باحث مغربي مقيم بهولندا ويستمر الاستعمار الإسباني… بينما كنت أقل الطائرة من مطار مدينة مليلية السليبة قصد حضور مؤتمر بمدينة غرناطة، حول دور المؤسسات الجامعية والعلمية الأوروبية في تحقيق التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين في الغرب، استرعى انتباهي مقال عام يعرف بتاريخ مدينة مليلية وأهم خصائصها الثقافية والبشرية، وهو منشور في مجلة تصدر عن شركة الطيران الإسبانية (إيبيريا) باللغتين الإنجليزية والإسبانية، وتوضع رهن إشارة كل مسافر حتى يطلع على معالم بعض المدن، التي تنطلق منها أو تحط فيها طائرات هذه الشركة. إن القراءة الأولية لذلك المقال تكشف للعيان والأذهان حقيقة التصور الإسباني العام حول هذه المدينة وغيرها من الجيوب المغربية، التي استولى عليها الإسبان منذ قرون طويلة، وتعتبر تاريخيا من أقدم المستعمرات التي لم تحظ بالتحرر من قبضة المحتل، كما تحررت معظم مناطق الجنوب والشرق من الاستعمارات العسكرية الأوروبية التقليدية، ليس فقط لانتفاء أسباب ذلك التحرر وآلياته، وإنما بسبب التشبث المستميت للإسبانيين بمدينتي مليلية وسبتة وغيرهما من الجزر الكائنة، سواء في البحر الأبيض المتوسط، أم في المحيط الأطلسي، وقد شاهد العالم يوم 11 يوليوز 2002 بأم عينه رد الفعل الإسباني حول لا نقول جزيرة، بل “صخرة ليلى” المغربية، الذي اتسم بالغطرسة والحدة والتسلط، وهي سلوكات عدوانية بامتياز، لا تختلف عن السلوكات التي كان يواجه بها العسكر الإسباني أجدادنا في الريف والصحراء في عشرينات القرن الماضي، حيث حاصر الجيش الإسباني الصخرة بحرا وجوا، فاعتقل الجنود المغاربة الذين كانوا يوجدون عليها قصد رصد عمليات الهجرة السرية، وقد ساند الاتحاد الأوروبي إسبانيا بشدة، واعتبر الجزيرة أرضا إسبانية وأوروبية، وأكثر من ذلك فإن الجزائر وسوريا خرجتا عن إجماع جامعة الدول العربية حول مغربية جزيرة ليلى! وقد بدت الصيغة الحربية الخاطفة التي تم بها ذلك الحدث، كما أننا أمام مشهد هوليودي لجنود أمريكيين يحاصرون خلية “إرهابية” في الفلوجة، أو على مشارف إقليم أوزوغان الأفغاني، في الوقت الذي كانت فيه الدورية المغربية تراقب تحركات المهاجرين غير الشرعيين، الذين يتسللون لواذا عبر البوغاز نحو الأراضي الإسبانية، ومن ثم نحو باقي الدول الأوروبية، وحتى لو سلمنا جدلا أن تلك الصخرة البحرية ليست مغربية، غير أن المغرب كان يسدي من خلالها خدمة جليلة لإسبانيا وأوروبا، وهي اجتثاث جذور الهجرة السرية، التي تنطلق من الضفة المتوسطية الجنوبية، ومع ذلك فقد تنكر الجميع للمغرب أثناء حلول الأزمة، وكشرت إسبانيا عن أنيابها القديمة نفسها، التي نهشت بها خيرات المغرب، في الريف والصحراء والبحر، وأبان الاتحاد الأوروبي عن حقيقته الإمبريالية، التي لم يفلح في إخفائها تحت غبار اتفاقيات التعاون الدولي ومبادرات حقوق الإنسان ومختلف المساعدات المادية. إذا كان احتلال مدينة سبته يعود إلى سنة 1640، إذ أخذها الإسبان من الاستعمار البرتغالي الذي كان قد احتلها عام 1415، فإن وجود الإسبان في مدينة مليلية يقدر بحوالي 513 سنة؛ أي أكثر من خمسة قرون، وتشير الدراسات التاريخية إلى أن احتلالها كان سنة 1497 من طرف خوان ألفونسو بيريز إل بوينو، الذي كان حاكما لمدينة صيدونيا، ومنذ ذلك الزمن شكلت المدينتين السليبتين ثغرة جغرافية في جسد الدولة المغربية، تمكن الأعداء الشماليين من التسلل من خلالهما بسهولة تامة إلى التراب المغربي، كما حصل أثناء بداية استعمار إسبانيا لشمال المغرب منذ سنة 1912، إذ يسر الوجود العسكري الإسباني القديم في المدينتين مهمة التوغل إلى المناطق والمدن الريفية القريبة، سواء من سبته أم من مليلية، وأكثر من ذلك فإن تلك الثغرة لم تقتصر على البعد الجغرافي فحسب، وإنما تعدته إلى بعد آخر أكثر عمقا وتأثيرا، وهو البعد الرمزي إذ أن المدينتين المحتلتين ظلتا عبر التاريخ والواقع تشكلان ثغرة رمزية في ذاكرة الشعب المغربي، الذي يتذمر دوما من بقائهما تحت نير الاستعمار الإسباني كل هذه القرون الممتدة، مما يجعله يطرح الكثير من الأسئلة الواقعية والمشروعة: إلى متى يظل احتلال مدينتي سبته ومليلية من قبل الإسبان؟ لماذا عجز المغرب أو تعاجزه عن تحرير هذين الجيبين الممتدين في جغرافياه المجالية؟ لماذا يلف الغموض الطريقة التي يتعاطى بها المغرب لهذه القضية الوطنية المصيرية؟ لماذا يقتصر الخطاب الرسمي المغربي على الرفض الشكلي للوجود التاريخي الإسباني على الأراضي المغربية؟ ما هي الاستراتيجية المستقبلية للمغرب بخصوص هذا الداء الذي ينخر الوحدة الترابية المغربية؟ هي في الحقيقة أسئلة عميقة ووجودية تتردد، كل حين، على ألسنة معظم المغاربة، لتشكل بخيوطها الخفية فجوة رمزية في الذات والذاكرة، تنبثق عنها أحاسيس الغبن والتذمر واليأس من هذا الوطن الذي خذل أبناءه، عندما فرط في تماسكه المجالي ووحدته الترابية شمالا وجنوبا وبحرا. في مقابل ذلك، فإن مثل هذه الأحاسيس الوطنية التي تعتري الوجدان المغربي، ما هي في عيون الإسبان إلا محض تهويمات أو تخرصات مرضية لا تنال قيد أنملة من الوجود الإسباني، الذي لا يعترف مطلقا بمغربية هذه الثغور ولو على المستوى التاريخي، الذي يعمل جاهدا على تزييف حقائقه، وهذا ما يتضح جليا من خلال المقال المشار إليه آنفا، الذي تعامل مع مدينة مليلية وكأنها قطعة مفصولة عن فسيفساء التاريخ المغربي، ومنطقة لا صلة لها بإحداثيات خريطة المغرب، بل وأنه أثناء تناول تاريخ المدينة لا يشار بتاتا إلى المغرب، كما أنها توجد في القارة الأسيوية أو في كوكب خارج المجموعة الشمسية! في حين أنه من خلال المرتفعات الجبلية المحاذية لمدينة بني انصار، تبدو للنظر مدينة مليلية على مرمى حجر وهي تمد يدها إلى الوطن، ترتقب فارس أو “طارق” أحلامها ليفكها من أسرها الطويل. ثم إن ذلك المقال عندما يقدم الخصائص الثقافية والبشرية للمدينة يكتفي بذكر الأبعاد الإسبانية والأوروبية والمسيحية واليهودية والإفريقية، مغيبا الأبعاد المغربية والأمازيغية والإسلامية، وينطوي ذلك على مغالطة جلية تزيف التاريخ المغربي الأصلي للمدينة، والواقع البشري حيث تشير بعض الإحصائيات إلى أن ساكنة مدينة مليلية تقدر بنحو 70 ألف نسمة، منها ما بين 30 و40 في المائة من المغاربة. ويظهر جليا أن هذه الرؤية المغلوطة التي تنبني على مزايدات التاريخ ومناقصاته، لا تخرج على الإطار الرسمي الإسباني العام، الذي لا يقتصر على طمس حقيقة الثغور المغربية المحتلة، وإنما يتجاسر على غيرها من المناطق المغربية، كالصحراء المغربية التي يرفض الاعتراف بسيادة المغرب عليها، رغم أن التاريخ يسجل بالبنط العريض أن إسبانيا انتزعت الصحراء من المغرب، بعد الاتفاق السري بينها وبين فرنسا في 8 أكتوبر 1904 على اقتسام الأراضي المغربية، على أن تأخذ إسبانيا شمال المغرب وجنوبه، وسوف لن يُنفذ هذا الاتفاق إلا بعد عقد معاهدة مدريد في 27 نوفمبر 1912، وسوف يتم استرجاعها مباشرة بعد الانسحاب الإسباني منها في بداية نوفمبر 1975، وتنظيم المغاربة لمسيرتهم الخضراء قصد ضم الصحراء إلى بقية أقاليم الوطن. ومن المفارقات العجيبة أنه أثناء زيارة متحف التراث الأندلسي بمدينة غرناطة، لفت انتباهي وجود شاشة إلكترونية تُعرف بتاريخ مختلف القضايا والبلدان والأعلام والمعارف الإسلامية، وعندما بحثت عن كلمة المغرب، ظهرت صفحة خاصة بالمملكة المغربية، تتضمن خريطة المغرب كاملة، دون فصل الصحراء على باقي جهات المملكة، كما نعهد في الوسائل الإعلام الإسبانية والغربية، مما يقوض الطرح الإسباني الرسمي الجائر! محددات العلاقات المغربية الإسبانية لا يمكن استيعاب العلاقات المغربية الإسبانية الراهنة إلا بعد دراسة أهم المحددات التي توجهها؛ سلبا أو إيجابا، نحو المجابهة المتكررة أو نحو التعاون المتبادل، وتتخذ هذه المحددات طوابع متنوعة، تتوزع على ما هو تاريخي وسياسي واقتصادي وأمني، وما إلى ذلك، والقاسم المشترك بين هذه المحددات هو أنها تتأسس جميعها على مبدأ التحدي بالنسبة إلى الطرفين، لكن بدرجة أشد بالنسبة إلى الطرف المغربي، الذي يواجه العاصفة وحيدا من دون أي دعم عربي أو إسلامي ملموس، في حين تقف جنب الطرف الإسباني القارة الأوروبية، بل والغرب برمته. المحدد الأول: التركة الاستعمارية رغم أن الاستعمار العسكري التقليدي ولى، وتحررت أغلب بلدان الجنوب، بما فيها الدول العربية والإسلامية، إلا أن ظلاله لا تزال تخيم على بعض الثغور المغربية، التي تترنح تحت وطأة الاحتلال الإسباني، مما يؤثر سلبا على العلاقات المغربية الإسبانية، هذا على مستوى الواقع، أما تاريخيا فقد عانى طويلا المغرب عامة، والريف خاصة، من السياسة الاستعمارية الإسبانية، التي لم تقتصر على نهب خيراته البرية والبحرية فحسب، وإنما تعدت ذلك إلى النيل من حرمة الإنسان وكرامته، عندما عمدت إلى استعمال الأسلحة الكيماوية للقضاء على المقاومة الريفية الباسلة، التي ما فتئ الريفيون يقاسون اليوم من عواقبها الصحية الوخيمة. على هذا الأساس، فإن محدد التركة الاستعمارية الإسبانية في المغرب يؤدي دورا جوهريا في تشكيل صورة إسبانيا في المتخيل المغربي، وهي صورة كالحة تعبر عن النزوع الاستخرابي للدولة الإسبانية، وهو ليس وليد عشرينات القرن الماضي، وإنما يمتد إلى زمن الحروب الصليبية وبداية سقوط المماليك الإسلامية في الأندلس، التي انتهت بسقوط مملكة غرناطة سنة 1492، أي قبل خمس سنوات من احتلال مدينة مليلية! وقد أدرك الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي هذا الجانب بعمق وتبصر، فعندما طلب منه الملك محمد الخامس عشية استقلال المغرب، الالتحاق بالوطن قصد المشاركة في بنائه وتسييره، أجابه بأنه لا يمانع في ذلك، بشرط أن يتمكن المغرب من طرد آخر جندي أجنبي، وفي رسالة أخرى بعثها إلى محمد حسن الوزاني، وهي مؤرخة في 27 يوليوز 1960، وصف استقلال المغرب ب “الموهوم”، وقد ورد فيها “أن كل عمل دون الجلاء (انسحاب المستعمِر)، هين وسهل، ويعالج بأيسر الطرق، وعار على المغرب المشهور بالشجاعة وحب الحرية أن يقر له قرار، والمحتل المهزوم الضعيف يجول في ربوع البلاد مع أن أقل اهتمام وأقل عمل يريحنا من هذا الكابوس الهزيل الذي جثم على صدور أمتنا. والذي يحول بيننا وبين كل إصلاح . ويعوقنا عن تحقيق ما نصبو إليه من إنجازات ومشاريع وبناء وتشييد. هل فهم قومنا هذا وأدركوه على حقيقته أم لا؟ يا للعار..! ويا للخسارة..! ويا للخزي..! ويا للأسف..! إن لم يدركوه، ولم يفهموه”. المحدد الثاني: ملف الهجرة قبل أقل من عقدين من الزمن كانت تشكل إسبانيا معبرا سانحا للمهاجرين المغاربة إلى غيرها من الدول الأوروبية الغنية، كفرنسا وهولندا وألمانيا وغير ذلك، بل وكان الإسبان مجرد يد عاملة وضيعة في تلك البلدان، لكن غداة تمكن إسبانيا من الانضمام الرسمي إلى الاتحاد الأوروبي، في أول يناير 1986، شرعت تدريجيا في وضع الحواجز القانونية والأمنية في وجه المهاجرين المغاربة، التي سوف تتوج بانضمام إسبانيا إلى مجموعة شينخن سنة 1995، وهذا يعني أن حدود الاتحاد الأوروبي تبدأ بالنسبة للمغرب والمغاربة من الجدار الأمني الشائك المضروب على كل من مدينتي سبته ومليلية المحتلتين. هكذا أصبح المواطن المغربي الذي كان يتحرك بين المغرب وإسبانيا في حرية، أمام سياجين صعبي المنال؛ أولهما سياج قانوني، يقتضي منه جملة من الترتيبات والإجراءات القانونية والمادية، إذا هو أراد نيل تأشيرة دخول الأراضي الإسبانية، وثانيهما سياج أمني، يطوق كل من سولت له نفسه التسلل إلى المجال الترابي الإسباني، مما سوف يساهم في نشوء ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر الضفة المتوسطية الجنوبية نحو أوروبا، ومع مرور الأيام وتقادمها بات يحلم الكثير من المغاربة بالذهاب إلى إسبانيا، وتسوية وضعيتهم القانونية هناك، فانتعشت سوق الهجرة طوال عقدين من الزمن، وشهدت رواجا منقطع النظير، عبر مختلف الآليات الممكنة، كتأشيرات السياحة والدراسة، واتفاقيات العمل، وقوارب الموت… إلى أن بلغ عدد المغاربة الذين يقيمون بشكل قانوني في إسبانيا، إلى 758 ألف و900 شخص، حسب آخر تقرير لوزارة العمل والهجرة الإسبانية، الذي تم نشره في 30 يوليوز 2010. من هذا المنطلق، إن ملف الهجرة يعتبر محددا رئيسا في راهن العلاقات المغربية الإسبانية، وذلك من أوجه متعددة، منها أن هؤلاء المهاجرين يشكلون مصدرا اقتصاديا مهما بالنسبة إلى خزينة الدولة المغربية، وأنهم ساهموا بشكل كبير في تغطية حاجة الاقتصاد الإسباني إلى اليد العاملة، في ميادين الفلاحة والبناء والخدمات، وأنهم أصبحوا اليوم يعتبرون شريحة مهمة في المجتمع الإسباني المتعدد الثقافات، لا يمكن إلغاؤها من النسيج الاجتماعي الإسباني، وغير ذلك. المحدد الثالث: ظاهرة التهريب إن الحديث عن ظاهرة التهريب تحيل مباشرة على عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، اللذين شكلا مرحلة ذهبية بامتياز لهذه الظاهرة، ليس على مستوى المناطق المجاورة للمدينتين السليبتين سبته ومليلية، وإنما على صعيد المغرب برمته، حيث ظلت السلع الإسبانية المهربة تغزو مختلف الأسواق المغربية، في البوادي والحواضر على حد سواء. لعل هذه الظاهرة ساهمت في فك العزلة الاقتصادية على ما كان يطلق عليه في الأدبيات التقليدية المغرب غير النافع، فاستفاد ملايين المغاربة من تجارة التهريب، طوال سنوات الجفاف العجاف، لا سيما وأن الإمكانات المادية والحياتية كانت تكاد تنعدم في مناطق تغيب فيها البنيات الصناعية والفلاحية والخدمية، التي من شأنها أن تغطي أوضاع المجتمع المزرية، وقد استفادت الدولة الإسبانية طويلا من تلك التجارة التي كانت تدر عليها أموالا طائلة، في حين كان يترنح الاقتصاد المغربي الهش تحت ضربات التهريب والسوق السوداء والمنافسة الشرسة، وقد تفشت هذه الظاهرة بشكل فاحش، ولم تنكمش نوعا ما إلا بدخول الألفية الثالثة، التي ولج فيها الاقتصاد المغربي بحكم مقتضيات العولمة الاقتصادية مرحلة السوق الحرة، فأشرع أبوابه للسلع الأجنبية (الصينية) انطلاقا من ميناء الدارالبيضاء إلى باقي أرجاء الوطن، لتغزو السوق المغربية بشكل شرس، وقد لقيت رواجا منقطع النظير من قبل المستهلك المغربي، وذلك بسبب كثرتها وتنوعها ورُخصها، مما سوف يؤثر سلبا على ظاهرة التهريب التي كانت تنطلق من مدينتي سبته ومليلية، وسوف تتراجع بشكل ملحوظ عما كانت عليه في الماضي. في الحقيقة عندما ترتبط ظاهرة التهريب بالسلع الاستهلاكية اليومية، كالغذاء والألبسة والآلات الإلكترونية، وغير ذلك، من شأن ذلك أن يوجه ضربات موجعة إلى قطاع الصناعة الوطنية، لكن عندما تتعلق هذه الظاهرة بتهريب الممنوعات من مخدرات وأسلحة وبشر، وغيرها، فإن ذلك يهدد الوطن برمته؛ ليس في اقتصاده فحسب، وإنما في أمنه واستقراره ومستقبل شبابه، وقد تابعنا في الماضي القريب كيف تعرض المغرب لهجمات إرهابية غاشمة (فندق آسني بمراكش في غشت 1994، تفجيرات البيضاء في 16 مايو 2003)، بأسلحة ومتفجرات تم تهريبها عبر المدينتين المحتلتين أو من الحدود المغربية الجزائرية، ثم إن المغرب الذي ظل لعقود طويلة مصدر المخدرات المهربة إلى أوروبا، انقلبت عليه الآية اليوم، إذ صارت تغزوه المخدرات البيضاء من كوكايين وهيروين وأقراص مخدرة، المهربة إليه من الضفة المتوسطية الشمالية، مما يجعل تحدي التهريب أشد تأثيرا ومضاضة. المحدد الرابع: التنافسية الاقتصادية تعتبر إسبانيا منذ عقود المنافس الكبير للمغرب على الأسواق الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق ببعض المنتجات الفلاحية، كالحوامض والطماطم، بالإضافة إلى الأسماك. وهي منتجات تلقى إقبالا واستحسانا كبيرا من قبل المستهلك الأوروبي، بسبب جودتها العالية والمتميزة، مما يشعل غيظ الإسبانيين، الذين يسعون جاهدين إلى وضع العراقيل في وجه الصادرات المغربية، عبر احتجاجات الفلاحين الإسبان، ودعوتهم إلى عدم السماح للمصدرين المغاربة بعبور الأراضي الإسبانية نحو باقي الدول الأوروبية، ومحاولة مقاضاة المغرب، وغير ذلك، فيما يطلق عليه إعلاميا “حرب الطماطم”. أما فيما يتعلق بالصيد البحري، فيجب ألا ننسى مدى الاستنزاف العاتي الذي تعرضت إليه الثروة البحرية المغربية طوال عقود طويلة، إذ ظل يعيش من بحر المغرب وخيره حوالي مليون صياد إسباني، مقابل حفنة من (البسيطات) الإسبانية! وأصبح المغرب اليوم يعقد اتفاقيات الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي، لكن المستفيد الأول والكبير منها هو الجار الإسباني، حيث يسمح بموجبها ل 119 سفينة أوروبية (منها مائة سفينة إسبانية) الصيد في المياه الإقليمية المغربية، مقابل تعويض مالي لصالح المغرب، يقدر ب 36 مليون يورو سنويا. إن التنافسية مسألة أساسية في العملية التجارية، غير أنه لا ينبغي أن تنبني على الإقصاء والاحتكار والاستنزاف، كما تصنع إسبانيا مع المغرب، حيث تضغط على الدولة المغربية عبر الاتحاد الأوروبي، قصد السماح لصياديها بالصيد في المياه الإقليمية المغربية واستنزاف ثرواته البحرية، غير أنها في الوقت نفسه تشتكي عبر فلاحيها ومصدريها من تنافسية المنتجات الفلاحية المغربية، مما يهد مبدأ التنافسية ويحل محله مبدأ الاحتكارية. من هذا المنطلق، إن محدد التنافسية الاقتصادية يؤثر بشكل عميق في العلاقات المغربية الإسبانية، وهو عادة ما ينطبع بالصراع المتكرر (حرب الطماطم، اتفاقيات الصيد البحري)، الذي تستغل فيه إسبانيا عضويتها في الاتحاد الأوروبي، قصد إخضاع المغرب لصالح مطالبها الاقتصادية، مما يجعل كفة هذا المحدد تميل دوما نحوها، وهذا ما يقتضي من المغرب المراجعة الدائمة لهذا الملف، الذي ينبغي أن يتأسس على تكافؤ الفرص وتبادل المصالح وحماية الثروات الوطنية. المحدد الخامس: قضية الصحراء المغربية نظرا إلى الموقف الرسمي الإسباني التقليدي المتعاطف مع الخط الانفصالي الذي تتزعمه جبهة البوليساريو بمباركة من طرف الجزائر، فإن هذا المحدد يشكل في الحقيقة تحديا كبيرا وعقبة كأداء في سبيل الدبلوماسية المغربية بخصوص قضية الصحراء. لا سيما وأنه يظل بمثابة ورقة سياسية رابحة في يد إسبانيا، تشهرها في وجه المغرب، كلما لاح في الأفق توتر ما بين الطرفين، لتهدد من خلالها سيادة المغرب الشرعية على أقاليمه الصحراوية. حقا أنه تغير ذلك الموقف التقليدي نوعا ما بمجيء الحكومة الاشتراكية بزعامة خوسيه لويس ثاباتيرو، التي تساند مشروع الحكم الذاتي المغربي في الصحراء عوض حق تقرير المصير، إلا أنه من جهة أولى لم يُطرح ذلك، كما يستخلص أكثر من خبير، حبا في عيون المغرب، وإنما مقابل خدمات جمة يقدمها المغرب سواء لإسبانيا أم لأوروبا، كالسماح للسفن الأوروبية بالصيد في المياه المغربية، والتعاون في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية، وغيرهما، ومن جهة ثانية فإن موقف الحكومة الاشتراكية تلقى معارضة شديدة بخصوص هذه القضية، من بعض الأحزاب السياسية الإسبانية ومؤسسات المجتمع المدني، هذا ناهيك عن موقف البرلمان الإسباني، فيما يخص أحداث العيون الأخيرة (8 نوفمبر 2010)، حيث انحاز إلى الجانب الانفصالي محملا المغرب مسؤولية ما حدث! استنادا إلى هذا الموقف الإسباني الحربائي بخصوص قضية الصحراء المغربية، يظهر أن هذا المحدد يؤثر كذلك بشدة في راهن العلاقات المغربية الإسبانية ومستقبلها، ما دام أنه محكوم بالتحول لا الثبات، الهشاشة لا التماسك، لأنه يرتهن في الدرجة الأولى بنتائج صناديق الانتخابات الإسبانية، التي تحدد الحزب أو الأحزاب الرابحة، التي توجه الموقف الإسباني الحقيقي من ملف الصحراء المغربية، إما على حساب المغرب كما كان الحال مع حكومة أثنار اليمينية السابقة، أو لصالحه كما هو الشأن بالنسبة إلى حكومة ثاباتيرو الاشتراكية الحالية. المحدد السادس: الإعلام الإسباني المؤدلج لم يعد الإعلام يقتصر على الوظيفة التقليدية التي تتحدد في نقل الخبر أو المعلومة عبر وسيلة ما إلى الجماهير، وإنما أصبح يصوغ المعلومات والمستجدات وفق خطه التحريري الذي غالبا ما ينطبع برؤية أيديولوجية معينة، وقلما نصادف وسائل إعلامية مستقلة تؤسس خطابها على الموضوعية والمصداقية والدقة. وهذا ما ينطبق مما لا شك فيه على بعض وسائل الإعلام الإسبانية، لا سيما في تعاملها مع المغرب، حيث تقوم بالتقاط الأخبار وتشكيلها حسب مواقفها المعادية لكل ما هو مغربي، وتُعمل فيها مبضع التشويه والتزييف والتدليس، وقد تابع العالم أحداث العيون يوم 8 نوفمبر 2010، وكيف تعاطت معها بعض الصحف كجريدة البايس، والقنوات الإسبانية كقناة أنتينا3، إلى درجة أن إحدى الجرائد الخليجية وصفت ذلك الفعل بأنه “يرقى إلى مستوى الجريمة الإعلامية والسياسية والأخلاقية”. وليست هذه هي المرة الأولى التي يتعامل بها هذا الصنف من وسائل الإعلام الإسبانية الصفراء، بهذه الكيفية مع المغرب، فقد عهد المغاربة مثل هذه الممارسات الشاذة منذ البدايات الأولى للاستعمار الإسباني لشمال المغرب، إلى يوم الناس هذا، وسوف يستمر لا محالة على هذا النحو، لأنه يستمد هذه الرؤية من التوجه الأيديولوجي الذي يتبناه. بناء عليه، لن يتمكن المغرب من مواجهة التحدي الذي يضعه فيه هذا الإعلام الإسباني المؤدلج، إلا باستخدام سلاح الإعلام نفسه في كشف أراجيف وترهات الاتجاه المضاد، ولن يتسنى ذلك إلا بواسطة وسائل إعلامية وطنية مؤهلة ومتمكنة، تتوفر على الإمكانات البشرية والتكنولوجية والتواصلية اللازمة، التي تؤهلها للرد السريع والمفحم على كل من سولت له نفسه الاعتداء على مقدسات المغرب وكرامة مواطنيه. خلاصة القول… لن يتأتى للمغرب الرد الناجع على سياسة التحامل، التي تمارسها إسبانيا ضده إلا بآلية المواجهة، والتقدم إلى الأمام، و”النظر إلى الوراء في غضب”، بمعنى أنه آن الأوان للانفكاك من أسلوب الانكماش والدفاع وتفادي الضربات، وليس المقصد من هذا الهجومُ بمفهومه التقليدي المرتكز على النزاعات الحربية والتجييش والتسلح والضرب الذي ما هو إلا وسيلة العاجز، وإنما الهجوم بمعناه الاستراتيجي. ويظهر اليوم أن الدولة المغربية وعت جيدا هذا الجانب، فشرعت في مواجهة الأخطبوط الإسباني عبر استراتيجية التنمية وتأهيل الاقتصاد الوطني، التي يعتمدها الملك محمد السادس في شمال المغرب، قصد محاصرة الوجود الإسباني في مدينتي سبته ومليلية، من خلال إطلاق مشاريع اقتصادية ضخمة، كالميناءين المتوسطين في الشمال الغربي والشرقي للمملكة المغربية، وبمقدور هذين المشروعين الحيويين أن يضيقا الخناق على المدينتين المحتلتين، ويستنزفا مواردهما المكتسبة من التجارة والخدمات الدولية، مما دفع إسبانيا إلى أن تعبر في أكثر من مناسبة عن استيائها وتخوفها من هذه السياسة التنموية والاقتصادية الجديدة التي بدأ يسلكها المغرب.