“الكماريرو” ليس نشيطا على ما يبدو، لكنه يبتسم حين يهش على المتسولين الذين يتناوبون على الزبائن بشكل مذهل هذه الأيام. المتسولون أكثر ذكاء من الوزير الأول الذي يدرع أروقة البرلمان مثل «بوهالي» في مارستان «سيدي فريج». هواء هذا الصباح مغلغل بروائح الأزبال ونفث عوادم السيارات. وفي الركن الخلفي من المقهى أستاذ منهمك في تركيب أرقام السودوكو، وآخر يقرأ صفحة من القلب إلى القلب، وهناك أيضا أستاذ في مقتبل العمر يناقش الصراع الطبقي وبين فينة وأخرى ينشد «زغردي يا أمي…». المقهى لا يكتمل مشمشها خارج أسئلة السياسية، أو خارج أسباب الجسارة التي هزت الحسيمة بكاملها، وعقرت ما تبقى من مجاز مدينة ذات عيار «سري للغاية». في هذه المقهى ننشد بعضا من سينفونية التشابه والسكون الذي امتزج بأفكارنا وتقيأناه خارج الكأس والرصيف. وفيها نتشتت كالخلايا ونتجمع كبقع الحمى على الشفاه، نتجمع في الفجيعة الكبرى كهبة من مرافي التراكمات القهرية. وما أعندنا حين نرمم قطبي الكرة الأرضية بأفكار لا تصلح لقتل باعوضة واحدة. فتغار منا خدع التراضي وتنصهر فينا المواويل القديمة. نصاب بالخواء فنلملم حشرجاتنا ونغرز رؤوسنا (رؤوسنا أفضل انغرازا من رؤوس النعام). نختلس لحظات الانفلات التي تبهرنا دوما.فتختمر خلايانا العصبية كالحفريات الراقدة، وننتزع من عرى الفكر موقدا: وانجذابا تلو انجذاب، ووهما تلو وهم، حتى نبع خوائنا وفراغنا القاعر، ونبع هزائمنا التي نحجم عن عدها لكي لا نتباكى عن ملامح بعضنا البعض، ونعجن الألفاظ الميتة في وجوه بعضنا البعض أيضا. على الساعة الثانية بعد الزوال، تشهد المقهى حفل تسليم السلط بين «الكماريرو» الأول والثاني، يلملم الأول وزرته وينصرف ليعد مؤشرات أسهم الموارد البشرية والمالية، ويبدأ الثاني محاولة توسيع دائرة المشاركة عبر خلق فرص أكثر وتأطير أكبر عدد من الزبائن في عملية معقدة تمتد إلى غاية منتصف الليل أيام الصيف. هذه هي مقهى النهج الديمقراطي، منفى ساخن وبورصة قيم ساخنة أيضا. أجدني فيها طفلا أكتب من فوق جليد أبكم… طفلا يتنفس على كلمات كالجمراة الكابية، ويبتكر عويلا للصباحات الميتة. في هذه المقهى أدخل في أسئلة لأخرج بعد سنين، ولعلني في دائرة التذكر الأسيف أريد أن أجعل من خغرافيا المقهى موطنا للحنين، أو لعلني هنا أقوم بتلك الإستعدادات الوهمية التي تقربني من طفولتي الأبدية…. الساعة الآن تقارب منتصف الليل، وحده قدر موحا يجوس الفضاء كآخر مقاتل لم يستودع السلاح،ولا أخبره أحد بأن الشهداء يغفون قليلا ويموتون كي يفرغوا للسهر. إستعمل حساب الفايسبوك للتعليق على الموضوع