بقلم/ذ.التجاني بولعوالي / باحث مغربي مقيم بهولندا، متخصص في علوم الإعلام وتقنيات الصحافة www.tijaniboulaouali.nl كنت أود دوما أن أقرأ كتابات لأقلام ريفية محلية تنحدر من المنطقة التي أنتمي إليها، أولا لأنها تجمعني بها ذكريات الطفولة والدراسة و(تازوفريت!)، التي تظل موشومة في الذات والذاكرة، وثانيا لأنه من شأن هذه الأقلام أن تقدم صورة تقريبية حول ما يجري في المنطقة من أحداث وتظاهرات، وثالثا لأنه بهذه الأقلام سوف يتمتن المشهد الثقافي المحلي، ويحقق نوعا من التراكم المعرفي، الذي به يغتني تراثنا الفكري والأدبي والإعلامي، و نحو ذلك. وقد بدأت في السنوات الأخيرة تطفو على سطح الواقع العشرات من الأقلام، التي تساهم بكتاباتها في شتى الحقول المعرفية، من أدب وفكر وسياسة ومجتمع وإعلام، وغير ذلك، وبغض النظر عن جانب الجودة لدى هؤلاء الكتاب، الذي هو دائما محط نقاش وخلاف على صفحات الإنترنت، فإنها تمكنت، بشكل أو بآخر، من إماطة اللثام عن العديد من القضايا والمستجدات والحقائق، إضافة إلى التراكم المعرفي، الذي نحن في مسيس الحاجة إليه. ثم إنه تجدر الإشارة إلى أن أغلب الأقلام، التي تؤثث فضاءنا الإعلامي والثقافي بمقالاتها الإخبارية، تنتظم في خانة الجيل الأخير، وهو جيل طموح ومندفع، رغم أنه يعوزه المزيد من التكوين والخبرة، إلا أنه يتميز بالكثير من الخاصيات التي تغيب لدى الجيل الذي يسبقه، كالجرأة، والموهبة، والحركة، والسبق، وغير ذلك. على ذكر الجيل السابق، أود أن أتوقف في هذه الورقة عند قلم معروف على صعيد واقعنا المحلي، لا ينبغي تجاهل اسمه، أو إقصاؤه من مشهدنا الثقافي والسياسي، رغم أننا نختلف معه في الكثير من القضايا والتفسيرات، وهو في الحقيقة اختلاف صحي ومطلوب، به تتحدد قسمات الحراك الثقافي العميق والشامل، الذي تشهده المنطقة، ويتأسس هذا الحراك على التنوع في المنطلقات والآراء والآليات، غير أنه يسعى إلى تحقيق نفس المقاصد والغايات. أعني في هذه الورقة الأستاذ محمد بوكو، الذي جمعتني به العديد من المواقف، التي كنا نتفق في بعضها، ونختلف في البعض الآخر، وكنت دوما أتوخى أن يكون اسمه حاضرا باستمرار في المشهد الثقافي المحلي، سواء من خلال التنشيط الجمعوي، أم عبر فعل الكتابة، لأنه رقم لا يمكن الاستغناء عنه في المعادلة الثقافية المحلية، وقد سعى الكثير من الإخوة المثقفين إلى استدراجه كي يساهم فعليا وميدانيا في المجتمع المدني المحلي، إلا أنه غالبا ما كان يعزف عن ذلك، لأسباب خاصة به! إن الاختلاف الفكري والأيديولوجي يعتبر مسألة ضرورية في حياة الإنسان والوجود، الذي خلق أصلا على أساس مبدأ التضاد والتنوع، فالاختلاف هو الذي يولد الأفكار الجديدة والرؤى المتغيرة، والاختلاف هو الذي يمنح الحياة ألوان قوس قزح، التي بها تزدهي وتزدان، والاختلاف هو الذي ينتج قيمة الجمال في الناس والطبيعة والفكر، فتصور كيف سوف تكون الحياة، لو أنها حبست في رؤية واحدة، ورسمت بلون واحد، واستنسخت في صورة واحدة! لذلك فالاختلاف ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ولا يمكن اتخاذها ذريعة للابتعاد عن الآخرين، وممارسة القطيعة مع الواقع، التي قد تستفحل لتصبح قطيعة مع الذات كذلك! لقد راقني أن يحضر الأستاذ محمد بوكو من خلال عموده في موقع الريفينو، الذي سماه (نيشان نيشان..!)، الذي كان من اللازم أن يحضر قبل سنوات عدة، وقد قرأت مقاله الأول المعنون ب (أزمة العمل الجمعي بالدريوش:1- تشخيص الواقع)، وسوف أحاول في هذا الصدد مناقشة بعض الأمور الخلافية التي وردت في هذا المقال، ولو أنني أتحفظ نوعا ما عن مصطلح (العمل الجمعي)، الذي نحته الأستاذ واستعمله تجنبا لأي التباس أو تداخل مع عمل الجماعات المحلية، وهو يدرك بأن المصطلح الأنسب لذلك، هو مصطلح (المجتمع المدني) في مقابل مؤسسات الدولة، والمؤسسات الربحية والاقتصادية، وقد قررت ذلك هيئات الأممالمتحدة في مختلف مواثيقها الدولية، بل وحسمت العديد من الدراسات العلمية والأكاديمية هذا الأمر. يبدأ الأستاذ محمد بوكو مقالته بقوله: “فالمتتبع للشأن العام بمدينة الدريوش يقف على واقع أشبه ما يكون بالموت في ظل غياب حياة سياسية ونقابية وحقوقية نشيطة وحركة جمعوية حقيقية ونشاط رياضي متنوع وفعال، بصرف النظر طبعا عن بعض التحركات التي تبقى غير مؤثرة لاتخاذها طابعا ظرفيا أو فوضويا أو مناسباتيا”، ثم يختم مقالته بقوله: “مما لا شك فيه أن التشخيص السابق يبين أن الصورة سوداء وقاتمة بشكل كبير”. وهو بهذا الحكم المطلق يحكم على المشهد الثقافي المحلي، في أبعاده المختلفة، من سياسة وحركة نقابية ومجتمع مدني ورياضة، وغير ذلك، بما يشبه الموت والسوداوية والقتامة! فهل فكر الأستاذ ولو قليلا قبل أن يطلق هذا الحكم الخطير والغريب؟ الذي يفتقد إلى الموضوعية والمصداقية والواقعية، لذلك أحاول الرد عنه من خلال التفسيرات الآتية: الأستاذ محمد بوكو لا ينقل لنا الواقع المحلي بشكل دقيق ونزيه، فمدينة الدريوش شهدت في الآونة الأخيرة حركة ثقافية ورياضية منقطعة النظير، من خلال مختلف الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية التي تنظم فيها، مما يعني أن الأستاذ لا يتابع الأخبار الخاصة بمدينته، التي أصبحت بعض المواقع الرقمية، كأريفينو وناظور سيتي، لا تخلو منها، لعل ما يقوله الأستاذ يصدق بشكل ما على الماضي القريب، أما الآن فالأمور تغيرت، والشباب أصبح أكثر وعيا، والمرأة الدريوشية دخلت على الخط، والمجلس البلدي صار يدرك قيمة العمل الجمعوي والثقافي. يبدو الأستاذ بوكو وهو يتحدث عن الشأن العام في مدينة الدريوش، كما أنها مدينة ضخمة، تقارن بفاس أو مراكش أو حتى العاصمة! فالتناول العلمي السليم يقتضي أن ننزل الأمور منزلتها، وأن نتحدث عن منطقتنا بالقياس إلى إمكاناتها البشرية والثقافية والمادية، إذ أن العطاء الثقافي لا يكون إلا بحسب الاستثمار البشري والمادي، وما دام أغلب مثقفي ومتعلمي المنطقة قد هاجروا إلى الغرب أو إلى بعض المدن المغربية الكبرى، وأن الاستثمار المادي سواء من الدولة أم من الخواص هزيل ومحتشم، فإن النتيجة المتوقعة معروفة مسبقا، وهي الرداءة في الإسهام الثقافي عامة، على هذا الأساس كان على الأستاذ بوكو أن يعالج الأمر بأسلوب منطقي، ولا يحاكم الغير، لا لشيء إلا لأنهم يقدمون ما في سعتهم، وحسب الإمكانات الهزيلة التي يتوفرون عليها، فعوض ما يثمن إسهاماتهم ويقيمها بصيغة موضوعية، فإنه يزرع بذور الفشل والإحباط في نفوسهم، وهو بذلك عوض ما يحفزهم، فإنه يثبطهم! ويبالغ الأستاذ بوكو أكثر، عندما يقدر عدد الجمعيات بمدينة الدريوش بما يناهز الخمسين، ثم يقول أنه “لا نجد بينها جمعية حقيقية واحدة بمعنى الكلمة”، فماذا يقصد بهذه الجمعية الحقيقية المثالية؟ ربما أنه يحلم بجمعية تنشط ليل نهار، وأنها تحضر بشكل متواصل في دار الشباب وخارجها، وتقدم له كل مساء طابقا من الفرجة والفكر والعطاء.. مما يعني أن الأستاذ الكريم لم يستوعب بعد مصطلحات: الجمعية، المجتمع المدني، العمل الجمعوي، وغيرها، وهي فضاءات تقدم مختلف التظاهرات والأنشطة، بشكل تطوعي وغير إلزامي، وكذلك بشكل تداولي بين مختلف مكونات المجتمع المدني، فلا ينتظر أبدا من جمعية ما أن تظل حاضرة، باستثناء إذا كانت مدعومة بشكل متواصل من الدولة أو من القطاع الخاص، كما هو الحال بالنسبة إلى جمعية دار الطالبة التي ذكرها الأستاذ، وجمعية دار القرآن التي لم يذكرها! ثم إنني لا أشاطره الرأي الذي مؤداه أن الجمعيات ذات طابع موسمي، وأنها لا تنشط بشكل دائم، لعل هذا ينطبق على الجمعية الواحدة، أما على مستوى مجموع المجتمع المدني، فهذا غير صحيح، لأن إسهام المجتمع المدني في كل مكان، يظل حاضرا من خلال تناوب أنشطة الجمعيات المختلفة، وهذا ما يحدث كذلك في الغرب، حيث ثمة جمعيات عريقة، غير أنها تساهم بنشاط واحد أو نشاطين على مدار السنة الكاملة، وهذا ما قد يسري كذلك على المجتمع المدني المحلي بمدينة الدريوش، الذي تتناوب عليه جمعيات مختلفة، كدار الطالبة ودار القرآن وجمعية المواهب وجمعية الشروق وجمعية المستقبل وجمعية حقوق الإنسان وجمعية أفريوان وجمعية بسمة، وغيرها. يتحدث الأستاذ بوكو عن الإفلاس السياسي بمدينة الدريوش، وأن التسيير المحلي بيد عائلة واحدة تتوارث هذا الأمر، وكنت أود أن يتطرق أكثر إلى المشهد السياسي العام، عوض نقل الكرة إلى مرمى مجلس المنتخبين، وهو بذلك يخلط بين ما هو سياسي، وبين ما هو انتخابي، وهما أمران مختلفان جذريا، وشتان ما بينهما! فعندما نتحدث عن السياسة بصفة عامة، فإننا نقصد بذلك المؤسسات السياسية والحزبية، التي تنشط دوما في مختلف مجالات الواقع، وتملك استراتيجية دقيقة ومركزة، سواء على المدى القريب أم المتوسط أم البعيد، وهي لا تقل أهمية عن مؤسسات المجتمع المدني، فهي تشارك بالعديد من الأنشطة التكوينية والإشعاعية والثقافية الموجهة إلى شرائح المجتمع كلها، بصرف النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية، وهي تساهم بذلك في زرع الوعي السياسي والتنظيمي لدى الناس، وهذا ما نحن في أمس الحاجة إليه. أما ما هو انتخابي، فيظل آنيا ومرحليا، وسرعان ما يتبدد ويختفي، بمجرد ما يتم الإعلان عن نتائج الانتخابات، لذلك فيلزم النخبة السياسية في المنطقة أن تؤمن بالفعل السياسي الجاد والنزيه والمخطط، قبل أن تفكر في ولوج حلبة الانتخابات، أما أنها إذا انتظرت حتى يأتي حدث الانتخابات، فإنها لا محالة سوف تبوء تجربتها بالفشل والنكوص، وهذا ما حدث لبعض الإخوة بمدينة الدريوش، ومنهم الأخ محمد بوكو، الذي كنت أفضل أن يتحدث عن آليات تفعيل العمل السياسي بالمدينة وتأهيله، بدل الحديث عن الإفلاس السياسي، الذي لا وجود له أصلا في الواقع، فالذي تحدث عنه إنما هو العمل الانتخابي الآني لا أكثر. إن من يقرأ ما كتبه الأستاذ الكريم، لن يمر مرار الكرام دون أن يطرح السؤال الآتي: ما هو موقع الأستاذ محمد بوكو في الموضوع الذي تناوله من الإعراب؟ بمعنى أكثر وضوحا، ماذا قدمه الأستاذ بوكو للواقع المحلي الدريوشي عامة، وللمشهد الثقافي خاصة، طوال ما يقارب عقدا من الزمن؟ لأن كل من يتأمل أفكاره وانتقاداته يفهم أن كل شيء على أسوأ ما يرام، وأن كل الإسهامات الثقافية بالمدينة لا تعني شيئا، ولا قيمة لها في ميزانه النقدي، في حين أن واقع الأمر يفند ذلك، لاسيما فيما يتعلق بالشأن الثقافي والرياضي والنسوي والتنموي، على هذا الأساس، فالكلمات الرنانة والعائمة لا تجدي في شيء، ولو أنها تسعى إلى تشخيص الواقع تشخيصا صوريا، من أجل نفي النفي، لا من أجل طرح البدائل الممكنة والحلول الناجعة، في ظرفية زمنية حساسة، ما أحوجنا فيها إلى أن نشمر عن سواعدنا، وننزل إلى الواقع، ويستفيد بعضنا من البعض الآخر، ونحن مسلحون بثقافة التضامن والتعايش والإيثار، وهذه دعوة موجهة بالدرجة الأولى إلى أخينا وصديقنا الأستاذ محمد بوكو، لينزل من برجه العاجي إلى واقع الناس، فيساهم إلى جانب إخوته وتلامذته في تفعيل الشأن الثقافي والرياضي والتنموي المحلي، الذي هو أمانة في رقاب الجميع. كنت أحبذ أن يتسلح أستاذنا الكريم بروح الموضوعية، ويتحدث عن الواقع المحلي بعيدا عن أسلوب التنميط والأحكام المسبقة، التي تربينا عليها، وما زلنا نحملها أينما رحلنا وارتحلنا، كنت أنتظر منه في معالجته للمجتمع المدني المحلي خاصة (وهذا ما أتوخاه منه)، أن يتريث عند أهم محطاته، وإنجازاته، ونماذجه، فيشمل بقراءته أهم الجمعيات والمؤسسات الثقافية والرياضية، ويتناول مسارها، مشيرا إلى إسهاماتها ولو كانت شحيحة! مع ذكر إيجابياتها وسلبياتها، محاسنها ومساوئها، فيضع بذلك حلقة أساسية في تاريخ المنطقة، الذي لا يمكن كتابة صفحاته إلا بتضافر جهود الأقلام المحلية كلها. لا زالت أتذكر الحديث الساخن الذي دار بيني وبين الأستاذ بوكو قبل حوالي سنة ونصف، حول أزمة المجتمع المدني بمدينة الدريوش، فكنت كلما طرحت عليه فكرة معينة إلا وسعى جاهدا إلى معارضتي وإثبات ضدها، ولا زال يرن إلى حد الساعة في خلدي قوله، أنه لا يؤمن بالمجتمع المدني، وأن العمل الجمعوي لا يجني منه شيئا، وهو يقصد المقابل المادي، فكانت صدمتي عميقة، غير أنني تفهمت سخطه على واقع الناس، الذين كانوا قد خذلوا مثقفيهم أثناء الانتخابات الجماعية المنصرمة، لكن رغم البعاد والاغتراب وامتداد المسافات عقدت العزم على أن أقدم أي جميل لمنطقتي، ولو كان معنويا ورمزيا، فأدركت أن أهم جميل يقدم لها هو تحفيز الهمم، والأخذ بيد ثلة من الشباب والنشء، الذين قد يعول عليهم في مستقبل الأيام، فكانت النتيجة مذهلة رغم أن العين بصيرة واليد قصيرة، حيث شهدت مدينة الدريوش حراكا جمعويا وإعلاميا لافتا، لا أدعي بأنني صانعه، وإنما أدعي بأنني ساهمت فيه بقسط معين، وأحيانا أتساءل لو أن الكفاءات الثقافية والعلمية المحلية جميعها، نهجت النهج نفسه، فساهم كل مثقف مثقف بنصيبه في المشهد الثقافي بمدينة الدريوش، فكيف سوف تكون الحصيلة؟ يقينا سوف يتضاعف الحراك الثقافي الذي تشهده منطقتنا أضعافا مضاعفة، فنلفى أنفسنا بعد فترة زمنية وجيزة أمام مشهد ثقافي مختلف تماما عما كان عليه في السابق؛ أمام المشهد الثقافي المثالي الذي يحلم به الأستاذ محمد بوكو، ونحلم به جميعا، فهلا تصالح أستاذنا الكريم مع مدينته التي نشأ فيها وشرب من مائها وتحركه دوافع الغيرة عليها، فترجم مشاعره الجياشة إلى عطاءات فعلية وملموسة، تستنير بضيائها الشوارع والمنابر والقلوب؟!