعطلين الذين يظلون مسمرين أمام عمالة الإقليم والبلدية منادين هل من مجيب. بل إن الأمر تعدى كل الحدود وأصبحت رقعة السيطرة تتسع أكثر فأكثر، فها هو حفيد صهر آل البوكيلي يمسك بزمام الأمور بجماعة امطالسة منذ سنوات، وهاهو أيضا يورث ابنه بالبرلمان، وها هي آل القيشوحي تتربع على دار الطالبة والنادي النسوي وإلحاقها باللجنة الجهوية لحقوق الإنسان ووو… الغريب حقا أن آل البوكيلي أشكال وأنواع فهناك البوكيلي والوكيلي، لكن الجينات نفسها فهم يسيطرون على كل شيء :السياسة، الرياضة، العمران، التجارة. والغريب أيضا أن دواليب تسيير البلدية والمجلس الإقليمي تدار بالهاتف، فالأول يديرها من الناضور والثاني من الرباط بحكم أنه أصبح برلمانيا. لقد تشعبت الأمور وحار الجميع، ودعوني أختم مقالتي بهمسة في آذان امحمد البوكيلي: عاد الحاج امحمد البوكيلي من رحلته العلاجية وقد تماثل للشفاء واستعاد نشاطه بالكامل على أن الطبيب أرسل معه ممرضة لتسهر على رعايته، حاول الحاج أن يشرح للطبيب أن هناك ممرضات على أعلى مستوى في بلديته لكن الطبيب أصر على موقفه. الممرضة التى جاءت مع الحاج امحمد اسمها عزيزة جاوزت الأربعين من عمرها لكنها فى غاية النشاط والدقة. تم تخصيص حجرة لها فى استراحة الحاج بمنزله الفخم بجوار المكتب الشخصي. صارت عزيزة تدخل على الحاج عدة مرات يوميا لتعطيه الدواء فى موعده وتجري قياس الضغط وتأخذ عينات التحاليل لترسلها إلى المختبر. أمس فى الساعة الرابعة بعد الظهر كان الحاج امحمد البوكيلي جالسا وقد ارتدى ثيابا بسيطة وأنيقة: حذاء رياضيًا مريحًا وسروالا مريحا أيضا وقميصًا أبيض بكم طويل. كان غارقا تماما فى تذكر سنوات شبابه، فجأة شم الحاج رائحة غريبة. رائحة جميلة نفاذة تشبه رائحة المسك ظلت تسرى شيئا فشيئا فى أنحاء البيت حتى توقف الحاج عن التفكير ونهض من مكانه ليكتشف مصدر هذه الرائحة.. عندئذ حدثت مفاجأة، فقد رأى الحاج امحمد البوكيلي أمامه غمامة كأنها سحابة كثيفة من البخار ظلت تمتد حتى حجبت الرؤية. بعد لحظات انقشعت الغمامة ونظر الحاج إلى المقعد المواجه له فلم يصدق عينيه. كان شابا وسيما جالسا أمامه بهدوء وهو يبتسم.. تغلب الحاج على دهشته وقال أهلا وسهلا يا ابني.. كان الشاب فى الثلاثين وكان وجهه نضرا رائقا. ابتسم وقال: أهلا بك يا عمي الحاج. لا يا ابني.. أرجو أن تنادينى باسمى المجرد.. مازلت متواضعا كما عهدتك. لكنك رئيس منذ 20 عاما وهذا يفرض علينا احترامك ويفرض عليك أيضا حسابا قد يكون عسيرا. أطلق الشاب ضحكة خافتة لم يتجاوب معها الحاج امحمد البوكيلي لكنه قال بلطف: أتحب أن تشرب شيئا. لا شكرا. في المكان الذي جئت منه لدينا مشروبات رائعة لا تعرفونها أنتم هنا. هل أنت في الجنة يا ابني؟ هذه أشياء لا أستطيع أن أصرح بها لكنى والحمد الله أعيش هناك سعيدا راضيا. لا يكدر صفوي إلا ما يحدث في الدريوش. يا عمي الحاج لقد زرتك من قبل وفى كل مرة نتفق على أشياء لكنك لا تنفذها. أرجوك لا تغضب منى يا ابني. كثيرا ما تكون الظروف أقوى من الإنسان. نحن في العالم الآخر نتابع ما يحدث في الدريوش بالتفصيل. لقد انتهزت فرصة ذكرى وفاتي التي ستحل غدا واستخرجت تصريحا لزيارتك. لدى ما يجب أن أقوله لك. تفضل. إنى أستمع إليك. في تلك اللحظة سمع طرق خفيف على الباب فبدا التردد على وجه الحاج امحمد البوكيلي لكن الشاب ابتسم وقال: لا تقلق. لن يراني أحد سواك. دخلت الممرضة عزيزة وحيت الحاج وأعطته حبة دواء بلعها مع رشفة ماء ثم انصرفت.. تطلع الحاج إلى الشاب الذي قال: الدريوش فى رأيى لم تمر قط بفترة مثل الفترة الحالية. فقر وبطالة وفساد ومهانة، المواطن الدريوشي فقد كرامته قاطعه الحاج البوكيلي : هذا كلام المواقع الإلكترونية فقط. نهض الشاب من مقعده وبدأ يتكلم بحماس : بل هذه الحقيقة. نحن فى العالم الآخر نتابع كل ما يحدث.. الساكنة تحت خط الفقر يا عم. آلاف الدريوشيين يعيشون فى ظروف غير آدمية بالمرة. في السنوات الخالية صعد إلينا شاب برىء من الدريوش فقد حياته إثر الفيضانات التي اجتاحت المنطقة التي ما زالت منكوبة إلى الآن هل أحدثك عن الدريوشيين الذين يئسوا من الحياة في هذه البقعة القذرة المسرطنة والماء الملوث بالمجاري. أبرياء الدريوش يا عم… كل عهد له ايجابيات وسلبيات يرد الحاج البوكيلي: لم يحدث من قبل فى تاريخ الدريوش أن استهين بالمواطنين وبقيتم جاثمين على صدورهم. بدا التوتر على وجه الحاج وقال: يا أيها الشاب نحن نبذل مجهودا كبيرا لكن الزيادة السكانية المتزايدة تقضى أولا بأول على آثار التنمية. الشاب يرد بسرعة : هذا غير صحيح. فى ظل الإدارة الجيدة يمكن للزيادة السكانية أن تتحول إلى عامل ايجابى يساعد التنمية… ساد الصمت من جديد، ثم قاطعه الشاب متسائلا: يا عمي الحاج كيف توزعون أرض الدريوش على السماسرة وعائلتكم بالأمر المباشر.. ؟ أليست هذه أرض الدريوش الغالية التى قاتل أجداي أنا وأنت دفاعا عنها… ؟ نحن نحاول جذب الاستثمارات بكل الطرق… الحاج البوكيلي : لماذا لا تكون الاستثمارات مبنية على قواعد شفافة وعادلة.. ؟!.. هل هناك منطقة فب العالم توزع أرضها مجانا على الأفراد. ؟ اسمع يا عمي الحاج.. يجب أن أختصر كلامى لأن الوقت ضيق. . يا ابني ابق معى قليلا. أنا فعلا سعيد بلقائك. الحاج : أشكرك لكنى فى الواقع أنزل من العالم الآخر بتصريح محدد المدة.. يا عمي الحاج. كيف تقبل أن تورث السلطة لأبنائك.. ؟ من قال ذلك. ؟ هذا كلام الناس المغرضين يا ابني.. محمد وعبد الله ابنائي مواطنين مغاربة.. أليس من حقهم أن يمارسوا حقوقهم السياسية. من حقهم طبعا بشرط أن تكون الحقوق السياسية متوافرة للجميع.. فى ظل التزوير والرشاوي التى دشنتها يا عمي الحاج، فإن توريث أبنائك سيحدث لك مشكل. ابتسم الحاج وتطلع إلى الشاب بنظرة ذات مغزى وقال : اسمح لى يا ابني. تزوير الانتخابات والرشاوي. كلها أشياء ليست من اختراعى. كانت هذه أخطاء الأولين فلماذا تصر على إلصاقها بي.. ؟! ولماذا تأخذ من التنمية التي يشيدها أبنائي إلا سلبياتها.. ؟ أنا مندهش جدا من نوعية الشباب أنت ضحك الشاب عاليا وقال: ما هذا الكلام الفارغ. ؟ ألا تخجل من نفسك.. ؟ يا عم الحاج لن أطيل عليك.. خذ أخرج الشاب ورقة مطوية وأعطاها للحاج البوكيلي قائلا: . هذه عريضة كتبها إليك أبناء إقليم الدريوش. وقعوا عليها جميعا الحاج : ماذا يقولون فى هذه العريضة.. ؟ - أحب أن تقرأها بنفسك.. إنهم يؤكدون أن الدريوش قد وصلت إلى الحضيض فى كل المجالات ويطالبونك بتحمل مسؤوليتك تجاه أبنائك الذين يرثون إرثك الثقيل.. - إن شاء الله.. الحاج : - سأعتبر ذلك وعدا منك.. الشاب : ابتسم الحاج امحمد البوكيلي ولم يرد بينما تقدم الشاب نحوه وصافحه بحرارة قائلا: سأنصرف الآن مع السلامة. ظهرت الغمامة من جديد وحجبت الشاب ولما انقشعت كان قد تلاشى بينما راحت رائحة المسك تفوح بقوة.. ظل الحاج امحمد البوكيلي جالسا وعلى شفتيه الابتسامة التى ودع بها الشاب. طرقت الممرضة عزيزة الباب ثم دخلت وقالت: عمي الحاج. يجب أن أقيس الضغط مد الحاج ذراعه اليسرى وشمر قميصه وبدأت عزيزة تقيس الضغط بينما ظلت الورقة التى تركها الشاب مطوية أمامه لم يفتحها. الثورة على آل البوكيلي هي الحل.