نود أن نوضح في البداية أن بعض المعطيات والمعلومات المتعلقة بهذه المداخلة مستقاة من أعضاء أسرة الخطابي الذين جمعت بيننا لقاءات متعددة تناولت جوانب مختلفة من حياة أسرتهم في المنفى. وسنركز هنا على المنفى الأول في لارينيون فقط. وقد جمعتنا لقاءات متعددة، بصفة خاصة، مع السادة عبد المنعم (عبده)، وعبد الكريم، وعبد السلام، وسعيد لمدد طويلة ولقاءات قصيرة مع السيد إدريس أبناء الأمير رحمهم الله جميعا. ثم كانت لنا جلسات مطولة مع السيدة عائشة أطال الله عمرها. المنفى حين تحالفت إسبانيا وفرنسا ضد الحرب التحريرية في الريف ولجوئهما إلى استعمال الغازات السامة ضد كل شيء حي، كما هو معروف، وتجنيد المغاربة ضد إخوانهم في الوطن وضعت الحرب أوزارها. حينها قرر الخطابي أن يذهب هو ويبقى الشعب، وكان يؤمن إيمانا قويا بأن جيلا من المغاربة سيأتي ليتمم ما بدأه. واضطر أن يسلم نفسه لفرنسا التي نفته وأسرته إلى جزيرة لرينيون؟ فكيف كانت حياته في في ذلك المنفى طيلة 21 سنة؟ كانت أسرة الخطابي الكبيرة، في المنفى، تتكون من أعضاء أسرته وأسرة أخيه امحمد وأسرة عمه عبد السلام، إضافة إلى مرافقيهم. وكان العدد الإجمالي حوالي أربعين (40) فردا، استقرت الأسرة في البداية، وفقا للترتيبات الفرنسية، في إقامة "شاطو مورانج" بضواحي عاصمة الجزيرة سان دوني. وكان هذا القصر، قبل ذلك، مقرا لمنفى ملكة مدغشقر رانا فالوشة الثالثة، قبل أن تنقل إلى الجزائر، حيث ستبقى إلى أن توفيت سنة 1917. كان هذا القصر قد مر على بنائه أكثر من قرن من الزمن، دون أن يحظى بالعناية والصيانة اللازمتين، إضافة إلى أن ارتفاعه عن سطح البحر لم يكن يتعدى 7 أمتار؛ وكان الأمير الخطابي يطلق عليه اسم "مستعمرة الحشرات والزواحف"، بسبب كثرتها وتكاثرها فيه. وبعد الشكايات العديدة من الأمراض الناجمة عن سوء حالة القصر والمناخ، والتي كان من ضحاياها إحدى مرافقات الأمير سنة 1929، وبتعاطف من أصدقائه الجدد، وبخاصة طبيبة الأسرة والمسؤول العسكري عن الأمير وأسرته، فكان الانتقال إلى منزل بقرية "بلان دي بال ميست" التي تبعد 70 كلم عن العاصمة سان دوني. إلا أن المنزل كان صغيرا وضيقا جدا بالنظر إلى عدد أفراد الأسرة الكبير. ثم اضطرت السلطات الفرنسية إلى أن تشتري له إقامة أخرى تسمى :"كاستيل فلوري"، مكونة من بنايتين تتوسطهما مزرعة من 14 هكتارا، فيها كل أنواع الأشجار والفواكه الاستوائية، في اسم الخطابي بمبلغ 200000 فرنك. ونعتقد بأن ثمنه دُفع من الأموال التي استولت عليها الحكومة الفرنسية بعد انتهاء الحرب، والمقدرة ب 180000 ريال فضي إسباني، وفقا لشهادة السيد بالقاضي، صاحب كتاب" أسد الريف"، الذي كان مساعدا لأمين الخزينة العامة آنذاك. . ومن ناحية أخرى تجب الإشارة إلى أن نفقات حياة الأسرة تطورت شهريا كما يلي: 5000 فرنك، من سنة 1927 إلى نهاية 1929. 7500 فرنك، من سنة 1930 إلى نهاية 1933. 17000 فرنك، من سنة 1934 إلى نهاية سنة 1939. 25000 فرنك، من 1940 إلى لحظة مغادرة الجزيرة في شهر مايو 1947. وما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن الأمير ورفاقه لم يعتمدوا على المعاش الذي سمحت به فرنسا، لإعاشة أعضاء عائلاتهم، وتحقيق شروط الحياة الكريمة اللائقة بهم. لذلك فكر مجلس العائلة الكبرى، الذي كان يتألف من الأمير ومن شقيقه السي امحمد، ومن عمه السي عبد السلام، ومن أحد مرافقيهم الأقربين السي محمد بن زيان الخطابي، في إيجاد موارد أخرى لتجنب كل ما يمكن أن يجعل العائلة في حاجة إلى طلب مساعدة السلطات الفرنسية. وتمثل الحل في ممارسة التجارة والزراعة. ففي مجال التجارة تم فتح محل لبيع المواد الغذائية، ثم توسع ليشمل تجارة الأقمشة والتجهيزات المنزلية، قبل أن يتطور إلى تجارة الذهب وتصدير العطور. وقد تولى تسيير المحل السيد محمد بن عبد السلام، أحد مرافقي الأمير. أما المشروع الزراعي فقد بدأ بزراعة قصب السكر وأشجار الفواكه في مزرعة "كاستيل فلوري" الاستوائية. إضافة إلى تربية الدواجن؛ لكن أهم شيء أضافه عبد الكريم ورفاقه على الأصناف الزراعية المحلية في الجزية، هي زراعة العنب الأبيض والتين. نجحت تجربة مزرعة كاستيل فلوري. ولم يكن النجاح يتمثل في زيادة موارد الأسرة من الناحية المالية فقط، بل في فك عزلتها وتحقيق التكيف والتلاؤم مع بيئتها الجديدة. مما جعل مجلس الأسرة يفكر في توسيع المشاريع الزراعية؛ فاقتنى مزرعة جديدة، هي مزرعة "بلان دي بال ميست"، الواقعة في القرية التي تحمل نفس الاسم. لكن التوسع الزراعي الحقيقي حدث مع شراء ضيعة طولها 6 كلم وعرضها نصف كلم، بمبلغ 800.000 فرنك، بمشورة ومساعدة بعض المستثمرين الزراعيين المسلمين في الجزيرة، وهي ضيعة: "تروى باسان" (Trois Bassins). قرر الأمير الإشراف بنفسه على هذه الضيعة مدة ثلاث سنوات، تاركا الإشراف على الضيعتين الأخريين لشقيقه السي محمد وعمه السي عبد السلام؛ وبلغ عدد العاملين فيها 70 عاملا، بأجر يساوي الثلث من المحصول. وكان الإنتاج الأساسي يقوم على الخشب المستعمل في البناء والأثاث، وعلى قصب السكر، والغرنوقيات أو الجيرانيوم (Geranium)، كما كان بها خمسة معامل لتقطير العطور. وكثيرا ما كان نجل الأمير البكر السيد عبد الكريم يحدثنا باعتزاز عن مهارته في تقطير العطور. ولذلك أصبحت وضعية الأسرة الاقتصادية جيدة، وفقا لرواية أنجال الخطابي؛ ومن آثارها أن الخطابي استطاع أن يقتني (07) سبع إقامات في أماكن مختلفة من الجزيرة يلجأ إليها وأسرته حسب تغير المناخ والفصول. تربية الأطفال كان هذا من حيث تدبير المعيشة، فكيف واجه الأمير ورفاقه موضوع تربية الأطفال تربية سليمة في مناخ معبئ بسلبيات المنفى وتداعياتها؟ لم يكن الأمر هينا ولا سهلا، لاعتبارات ثقافية، ولغموض آفاق المستقبل، خاصة بعد أن أخلّت السلطات الفرنسية بتعهداتها في موضوع استرجاع الأمير ورفاقه وأسرهم حريتهم. إضافة إلى رفض السلطات الفرنسية لملتمسات الأمير بإدخال الأطفال مدارس في المغرب أو في الجزائر، شرط أن لا تكون تابعة للإرسالية الكاثوليكية، كما كانت تريد فرنسا. وفشل فرنسا لم يتوقف عند مسألة التعليم المدني ونوعيته فقط، بل طال مشروعها في التكوين العسكري لأبناء الأسرة الخطابية تحت العلم الفرنسي. فقد كان رفض الأمير حاسما في الموضوع، على الرغم من الإغراءات المقدمة له. إذ كان يرى قبول العرض بخدمة علم الاستعمار سيجعله غير متميز عن عملاء الاستعمار. ثم كيف سيكون حكم التاريخ على عمله الوطني؟ لذلك فضل مجلس الأسرة إلحاق الأطفال بالمدارس العمومية بالجزيرة، بصفتهم مغاربة، ولم يتمتعوا بأي نوع من أنواع المنح. وكان الرفض مبدئيا ونهائيا لموضوع الانتماء إلى الجنسية الفرنسية. فالأمير الخطابي كان مستوعبا لتجربة الأمير عبد القادر الجزائري، ولم يكن راضيا عن مسارها بعد النفي في مجال العلاقة مع المستعمر الفرنسي. . وموقف مجلس الأسرة هذا يخالف ما ذهبت إليه زكيا داود في كتابها "عبد الكريم ملحمة الذهب والدم" من أن أبناء الأسرة الخطابية خدموا العلم الفرنسي. وبالنسبة لوضعية الأطفال في المدارس، فقد زالت بالتدريج المضايقات والتخوفات والهواجس التي كانت تنتاب الأسرة بسبب ما كان يصدر من تصرفات بعض ضحايا الدعاية الفرنسية، الواصفة عبد الكريم بأنه عدو للمسيح. إضافة إلى ما كانت تنشره بعض الجرائد المحلية من هجوم متواصل على الخطابي؛ وخاصة جريدة "الشعب". وبعد التغلب على تلك التخوفات لم يشتك أي واحد من الأطفال بأي تمييز عنصري، أو انحياز ظالم في المعاملة، إلا ما كان من مناوشات اعتيادية، ومشاكسات بينهم وبين التلاميذ غير المسلمين، فيما يخص العادات الغذائية. لكن ما يلفت الانتباه، ونحن نتتبع حياة الأسرة الخطابية في لرونيون، أن روابط من الاحترام والصداقة المتينة ربطت بين الأمير وأعضاء هيأة تدريس الأطفال؛ فقد كان يكرمهم بدعوتهم إلى البيت، وتقديم الهدايا المناسباتية لهم. وحين اقتنى سيارة لنقل أبناء الأسرة إلى مدارسهم وضعها تحت تصرف أبناء المواطنين الآخرين، خاصة أبناء وأحفاد طاطاي أمبراطور الفيتنام السابق المنفي، بل المنسي في تلك الجزيرة. هكذا تم حل مشكلة تدريس الأبناء؛ وهكذا تم قبول اللغة الفرنسية لغة للمدرسة. في الوقت الذي كانت فيه اللغة الريفية هي لغة التخاطب في البيت. أما التربية الإسلامية فكان يقوم بها العم عبد السلام، وبمراقبة الأمير. وقد حكى لنا بعض أنجاله كيف كانوا يستظهرون العقائد الإسلامية على والدهم في الليل قبل النوم، أو في الصباح الباكر قبل ذهابهم إلى المدرسة؛ وعندما تم الاستقرار في القاهرة أوكلت المهمة إلى الشيخ الأزهري أحمد بن موسى، وإلى سيدات لهن تكوين إسلامي عال بالنسبة للبنات. العلاقات الإنسانية والاجتماعية وفي الجانب الإنساني والاجتماعي استطاع عبد الكريم بحسه التواصلي، الذي عمقه من خلال تجاربه في التدريس والصحافة والقضاء وقيادة حركة التحرير، ومن خلال إرادة تحدي معوقات المنفى التي كانت تحول دون السير العادي للحياة، أن ينشئ شبكة من العلاقات الإنسانية والاجتماعية مع أهل الجزيرة؛ وقد عبر عن ذلك بقوله: «لقد وجدنا فيهم الأخوة الصادقة والإخوان الأوفياء، وقدموا لنا المساعدة بغير حدود، وواسونا في الغربة مواساة تجعلنا نذكرهم دائما بالتقدير والإعجاب». وبفضل هذه الأخوة والصداقة التي نمت بالتدريج وتوسعت، على الرغم من مضايقات أولئك الذين كانوا يعتبرونه رجلا سيئا لأنه حارب المسيحيين، وعلى الرغم من حضور الرقيب، في البداية، مع زواره من الجالية الإسلامية، قبل أن ترفع حكومة الاشتراكيين تلك المضايقات سنة 1936، استطاع عبد الكريم ورفاقه من تكوين صورة عن مجريات الأمور في الجزيرة، وعن توجهات الرأي العام، والاطلاع على الصحافة الخارجية، بفضل علاقته بالشخصيات الإسلامية. ومنها شخصية المفكر السوري محب الدين الخطيب، الذي كان وراء إفشال القرارات الفرنسية بعزل الخطابي عن العالم؛ ثم انضمت إليه جهود شخصيات من الجالية الإسلامية بالجزيرة، من مثل محمد على كريمجي الذي ساعده على شراء ضيعة تروى باسان، ومحمود دينداغ رجل الأعمال، وإبراهيم مولانا مكتوم، وعلي إبراهيم قارة التاجر من جزيرة موريس، وغيرهم من شخصيات سكان الجزيرة الكوريوليين، وفي مقدمهم الدكتور فيرجيس والد المحامي الفرنسي الشهير بنفس الاسم، والذي ذاع صيته بالدفاع عن الأحرار والمحرومين في العالم. ونظرا للمكانة التي استطاع الأمير أن يكتسبها بين ساكنة الجزيرة، واعتبارا للخصال التي اكتشفوها فيه، سرعان ما أصبح من كبرائها وأعيانها، يحظى بتقدير المسؤولين الفرنسيين، واحترام الكريوليين، والجالية الإسلامية، بل أن هذه الأخيرة اتخذته قدوة ومرشدا دينيا لها، ومصلحا وقاضيا يفصل في الأمور التي يعرضها عليه مسلمو الجزيرة. وكان الجميع يقصده لطلب المشورة والنصح. ذلك، لأن المعادن النفيسة لا تفقد قيمتها لا بتغيير المكان ولا بتغيير الزمان. أما برنامج الأمير اليومي، فيمكن تلخيصه كالآتي: بعد صلاة الصبح والإفطار يطالع الجرائد، كل الجرائد بمختلف توجهاتها؛ ثم يقوم بالإشراف على مراقبة دروس الأولاد، وتفقد نظافتهم وهندامهم وكل ما يتعلق بالتربية العامة. وينتقل عقب ذلك إلى مجلس العائلة، المكون من أخيه السي امحمد وعمه السي عبد السلام، ومحمد بن زيان الخطابي؛ وكان ينضم إليهم من حين لآخر، حسب الحاجة والضرورة، المكلفون بالمهمات التجارية والزراعية. وباستثناء مسائل تسيير شؤون المزارع والتجارة والعمال والحسابات، التي كان يحدث فيها أمر جديد أو طارئ، فإن اجتماعات المجلس العائلي تكاد تكون محاورها قارّة، وتخص متابعة أحوال الأسرة وتحليل مستجداتها، ونقد ما يجب نقده، واقتراح الحلول لتحسين تلك الأحوال؛ إضافة إلى المتابعة اليومية للوضع العالمي وتطوراته. وكان هذا البرنامج تتخلله زيارات من أعيان الجزيرة الكريوليين والمسلمين، أو الزوار الأجانب، وكذا بعض المسؤولين الفرنسيين. لكن عبد الكريم كان يتألم كثيرا لتنكر أهل وطنه له في منفاه وغربته، إذ لم يزره ولو مغربي واحد في تلك الجزيرة؛ وقد علق على ذلك، بكل مرارة، في مذكراته قائلا: «أتأسف لكون منزلي لم يشهد، ولو يوما واحدا، زائرا من المغرب، الذي ضحيت بحريتي في سبيل حريته». والأمر الغريب حقا لا يعود إلى عدم قيام "الوطنيين" المغاربة، أو غيرهم من أهل المقدرة، في القيام بزيارة الخطابي في منفاه فقط، بل إلى سرعة نفي بعض الزعماء ما نشرته بعض الصحف الأجنبية من أن الرجل ضاق ذرعا بمنفاه، وأنه قلق على مصير والدته وأبناء وبنات أسرته، وأنه يريد أن يعود وأهله إلى بلده المغرب. فقد بادر الزعيم عبد الخالق الطريس إلى التشكيك في مراسلة الخطابي للحكومة الفرنسية بشأن حق العودة إلى وطنه، واعتبرها مجرد إشاعة. وكأن عبد الكريم ليس من حقه أن يطالب بأن ترى والدته، المتقدمة في السن، (توفيت سنة 1938) بلدهها من جديد، كما جاء في رسالته إلى الحكومة الفرنسية. وقد علل الزعيم الطريس نفيه لوجود مثل هذه المراسلة من قبل الأمير عبد الكريم، بكون هذا الأخير يعيش عيشة فاخرة في جزيرة لرينيون. فالحكومة الفرنسية «خصصت له قصرا من أفخم القصور، وقررت له ماهية شهرية من ميزانية الدولة المغربية». إنه لأمر مؤسف أن يقول بعض الناس ما ليس لهم به علم، وأن يروا أنّ قيمة الحياة تتجلى في تحقيق الرفاهية المادية فقط. في حين أن عبد الكريم الخطابي كان شديد الإيمان بأن سعادة الإنسان وقيمته لا يمكن الإحساس بهما إحساسا حقيقيا ورائعا، إلا في ثرى وطنه، وطن الآباء والأجداد؛ فهو الذي وصف نفيه من هذا الوطن بأبلغ ما يكون الوصف، حين قال في مذكراته: «خروج الإنسان من الوطن كخروج الروح من الجسد، حالة صعبة، لا يتغلب عليها المرء إلا بالإيمان بالقضاء والقدر». لكن ينبغي ألا نعتقد، أو يخطر في بالنا، بأن عبد الكريم ومرافقيه كانت معاناتهم تُختصر في نسيان أهل وطنهم لهم فقط، بل كثيرا ما كانوا يعانون من تصرفات محرجة، أو حمقاء، من زوار لم يكن لديهم القدر الكافي من كرم الخلق، ومن ذكاء العواطف الإنسانية؛ ففي سنوات المنفى الأولى كان يُمنع من استقبال الزوار، وفي حال السماح للبعض بزيارته يكون ذلك بحضور الرقيب. وكانت أحاديث بعض الرسميين الفرنسيين، كوكيل المستعمرات وبعض الضباط المتعجرفين تثير الشفقة؛ فقد كانت أقرب إلى شخوص روايات سارتر التي تثر الغثيان الوجودى، أو إلى الشخوص العبثية لكامو. إلا أن الأمير عبد الكريم، الخبير بالذهنية الاستعمارية، كان يعلق على تلك التصرفات والمواقف، التي تتاجر بشعارات الثورة الفرنسية، المعلقة في الإدارات الرسمية، وتتصدر الكتب المدرسية، بقوله: «إن موقف الأوربيين المستعمرين يدعو إلى الرثاء، إنهم لا يزالون ينظرون إلينا كأطفال، يكفي أن تقدم إليهم قطع الحلوى فيسكتون. وتأبى الأيام إلا أن تثبت لنا، بوقائعها المتوالية، أن المسافة بيننا وبينهم ترفض التقارب، لأنها طريق تمتد إلى حيث لا لقاء، ولا تفاهم». الفرج ومغادرة الجزيرة هناك كثير من الدروس يمكن أن تستخلص من تجربة الأمير الخطابي في منفاه؛ فبقدر ما كانت العلاقة مع أصحاب الذهنية الاستعمارية علاقة لا تفاهم ولا لقاء، كانت في المقابل العلاقة مع الإنسان، من حيث هو إنسان، تزداد تعاطفا ورحابة صدر، وتتحد تلقائيا حول قيم الحرية والعدالة والكرامة، قبل أن تتحد لأسباب أيديولوجية أو عقائدية. ومن الدروس الأخرى المستفادة من تلك التجربة المريرة أن المحن تقوي همم الرجال. فالأزمة تلد الهمة، كما قال جمال الدين الأفغاني؛ وأن ظلام الظلم يبشر باقتراب الفرَج؛ ويأذن بقرب فجر الحق، كما قال شاعر قديم: الحق أبلج لا تَخفى معالمه كالشمس تظهر في نور وإبلاج وليس خفيا أنه كلما اتسعت دائرة الأحرار إلا وتقهقر ليل الاستعمار، وقربت ساعة الفجر والخلاص. وإذا كانت إرادة النخب المغربية قد انتكست مؤقتا أمام القوة الاستعمارية العاتية، فإن أرادة نخب العالم الإسلامي قامت بواجبها كأفراد، كما قامت بواجبها كجماعة متكاتفة متآزرة؛ حين أسست لجنة للدفاع عن الأمير الخطابي برئاسة الأديب والمفكر الإسلامي محب الدين الخطيب، وبرعاية الملك عبد العزيز آل سعود، والزعيم التركي عصمت إينونو، والزعيم الباكستاني محمد علي جناح، والدكتور أحمد سوكارنو الزعيم الأندونيسي. انتصر صمود الأمير، إذن، اجتماعيا وإنسانيا، ثم سياسيا؛ فبدأ ظلام وظلم المنفى ينزاح رويدا رويدا، بفضل تشبثه بمبادئه في الحرية والكرامة، وبتآزر الإرادات الفاعلة، وبتكاتف الجهود المتواصلة، وبحسن توظيف تطور تاريخ الاستعمار وتناقضاته مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان. فجاء الفرج بقرار نقل الأمير ورفاقه إلى فرنسا، على أن يتمتع هناك بكامل حريته. وفعلا، تلقى رئيس لجنة الدفاع، المشار إليها، السيد الخطيب، في أوائل شهر فبراير 1947، البرقية التالية من سفارة فرنسابالقاهرة جاء فيها: «نحيطكم علما بأن الحكومة الفرنسية استجابت للمساعي التي قامت بها اللجنة، وقد قررت الإفراج عن عبد الكريم الخطابي، ونفيدكم بأنه سيصل إلى باريس في الأيام القليلة المقبلة». ومن مكر التاريخ أن يتأجل تاريخ مغادرة الأمير للجزيرة أكثر من مرة، وكأن إرادة خفية قررت محو تلك السنين الطويلة من المنفى؛ لكي يتوافق تاريخ استعادة الحرية مع التاريخ الذي تم الحجر عليها في 27 من شهر مايو 1927. كانت وجهة الخطابي فرنسا، وفقا للقرار الفرنسي؛ لكن ظروفا وحسابات متشابكة جعلت الرحلة تنتهي في مصر في 31 مايو1947. ولا نريد الخوض في تفسير حدث انتهاء الرحلة في بور سعيد بمصر، أهو نزول أو إنزال، هروب أو تهريب، قرار أو اختطاف؟ فقد سال كثير من الحبر، ولا يزال، حول الموضوع في أكثر من بحث ودراسة. وربما تساءل الأمير تساؤلات بقيت بدون جواب شاف. لكن ما نحن متأكدون منه هو أن الرجل عندما تيقن بأن أعضاء أسرته، أطفالا ونساء ورجالا، قد نزلوا جميعا من باخرة كاطومبا التي كانت تحملهم في اتجاه فرنسا، وأن أقدامهم أصبحت ثابتة على التراب المصري، لم يكن يدور بخلده أي شيء آخر غير التوجه بالشكر إلى الله على نجاتهم من الأسر؛ وقد عبر عن ذلك بقوله: «رفعت رأسي إلى السماء، حامدا شاكرا خالق هذا الكون ومدبره..... وتنفست الصعداء، واستنشقت نسيم الحرية الشخصية في أرض العروبة والإسلام». . واليوم، فإن في عاصمة جزيرة لرينيون يوجد شارع كبير يحمل اسم عبد الكريم، ويرأس جامعتها أستاذ باحث من أصول مغربية ريفية اسمه محمد رشدي، وأصبحت ذكرى عبد الكريم من المرجعيات الأساسية في لارينيون. وفي سبيل تخليد ذكرى الرجل أصدر الأستاذ، بجامعة سان دوني، ميشال تويّو Thouillot رواية تاريخية تحت عنوان "ليوطي وعبد الكريم، أما الأستاذ في الجامعة نفسها عبد السلام تيري مالبير فسيصدر له عما قريب كتاب يتحدث عن عبد الكريم في منفاه الأول في جزيرة لارينيون. مداخلة الدكتور علي الإدريسي في الندوة التي أقيمت بمناسبة الذكرى 53 لوفاة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في مدينة القنيطرة بالمغرب يومه السبت 13 فبراير 2016.