أنا الموقع أسفله.. الحامل لرتبة قبطان متقاعد..الساكن حاليا بفاس. اعترف للسيد … الساكن ب…والمزداد بدائرة… قيادة…إقليم…أنه شارك معنا جنبا إلى جنب في المقاومة بمنطقة..مشاركة فعالة داخل قيادتنا ..نحن الموقعين أسفله…نشهد ونصرح بأن المسمى…المزداد ب… إقليم..قد شارك معنا… حدثيني يالال، يا ابنة ثانوث الرمان، عن أيام الضنك. عن الأيام الخوالي. عن الطفح الراقص خلف الفيافي. حدثيني يا غزالة المرج الأخضر المذاب تحت أقدامك، عن شروقي وغروبي. عن “فضمة بنت المنصور” الراقدة فوق سرير لا ذهبي ولا فضي خلف سبعة بحور. لأنسج من طيفك الغالي المزين بالورد القاني أوتار عودي، وأنشد تراتيل الأجداد المحنطة بالقوافي. لأوشح خريفي الأدرد وقفطاني الشتوي بأزهى ربيع عمرك، تقولين قوس قزح أو زربية جبلية أو منديل ريفي لا شرقي ولا غربي، وهاك بعض الكحل يا لالة، وها إبرة الوشم، وها حروفا زرقاء وسوداء، وها ذقني، وها ظهري، وها صدري، لوحك المحفوظ فانقشي من الزهر الوشم ما ساح لك وما باح. هكذا يا لالة لمعت الفكرة في الرأس كالبرق. سرى في جسدي خدر لذيذ. وقررت أن أكون، إيه يا لالة.. من إفرني إلى أقاصي الشرق، خضت أشرس المعارك ضد أعتى قطاع الطرق. رميت بقشابتي على كتفي قبل طلوع الفجر بتفرسيت، وفتحت عيني بملاح أركمان، وشربت قهوة الصباح بمقهى الظهرة، وتناولت ما خلت غذائي من كروم مسيو جانيت بعين تموشنت. وقبل مغيب الشمس، كنت أزاول عملي حارسا ليليا لحقل الكروم الشاسع. أقول لك لم تكن الكروم شغلي ولا محرسي كان طيفك الغالي. أمضني الطيف وأضناني وأطار النوم من جفوني، وتخيلته في أشكال وفي أصناف من المخلوقات، ترقص على شتى النغمات، وتنطق بكل الأصوات واللغات. وفي الصباح، كنت إنسانا آخر، أو كأني لم أكن بالذي كنت. يخاطب أشخاصا غير مرئيين، يحاورهم. يجادلهم. يخاصمهم. يسالمهم. يحاربهم. صرت عرمرما من الخلق سبحان مبدل الأحوال. طلب مني أحد رفاق المحنة، وكنت صادقته بالصدفة، مدافعة لشآبيب التغرب والغربة، أن أعود إلى أهلي، فحالتي صارت لا تطاق. وتجَنَّدتْ والدتي، ومرغت وجهي بأتربة جميع أضرحة بني يزناسن والريف؛ من سيدي شعيب انفتاح إلى سيدي إبراهيم البطال، وسيدي ميمون، ومولاي علي الشريف، ومولاي إدريس، وسبعة رجال بثمزوخث…ونمت بجميع الزوايا، وعلقت تعاويذ كل فقهاء الريف وجبالة. لكن رجال البلاد، رفضوا إطلاق سراحي. وأسرَّ السي البرنوصي، لا رحمه الله، لوالدتي، بأنه لا رجاء في شفائي، لأني مسكون بحسبه، ومملوك (هكذا) على الشيوع لمجموعة من قبائل الجن، وواقع ضمن أملاك الضم، وغير قابل لا للرهن ولا للبيع ولا للقسمة، وإن أي طلب للقسمة أو غيرها سيؤدي إلى حرب لا نهاية لها بين الجن والإنس إلى يوم يبعثون، وما عليها إلا أن تحمد الله على المصاب الجلل، وتدعوه الفرج والسلام. وعند هذا الحد من اليأس، يا الشريفة، انطلقت أجوب البلاد؛ أقطع الوديان والوهاد، أحكي للصغار والكبار، أحدثهم عن عاد وثمود، ويوغرطه، وحنيبعل، ومغامرات أبي زيد الهلالي. وأجزمت للسامع والناظر، والبعيد الذي بلَّغه القريب. أجزمت لهم كلهم أني رأيت، ولما كنت أسأل كنت أجيب: بأن الهلالي كان يهش الذباب عند باب خيمة الزناتي. أقول لهم: إني رأيت المهدي، وأحيانا أصرخ: أنا المهدي. ثم أعود لأقول: إن اليهودي الذي كان يصنع البرادع في سوق قبيلتنا صار رجل أعمال في إسرائيل، وأن عمي حدو، الله إذكرو بخير، أقسم أغلظ الأيمان، بأنه لن يعود إلى هذا البلد الذي نُهِبَ تينه، وهُتِكَ رمانه، وأفسِدَ زيتونه، وسُرِقَ زبيبُه، سيغزوا قشتالة بنسله وعياله، وأنه قال: إذا كان الأجداد غزوا الجزيرة غزو الأسياد، فسنغزوها غزو الخدم والعبيد. سأغزو حقول طماطم الجنوب بعيالي كالجراد. وسأصرخ بأعلى صوتي: ابذروا الغبن لتحصدوا المذلة. ها نسلي يا بحر خذه طريا، وها سيفي يا سيدي الإيبيري، اِرمه في هذا البرزخ هنيا. وأقسم. أقسم بأغلظ الأيمان، أني لن أمد إليه يدي مرة أخرى. ها قفاي ها ظهري سَرِّجْهُ أو بَرْدِعْهُ واركبه سَنِيّا. ها أنا حفيد طارق، تدفعه المطارق، أكفر عما فعل الأسلاف. اعتذر يا سيدي عن كل قطرة دم أسيلت في أنوال. ألفظ شعر الفروسية، وأقرأ على ابن زيدون وابن ميمون السلام. ألوم وجودي ومن أوجدني، وأقول لا لليمين ولا لليسار، وأسير فيكم، أسيادي، سيرة الرعاع الأنذال، وعلي المنة ولكم مطلق الأحوال. هكذا ركب أبا حدو يخته من المطاط، وانطلق من ساحلنا ينشد غزوته، ولم يظهر له بعد ذلك أثر لا في البر ولا في البحر. وذات يوم، يا لالة، وأنا اتجول في رحبة السمك بسوق الأحد، بين عرائشي وبيضاوي، وبني أنصاري، وحسيمي، سمعت، وكأني، هاتفا، ينقنق أزيزه في أذني. نظرت يمنة ويسرة. نظرت في الوجوه علني أتعرف على أحد. لكن..هممت بالحركة. عاود الصوت هسهسته في مسمعي. تسمرت، على إثره، في مكاني. جلت ببصري في جميع الاتجاهات. تمليت الأشياء من متحرك وجامد. ثم..ثم..رأيت ويا للعجب.رأيت العجب العجاب والله وتالله. أي روح تلبست تلك السردينة اللامعة، وهي تحرك زعانفها تجاهي. خمنت. ربما كانت بدورها جنية تريد حقها مما هو مشاع مني. استعرضت جميع قصص الجن التي رُوِيتها، فما وجدت ولا واحدة تذكر بأن الجن يتلبس السمك. لعنت إبليس وذريته، وحملت أطرافي حملا وهي ترتعش، أبغي الحركة، فربما لم يكن ذلك إلا من تخيلاتي. لكن الزعانف استمرت في الإشارة. يا إلهي! قررت. دنوت من البائع الذي ما إن رآني، حتى نهرني نهرا. أشرت بأصبعي إلى السمكة أستعطفه. ناولني إياها، ولم أصدق، تلقفتها وأسرعت أبتعد وغمغمات البائع تلاحقني. أسرعت أشق الجموع لا أبالي بالركلات ولا باللعنات. حتى تواريت خلف صور خربة. جلست. أخرجت السمكة. بل لا أخفيك، يا ابنة الكرام، أني قبل أن أفعل، قرأت سورة الإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي. أسلمت أمري للخالق الرحمان، وقلت إن كان من الموت بد، فخير لي أن يكون على يدي هذه السردينة. أخرجتها. طلبت الأمان. امتنتني مبتسمة. قالت: أيها الآدمي. أنا سمكة ولا غير. بل أن أميرة من أميرات ممالك السردين. ولما تبينت وجلي. صرخت: مم يمكن أن تخاف يا آدمي. لا أهل لك، ولا نفس، ولا مال، ولا غيرهما. أنا أعرف قصتك. ولا وطنية. حتى الوطنية خلت منها نفسك. ندت مني تنهيدة. أنت بلا روح، ومع ذلك تخاف؟ أضافت ساخرة. انتفضت. طمأنتني مرة أخرى وواصلت كلامها. حدثتني عن ممالك السمك وأنواعه وأصنافه وأجناسه. وعن معاهدات الصيد البحري، والسوق الأوربية، والطماطم المغربية، وعن السياسة الدولية، وعن فلسطين وعن الربيع والخريف، وأطالت الحديث عن كؤوس العالم، والديربي البيضاوي والإسباني. حتى أنت؟ نبست. ولم تنس خطة إدماج المرأة والتنمية البشرية، ومدونة الأسرة. من أين لك كل هذا؟ همست، ولم تبال. ثم عرجت إلى أحوال الطقس والكوارث. أخرجت لفافة تبغ، وقبل أن تتقد مؤخرتها، نطت تخطفها مني، وتمجها بتلهف إلى أن أتت على آخرها. وسألتني إن كنت أدخن القنب الهندي أو إحدى مشتقاته. ولما أجبتها بالنفي، والله يعفو، بزقت كرية صغيرة خضراء، وطلبت مني أن أحشو لها سيجارة. وحدثتني عن الكميات الوفيرة من هذه المادة المنتشرة في البحر، وأن الأسماك كلها سارت تتعاطها، همست. انتشرت عادة “التجوان” بين السمك. فعلت ما طلبت مني. أشعلت اللفافة، وبدأت تمص وتنفث دخانها بلذة غير معهودة. طلبت مني أن أسمح لها بدقيقة كي تنتشي. واصلت بعد برهة: الحشيش موجود عندنا بكثرة. ضحكت. بعض الممالك سارت تتعاطى زراعة القنب، وخصصت له مناطق محمية من التلوث. قريبا سنصير مصدرين. صمتت. قطبت ما بين حاجبيها. انتفضت، ثم واصلت بألم أحسسته يسري في جسدي: ليس الحشيش وحده المنتشر عندنا. بل الأجساد الآدمية أيضا حتى صرنا نعاف أكلها.وقد كونا جمعيات لحمايتها والدفاع عنها، وبنينا لها قبورا أيضا؛ قبورا للمغاربة، وأخرى للجزائريين، وأخرى للأفارقة من جنوب الصحراء، وأخرى للأطفال، وغيرها للنساء، وبنينا مستشفيات، وهيأنا أخرى متنقلة، لإسعاف الجرحى، وتوليد النساء الحوامل.أرأيت كم نحن رفقاء بكم، ومدى إنسانيتنا تجاهكم، وحيوانيتكم تجاهنا، وتجاه بعضكم البعض! واعلم أنني هنا متطوعة لحمل وصية لك من قبل صاحبك المدعو أبا حدو، والذي نزل ضيفا على مملكتنا منذ أيام، وهو يقرئك السلام، ويجيز لك الرواية عنه إجازة شفهية، لتعذر الكتابة تحت الماء. وتنهدت. وها أنا أنهيت، فاعمل ما بدا لك أيها الآدمي الخبيث. أصابني تحير. حرت. خمنت كثيرا. قلبت الأمر يمينا وشمالا. تأملتها، وعدت أخمن.. هممت.. تراجعت..حملت السمكة بين كفيَّ، ونفسي نفسان؛ نفس نزاعة للشوى، ونفس تَصْلَى الألمَ والحسرة الكبرى.. نفس أمارة، ونفس لوامة. هكذا إلى أن بلغت الشاطئ.مكثت ساعة أو أكثر، وأنا أحاول الانتصار لإحدى النفسين، والسمكة تراقبني باستسلام. انتصرت بادئ الأمر للنفس الأمارة. جمعت حزمة حطب. أوقدت فيها نارا.علا اللهب وارتفع. هممت بها، فهمَّتْ بي النفس اللوامة، وذكرتني بأهوال القبور، والسراط، والحشر، آآآربي السلامة. اشتدت قرقرة بطني، وتذكرت رائحة السمك المشوي. يا أيتها اللذة الغارقة في الخطيئة ، اِرجعي إلى رشدك ارجعي. دعيني يا نفسي أحسن ولو مرة مدى عمري…قررت اخيرا أن أرجع السمكة إلى البحر، وأشكرها، وأقدم لها اعتذاري عما اقترفته في حقها، وفي حق جميع الأسماك، من جرائم حرب وسلم . نزعت حذائي. بسملت. قبلتها بحنو. ذرفت بعض الدمعات. ونزلت إلى البحر. وضعتها برفق في الماء. حيتني بزعانفها. غاصت، ثم طافت. حيتني مرة أخرى ثم غاصت. اِنتفضت النفس الأمارة غاضبة لائمة معاتبة..يا لائمتي..انتفضت النفس اللوامة. احتد الصراع. ارتفع اللغط بداخلي، يا لالة، في البداية كان جدالا، ثم صار اشتباكا بالأيدي، فحربا ضروسا بكل أنواع الأسلحة. انتفضت أطرافي، وأخذ كل طرف يتجه في الاتجاه الذي يرتضيه لنفسه. ثقل علي الأمر وشكل. اقشعر بدني. صرت كرة هوائية تتقاذفها الهواجس والخواطر والصراعات. استسلمت. وأحسستني ارتفع عن سطح الأرض. ثم وجدتني أجوب الأمكنة والأزمنة، أروي عن ابا حدو بالسند الصحيح..وهذه حكايتي يا لالة، فهلا أطفأت ناري، وأرحت بالي، وأسكنت هلعي بحكاية منك، كان الله لك.