أخرجته قضية الكوميسير ثابت إلى دائرة الضوء وعجز الاتحاديون عن إزاحته و وجد نفسه في عين الإعصار في حملة التطهير الشهيرة سعد المرابطي – ترجمة: سعيد الشطبي – (كريم فزازي) عُين مولاي الطيب الشرقاوي، مؤخرا، وزيرا للداخلية مكان شكيب بنموسى. حمل هذا التعيين رسائل واضحة لعل أهمها تصحيح صورة أم الوزارات بعد الهزات التي تعرضت لها. الرجل معروف بمساره المهني والتكويني السليم، لذلك كان دائما محط رعاية خاصة من السلطات العليا. نجح في تدبير العديد من الملفات وتصفية الكثير من القضايا، قبل أن يقع عليه الاختيار لتحمل مسؤولية الداخلية في وقت بات فيه التدبير الحكومي يحتاج إلى كفاءة نوعية، قد لا يكون فيها البعد الأمني المحض هو المحدد الرئيس. بورتريه عن ابن أبي الجعد، ابن شرقاوة. يعد مجيء مولاي الطيب الشرقاوي إلى وزارة الداخلية وتعيينه على رأسها حدثا مهما في حد ذاته، فكل التعيينات الجديدة في مختلف المناصب الوزارية بدون استثناء لها حمولات عميقة، كلٌ في مجالها. البعض منها له أهميته الخاصة. تعيينٌ برسائل خاصة فضلا عن أن الشخص معروف بنزاهته واستقامته وكفاءته وعمق روح المسؤولية تجاه الدولة، فإن تعيينه يحمل، أيضا، إشارة قوية من السلطات العليا مفادها أن وزارة الداخلية تستعيد استقلالها التام والحقيقي مع هذا الرجل الكتوم، حد الخجل، وأنها تتوفر اليوم على ضامن أساسي لهذه الاستقلالية في شخص الرجل الذي كان رئيسا للمجلس الأعلى. فالرجل من عيار ثقيل، صاحب شخصية قوية وصارمة. لكن الأهم فيه هو تجرده من أي ارتباط سياسي- سياسوي، وهو ما من شأنه أن يعيد التوازن إلى العلاقات بين مختلف القوى السياسية وإعادة تأطير الحوار الاجتماعي حسب تصور جديد مبني على الإنصات والتحليل والعمل العميق. ورغم أن الرجل ليس بالأمني المتخرج من صلب الجهاز الأمني المغربي، سيسهم هذا القانوني المتمرس في إعادة الهالة الأمنية لوزارة الداخلية وسمعتها كوزارة أساسية في العمل العمومي، خاصة بعد تراجع أدائها الأمني، الذي تسبب في تصاعد الأعمال الإجرامية والجنح بمختلف أنواعها. لاشيء كان ينبئ بأن هذا الرجل، المولود في أبي الجعد سنة 1949، سينضم ذات يوم إلى وزارة الداخلية، أو سيصعد هذا الصعود السريع إلى قمة الهرم الحكومي باعتبار الداخلية أم الوزارات. هو ابن رجل أعمال اغتنى في قطاع العقار. فكان، إذن، الطريق واضحا أمامه لكي يهتم بشؤون العائلة وأعمالها التجارية والزيادة في تنميتها. لكن، ما كان للأب، مولاي عبد العزيز الشرقاوي، أحد أعيان شرقاوة الكبار، الذي كان تقيا، سخيا، محبوبا ومحترما، بل مهاب الجانب لما كانت عليه شخصيته من قوة واستقامة وكره للظلم، أن يدع الإبن الطيب يقتفي أثره في نفس مجال العقار. فالمرحوم الحاج عبد العزيز كان يطمح إلى أن يرى ابنه متعلما، مثقفا، مطلعا على بحور العلم، لا مقاولا عقاريا يلهث وراء ربح الصفقات. الخروج إلى دائرة الضوء مرت السنوات، فحصل مولاي الطيب الشاب على إجازة في الحقوق، قبل أن يضيف إليها شهادة من المدرسة الوطنية للقضاء في باريس، ثم دبلوما في الدراسات المعمقة في السوسيولوجيا من جامعة بوردو الثانية. وكلل تحصيله العلمي بدبلوم الدراسات العليا في العلوم القانونية من نفس المؤسسة الفرنسية. وبعد تقلده العديد من المسؤوليات على رأس نيابات مختلف المحاكم بالمغرب، زاول مولاي الطيب مهامه كوكيل للملك بمدينة الجديدة إلى غاية سنة 1992 دون أن يعرف أحد اسمه أو يتعرف على شخصه. تطلب الأمر، إذن، انتظار حدث وطني من حجم كبير كي يخرج الرجل، أخيرا، من الظل وتسلط عليه الأضواء. فقد شهدت تلك السنة انفجار قضية العميد ثابت الأخلاقية، التي تطلبت تحقيقا خاصا نزيها وجديا؛ فكان لابد من إخراج مولاي الطيب إلى العلن لكي يشرف على القضية من دون تحيز أو مراعاة لأي جهة كانت. لأجل ذلك، عُين الرجل وكيلا عاما للملك بالدار البيضاء. وزير العدل آنذاك، مولاي مصطفى بلعربي العلوي، الذي كان يعرف جيدا خصال مولاي الطيب من خلال اجتماعات المجلس الأعلى للقضاء، التي أبان فيها الأخير عن جدية ونزاهة واستقلالية كبيرة، وضعه على رأس النيابة العامة للدار البيضاء. ومنذ ذلك الحين، ظل مولاي الطيب مقدرا للمعروف الذي أسداه له مولاي مصطفى بلعربي العلوي عندما وضعه في فلك المجد والمستقبل الكبير، المحفوف بالمسؤوليات الاستراتيجية؛ فالاضطلاع بمسؤولية النيابة العامة هي العتبة المؤدية إلى عوالم النجاح المستقبلية. وخلال محاكمة الكوميسير ثابت، كُلف مولاي الطيب الشرقاوي بتدبير الشؤون السياسية والعلاقات مع الإدارة المركزية والدرك الملكي الذي كان مكلفا بالتحقيق في القضية، فيما أُبعدت الشرطة كليا عن الملف؛ وهو ما أثار غضب ادريس البصري، الذي وجد نفسه فجأة في «عطالة تقنية» في هذه القضية التي تتبعها من بعيد كأي متفرج عادي. كان مولاي الطيب ينسق التحقيق مع الدرك الملكي، خاصة مع الجنرال ادريس بنونة والكولونيل ماجور السربوت، اللذين ينتميان معا إلى القيادة العليا للدرك ويعتبران من المقربين جدا من حسني بنسليمان ورجلي ثقته. والقضية كلها كان يسيرها من وزارة العدل عمر دومو مدير الشؤون الجنائية والعفو في الوقت الذي كان فيه الوكيل الشاب، اللامع نور الدين الرياحي، يقود الجبهة على مستوى المحكمة تحت أوامر مولاي الطيب الشرقاوي وعمر دومو، إذ أوكلت له مهمة الدفاع عن مصالح النيابة العامة لغاية إغراق الكوميسير ثابت، فعُرف بمرافعاته الشهيرة. الشرقاوي المتلفع برضى المخزن وخلال سنة 1996، أثناء الحملة التطهيرية، وجد مولاي الطيب الشرقاوي نفسه في عين الإعصار. فبأوامر منه، وبتعليمات من ادريس البصري، كما سيعترف بذلك وزير العدل نفسه، عبد الرحمان أمالو، تم التحقيق بسرعة في أكثر من 1200 ملف، جل المتهمين فيه كانوا أبرياء؛ الأمر الذي ترتب عنه ضياع مستقبل العديد من الأشخاص، وتشتت الكثير من الأسر. تلك كانت هي النقطة السوداء التي لطخت مسار مولاي الطيب رغم أن عبد الرحمان أمالو حاول، فيما بعد، تبرئته من المسؤولية وتحميلها كليا لإدريس البصري. لكن بعد فوات الأوان. فالرجل لحقه ما لحقه من الأذى. وعندما أراد وزير العدل عمر عزيمان أن يتخلص من عمر دومو القوي في إدارة الشؤون الجنائية والعفو، كان له ذلك، بيد أنه لم يحصل على الإذن باقتراح خلف له. فضدا على رأي عزيمان، تم تعيين مولاي الطيب الشرقاوي، الذي كان قد راكم قدرا كبيرا من الأهمية والأهلية المهنية منذ خروجه إلى دائرة الضوء. البعض قال إن تعيين مولاي الطيب في هذا المنصب الاستراتيجي كان وراءه أحد أبناء عمومته، ذوي المكانة الخاصة في الدولة. يتعلق الأمر بزوج الأميرة للا مليكة، شقيقة الحسن الثاني وابنة محمد الخامس. باتت، إذن، جميع أوامر الدولة تمر من بين يدي مولاي الطيب بعد أن ترقى إلى هذا المنصب الحساس. فصلاحياته الجديدة وسلطته الكبيرة أضحت توفر له إمكانية مراقبة جميع الوكلاء العامين ووكلاء الملك عبر ربوع المملكة. وجميعا، نتذكر هنا عندما حاول وزير العدل الأسبق الاتحادي أن يقترح اسما آخر ليسهل عليه التحكم في دواليب القرار وكيف تم صده بعنف من قبل الديوان الملكي. الأمر الذي حمل العديد من الإشارات الواضحة، أهمها أن مولاي الطيب بات يتمتع بحماية من أعلى سلطات البلاد، وأن الرجل جار تحضيره إلى مهام أكبر. ومع مرور الوقت، تنامت قيمة مولاي الطيب وزاد وزنه الاعتباري في هرم السلطة. فقد أصبح يعتبر الرجل القوي في وزارة العدل، بعدما صار بمثابة حلقة الوصل التي لا محيد عنها بين الوزارة التابع لها ووزارة الداخلية. أما مخاطبه الأول فهو الوزير الأسبق المنتدب لدى وزارة الداخلية فؤاد عالي الهمة. فالرجلان يتبادلان الاحترام والتقدير، إلا أنهما بعيدان عن «التورط» في أشياء مشتركة، إذ أن كل واحد منهما يلعب دوره في مجال تخصصه وفي نطاق ما تتيحه له امتيازاته المهنية. وهذه الاستقلالية الفكرية هي التي رفعت من شأن مولاي الطيب لدى السلطات العليا في البلاد. وفي العام 2007، شفعت له هذه السمعة في أن يُعين وكيلا عاما لدى المجلس الأعلى للقضاء. وهو المنصب الذي كان على مقاسه، هو القانوني الذي تعود دائما على المرافعات؛ مع الفارق طبعا. فالرجل يتربع على قمة الهرم، في مركز يبدو كما لو أنه فُصل على مقاسه. في أقل من سنة، وبعد تعيين ادريس الضحاك أمينا عاما للحكومة، أصبح منصب الرئيس الأول للمجلس الأعلى للقضاء شاغرا، فكان طبيعيا أن يُعهد به لمولاي الطيب الشرقاوي، الذي حظي بثقة الملك لشغل وظيفة دستورية، علما بأن الرئيس الأول للمجلس الأعلى هو، في الوقت نفسه، رئيس مجلس الوصاية كما ينص على ذلك الدستور. المنصب، إذن، يخول للرجل مكانة متميزة في هرم الدولة. تعيين على المقاس اليوم، يحل مولاي الطيب الشرقاوي محل شكيب بنموسى، الذي اعتُبر، في وقت من الأوقات، ثابتا في مكانه، غير قابل للإزاحة أو التجاوز. بيد أن مصلحة الدولة ارتأت غير ذلك. ومما لاشك فيه أن «الشريف الشرقاوي»، كما يلقبه المقربون منه، سيعرف كيف يعيد الروح المفقودة إلى وزارة الداخلية. المطلعون على الكواليس الحكومية يذهبون إلى القول إن بنموسى رُحل من إقامته العامة على إثر حدثين اثنين. أولهما تدبيره لقضية أمينتو حيدر التي تميزت بغياب رد الفعل الاستباقي والعجز عن قراءة المخاطر والتبعات التي أساءت لصورة المغرب أمام العالم؛ ثم عجزه عن نسج روابط متينة ومرنة مع مكونات المجتمع بشكل عام. كما أن جهله بطبيعة وزارته الاستراتيجية جعلته يراكم الأخطاء. مهمة مولاي الطيب الرئيسة، إذن، ستكون هي إعادة الاعتبار لأم الوزارات. ولعل العيب الوحيد، الذي قد يعوق عمل رجل القانون الجديد في الداخلية، 61 سنة، هو كونه يعدم التجربة الميدانية، لأنه ظل دائما يشتغل في الظل، كرجل متخصص في الملفات. صحيح أنه أبان عن مهنية كبيرة بصفته رئيسا للنيابة العامة في العديد من مناطق المملكة، قبل أن يحط الرحال بمحكمة الاستئناف بالبيضاء، ثم بمديرية الشؤون الجنائية والعفو، ووكيلا عاما لدى المجلس الأعلى للقضاء، فرئيسا لهذا المجلس، غير أنه ظل دائما يعمل في المكاتب المغلقة. لكنه اليوم يجد نفسه أمام مهمة من طبيعة خاصة، تتجلى في تدبير ومراقبة جميع الجوانب الاجتماعية والسياسية والنقابية والاقتصادية والأمنية للمملكة، مع ضرورة التواجد الدائم في الميدان بمختلف جهات وولايات وعمالات وأقاليم المغرب، والسهر الاستراتيجي الدائم على كل صغيرة وكبيرة. ينتظر منه، أيضا، أن يعيد تنظيم المصالح المركزية لوزارته ويتخذ الخيارات الصائبة لتشكيل فريق عمله. صحيح أن الفريق الناجح لا يجب تغييره، لكن عندما يغير الفريق مدربه – كما هو الحال في وزارة الداخلية – فمن الطبيعي أن يعمد الرجل الأول الجديد إلى إحاطة نفسه برجال ذوي كفاءة عالية، وبأشخاص نشيطين، من مستوى مهني متميز؛ والأهم في هذا كله أن يكونوا نزهاء وذوي حس عال فيما يخص الوعي بخدمة الدولة. وفي سياق المهام المنتظرة من الوافد الجديد على الداخلية، أيضا، العمل على إعادة الاعتبار لرجال السلطة المتخرجين من صلب الداخلية، ومراجعة أوضاع وشروط عملهم، وتلك التي تشتغل فيها جميع المصالح الأخرى التابعة لوزارته مثل الشرطة والقوات المساعدة ورجال المطافئ وأعوان السلطة، أي الشيوخ والمقدمين الذين يشكلون عصب الوزارة. مؤكد أن مولاي الطيب الشرقاوي، هذا الرجل التقي المعروف بقربه من ياسين المنصوري، الرجل القوي في «لادجيد»، والذي يتقاسم معه أصوله الشرقاوية في أبي الجعد، ستكون له الحكمة المطلوبة والإصرار القوي والحذر الواجب – وهي صفات ليست بغريبة عنه – من أجل النجاح في مهمته وتهيئة الورش الكبير الذي ينتظره. يتعلق الأمر بتطبيق توصيات المجلس الاستشاري للجهوية، الذي عين الملك أفراده مؤخرا. البعد الأخلاقي أساس العمل القضائي والتشريع القانوني التكوين العلمي القانوني والسوسيولوجي لمولاي الطيب الشرقاوي سيجعله لا محالة أهلا للمهمة المنوطة به، خاصة أن الوزارة المعين على رأسها راكمت في السنين الأخيرة مجموعة من الهفوات التي كانت تحتاج فيها إلى شخصية من عيار مولاي الطيب الشرقاوي، الجامع بين التكتم والحذر والكفاءة والتمرس والتحصيل العلمي المتشعب. كما أن ممارسته المهنية الطويلة أتاحت له الاطلاع على ملفات حساسة وقادته إلى تولي مهام ينوب فيها عن الدولة، وإلى المعرفة بما يحتويه السجل العدلي المركزي والنظر في طلبات العفو والكثير من قضايا السراح الاستثنائية. ويبقى البعد العلمي الأكاديمي، المتميز بالتكوين السوسيولوجي المتين أكبر ما ضخ به الشريف الشرقاوي أوصال التشريع القانوني، خصوصا ما تعلق فيه بالفصول الجافة واستبدالها بأخرى تستجيب لروح العصر. فقد اعتبر دائما أن القيم الأخلاقية هي أساس العمل القانوني واللبنة الأولى لكل إصلاح. بصمة الرجل ظهرت، أيضا، في الندوات التي شارك فيها وأطر أشغالها سواء في المغرب أو خارجه، وفي المسؤوليات التي تقلدها كعضو في المؤسسات الخارجية كعضويته في لجنة خبراء مجلس وزراء العدل العرب لدى جامعة الدول العربية وفي الفريق الوطني لمشروع برنامج الأممالمتحدة للتنمية من أجل تحديث النيابات العامة في الدول العربية. كما ظهرت في قدرته الكبيرة على التواصل من خلال الدور الذي قام به في أيام التواصل لوزارة العدل لفائدة البرلمانيين، وقد كانت مبادرة الانفتاح هاته عملا استثنائيا دشن مرحلة الوضوح والشفافية خلافا لما عرفت به وزارة العدل من تعتيم وكتمان. وبتعيين مولاي الطيب الشرقاوي في منصب وزير الداخلية، تكون هذه الأخيرة دخلت عهد إعادة تشكيل الهوية من أجل تصحيح صورتها لدى المخزن والمجتمع على حد سواء، ومن أجل مواجهة الرهانات المستقبلية التي يقبل عليها المغرب المعاصر. فالأوراش، التي سيكون فيها للداخلية دور كبير وحاسم، باتت حساسة وأبعادها الاستراتيجية صارت أهم من أي وقت مضى. فإذا كان ورش الجهوية هو الأهم الآن، فإن أوراش الشراكة مع المجتمع ومتابعة قضية الصحراء المغربية وتدبير الشأن المحلي على المستوى مركز الدولة... ستبقى أوراشا ملحة تحتاج إلى عمل خاص يبدو أن ابن أبي الجعد يملك أدوات تسييرها بما يستجيب لانتظارات السلطات العليا.