زرت وجدة قبل أعوام، وكانت آخر زيارة لي .. في وجدة ليس ثمة ما يمكن أن يُزار غير الاسواق وباب قديم يؤثثه غبار لا متناهي…مدينة ، عبارة عن تجمع اسمنتي ، لا شيء سوى المباني، غابت فيها هي الاخرى المساحات الخضراء باستثناء طبعا بعض العشب المتناثر هنا وهناك كما في "سيدي يحيى".. مدينة تعاني من تآكل المساحات الخضراء إثر اجتياح البناء من كل الجهات… وأصبحت المدينة التي تَغَنى بها "شباب الرَّايْ" أشبه بمجمع إسمنتي، مدينة بلا هواء أو عاصمة بلا "هوية" حقيقية غير انها عاصمة الشرق.. لكن هناك إنجازات كثيرة وفي مجالات مختلفة تحققت، ولا شك أن هذه الإنجازات تزكي حماسة الوجديين لانهم يشعرون انهم ساهموا في تحقيقها . مناسبة هذا الكلام هو ما أثاره الإعلان عن توقيع اتفاقية إنشاء مستشفى جهوي في وجدة، من استياء في صفوف النشطاء وبعض المواطنين بإقليم الناظور، بعدما كان الناظوريون ينتظرون اخراج مستشفى الناظور الإقليمي للوجود، والذي يتعثر انجازه منذ 2017، حيث كان الحسين الوردي قد أعلن عن إنجازه قبل إعفاءه من مهامه الوزارية. لكن ما ذنب سكان وجدة ليتم حرمانهم من مثل هذه المشاريع ، "الله ايزيدهوم ، ويزيد إيزيدهوم اكثر " .. الكثير منا يعرف وجدة وأهل وجدة ، ومنا من قضى فيها اكثر من اربعة او خمسة سنوات… أهاليها أناس بسطاء ومحافظون جداً، تسود بينهم العلاقات الاجتماعية المتينة ويتعاونون فيما بينهم كثيرا .. أهل وجدة كرماء جدا ، لا يحملون ضغينة لأحد ، يحملون روحا طيبة ولا ترى منهم سوى الخير والطيبة، (ما قد لاحظه – بدون شك-الاصدقاء الذين قضوا فيها سنوات المرحلة الجامعية…) يعرفون كيف يسير العمل وتسير الأمور حولهم، يعرفون ما يريدون… يعرفون احتياجاتهم.. ولأنهم يعرفون ذلك، فإنهم يعرفون قدرهم ويدركون أهمية ما يقومون به.. للاسف نحن عكسهم تماما ، نعتقد اننا افضل من غيرنا ونحن مخطئين .. في وجدة لا ‘يقتلون' بعضهم بعضا كما نحن في الناظور نفعل ، في وجدة يؤمنون بالعدل " لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخية ما يحب لنفسة ." ونحن في الناظور نصنع عدلنا بانفسنا " لا يؤمن احدكم حتى يكره لاخية ما يحب لنفسه". معظمنا في الناظور أنانيون ، مغرورون و منافقون أخلاقيون ، معظمنا مصاب ب:"وهم التفوّق" … نذهب في اتجاه الرؤية المتضخمة لقدراتنا وصفاتنا، مثل مهاراتنا في القيادة والذكاء ؛ لا نؤمن بالاختلاف ولا بالتنوع.. وهما سنة الله في خلقة … دائما ما نعتقد اننا الافضل واننا على صواب والمختلفين عنا على خطأ . وهذا هو سبب كل الصراعات والخلافات التي نعيشها اليوم وفي الماضي … وللاسف الشديد سنصنع لنا اعداء من انفسنا في المستقبل.. حتى ان لم نجد اعداء فاعداؤنا في انفسنا المريضة المليئة بالكراهية والحقد والانانية …وهو ما جعل تقاعس المنتخبين برلمانيين وجماعيين والسلطات المحلية عن القيام بواجبهم تجاه الناظور وساكنته مجرد تحصيل حاصل… وضعٌ ، هو وحده من أوصل الناظور الى ما هو عليه… وليس أحدا آخر أو جهة أخرى. وفي المقابل نرى على الطرف الشرقي ، أن أداء وتفاعل برلمانيي وجدة المستمر مع قضايا المدينة وهموم الساكنة ؛ وعمل مجالس الجماعات، ومجلس العمالة ومجالس المقاطعات، و كل مجهوداتهم الرامية إلى معالجة الاختلالات المعيقة للتنمية بالمدينة؛ما هو الا نتيجة للغيرة الحقيقية للاهالي على مدينتهم وتوحدهم على مجموعة من القيم والمعايير المشتركة و تقاربهم وتنسيق خطواتهم وعملهم المشترك في احترام بعضهم البعض وفي تعاونهم مع بعضهم البعض.. ونتساءل نحن اليوم في غباء : " لماذا هذه المشاريع في وجدة " !!؟ لكن يا أصدقائي ، لو رددتم هذا السؤال على أي عاقل فيكم فسيضحك ملأ فمه ، ولن تخلوا لهجته من التهكم والسخرية . في وجدة يحترمون عملهم ، ويحترمون " الاختصاصات"، كل يحترم تخصص الاخر وفي أي مجال ، يؤمنون بتفسير وتوضيح الافكار بتعقل وهدوء، ويرون بعدها ضررها من نفعها ، أما نحن فلا نفقه الاَّ في أن ننفش ريشنا كالطاووس ونتظاهر وكأننا عُقلاء المدينة، نفهم في كل شيء ، نتدخل في كل شيء، وبالتالي وبجهل منا ، نحطم كل شيء . نحن هنا جهلاء، والأفضل أن نصمت فهو خير لنا من أن ندعي جهل الآخر.. وعِلمنا بالامور نحن، لا يتجاوز حرفي الحاء والراء … نردد الحرفين ونتباها بهما ونحن عبيد أنفسنا ! نحن شغلنا الوحيد الاوحد هو " النقد" نقد كل شيء ، بل وحتى نقد النقد ، المهم هو ان ننتقد ، في حين اننا – المفروض- لا ينبغي أن نفتح افواهنا في كل لحظة، لأننا مطالبون قبلاً بالإنصات للوقائع وتأملها وقراءتها ومراقبة الأفعال وردود الأفعال، حتى نتمكن في سيرورة زمنية معقولة من بناء فكرة حول هذا الحدث أو حول غيره، وليس مسموحا لنا أن نخطئ، لأننا إذا أنتجنا فكرة خاطئة ستظر بالمجتمع كله.. وهذا ما يحدث اليوم تماما . بل واحيانا نجد بيننا من يُبين عن حربائية ووصولية في التعامل مع تطورات الأحداث، فنجدهم يصرحون بالشيء ويتبنون عكسه وفي ظرف وجيز جدا لا يتعدى اليوم او اليومين. إنها فعلا أمور تثير الكثير من السخرية السوداء…وعلى الفنان في المدينة التقاطها ليصنع منها "مادة فرجوية"…!! نحن كلنا نحتاج ودائما إلى مسافة للتأمل وإنتاج الأفكار الصحيحة…. وهي ما لا نملك للاسف.! نحن المدمنون على مخدر النميمة نشتغل عليها ذهنياً لنضخمها حتى نشعر بأننا ضحايا لنُبرر بالتالي الدفاع عن أنفسنا بِتدمير الآخرين؛ بل ونسوقها لبقية أفراد محيطنا لاستقطاب الجنود المؤيدة لنا …وننقسم الى احزاب ومجموعات، ننسى شؤون المدينة وننشغل بتراشق الاتهامات و بمعارك هامشية واحيانا صبيانة، نتبادل السب والتهم الغليظة في مواقف تذكرنا بمشاجرة النسوة في الحمامات الشعبية..ننسى المدينة ونتركها تعاني من تمزقات و أمراض حوَّلتها إلى كتلة مُهملة…نُسهل على اصحاب القرار في الداخل مهمة وأدها و طمس هويتها ،وآخر ما علينا ان نتذكره هو عملية مسح اسم الريف من خريطة الجهوية المزعومة الذي قضى على الناظور و الحسيمة . هذا الانحلال الداخلي و انهيار سلطة التآزر والاتحاد والعمل المشترك أنتج تأزمات غائرة في بنية تفكيرنا و حوَّلنا إلى قطاعات غير مؤثرة في صناعة القرار و انشغلَنا بمعارك هامشية فأنستنا مسؤولياتنا الكبرى في دحر الظلم والفساد والتهميش الذي يولِّد إشكاليات اجتماعية و مآزق اقتصادية و تشوهات تُصيب المدينة بتجمد يُشل من حركتها. لا أحد يقبل الانصياع لهذه "الحتمية"، الواقع اليوم يفرض على الجميع معرفة قدره وإعادة حساباته وترتيب أوراقه من جديد قبل فوات الأوان..هذا إن لم يكن قد فات فعلا.