توطئة: من المعلوم أن مسرح وان مان شاو أو مسرح وومان شاو one-man-show / one-woman-show بمثابة فرجة درامية هزلية انتقادية يقوم بعرضها شخص واحد مفرد سواء أكان ممثلا أو ممثلة أو كان فنانا وفنانة ، وذلك من بداية الفرجة المشهدية حتى نهايتها ، حيث يحتكر فيها الممثل المقدم حصة العرض كلها لنفسه، دون استدعاء الشخصيات الأخرى كما في المسرح العادي والمألوف، وقد تستغرق هذه الحصة التقديمية مدة من الزمن في توصيل الرسائل المباشرة وغير المباشرة ، وذلك بغية تحقيق التواصل بين المؤدي والمتلقي . ومن ثم، يصبح ممثل وان مان شاو مؤلفا وممثلا ومخرجا وسينوغرافيا على حد سواء، فيعتمد في عرضه على العفوية والتلقائية والارتجال ، ثم يتأرجح بين خطاب المتعة والفائدة، مع تشغيل الخطاب النقدي في التفاعل مع الراصدين من جمهور الصالة أو قاعة المسرح. ومن هنا، فإن مسرح وان مان شاو في الحقيقة يتموقع بين السكيتش الهزلي والمسرح الفردي. أي إنه يجمع بين الجد والهزل، وبين الكوميديا والتراجيديا. هذا، وقد عرف مسرح وان مان شاو بمنطقة الريف مجموعة من الممثلين الذين نهجوا هذا المنهج كطارق الشامي، وربيع الماحي، وسعيد المرسي وآخرين. ومن أهم العروض التي قدمت في هذا الشأن مؤخرا مسرحية سعيد المرسي تحت عنوان:” ياباني بالريف” ، وذلك بالمركب الثقافي بمدينة الناظور يوم السبت 18 شتنبر من سنة 2010م. إذاً، ماهي مميزات هذه المسرحية دلالة وصياغة وتشكيلا ومقصدية ؟ المستوى الدلالي: يتناول سعيد المرسي في مسرحيته الفردية الوامان شاو” ياباني بالريف” مجموعة من المواضيع التي تؤرق الإنسان الأمازيغي بمنطقة الريف كالثقافة ، والرياضة، والصحة، وحال الطرقات، والانتخابات، والفساد، والتخلف، والجهل، والأمية، والطمع والشجع، والبيروقراطية، ونقد مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف السائدة بالمنطقة. هذا، وقد كان الفنان القدير سعيد المرسي يقدم كل حدث سياسي أو اجتماعي أو إداري أو رياضي في مشهد مسرحي معين أو لقطة درامية مركزة. وعندما ينتهي منها ينتقل إلى مناقشة موضوع آخر. وفي بعض الأحيان، كان يميل إلى الاستخراج والاستطراد والتوليد من داخل الموضوع المتناول. ويعني هذا أنه يخرج عن الموضوع الرئيس ليناقش مواضيع أخرى فرعية ومكملة. وهكذا، فقد بدأ سعيد المرسي عرضه الفردي بالتطرق إلى وضعية الثقافة المهمشة بالريف، وتصوير الحالة المزرية للمركب الثقافي بالمدينة ، وتصوير حالة الرياضة بالمغرب ، وكل ذلك في محطة الاستهلال أو البرولوج، لينتقل بعد ذلك إلى محطة العرض الرئيسة ، والتي تتمثل في كيفية استقبال ياباني بمنطقة الريف، لينهي عرضه المسرحي بانتقاد مجموعة من التصرفات والعادات والتقاليد الشائنة، والتي لا تدل في معانيها الجلية والخفية إلا على تخلفنا الداكن، وانحطاط المجتمع المغربي في شتى المجالات والمستويات مقابل تقدم الإنسان الياباني المتحضر. وهكذا، يقدم سعيد المرسي الأحداث من منظور سياسي انتقادي هزلي يقوم على الباروديا والسخرية والفكاهة والنقد والتعريض والتلويح. وبالتالي، لم يكن الفنان سعيد المرسي محايدا في عرضه المسرحي، بل كان يدلي بتعليقاته وانتقاداته وتقييماته إيجابا وسلبا في رصد أحوال اليابانيين والريفيين، لكي يبرز للجمهور الحاضر شساعة الهوة الفاصلة بين مجتمعين متباينين وبيئتين مختلفتين أيما اختلاف على المستوى الديني والحضاري والسلوكي. المستوى اللساني: شغل سعيد المرسي في عرضه خطابا لسانيا أمازيغيا يحيلنا على ريفية ” قلعية” فصيحة وبليغة، حيث استطاع بكل سهولة أن ينفذ بكلامه الانتقادي اللاذع إلى قلوب الجماهير الحاضرة في صالة المسرح إمتاعا وإفادة. واستطاع أيضا أن يؤثر على الراصدين بلغته الواضحة والسهلة ، وطريقته البسيطة والمباشرة والمألوفة في الحكي والسرد والوصف والتعليق والتنكيت، وأن يكسب القلوب بعفويته الارتجالية عن طريق تكسير الجدار الرابع. واستطاع كذلك أن يأسر عواطف الراصدين تجاه ما يعرضه من أحداث، والدليل على ذلك التصفيقات الكثيرة، وكثرة الضحك الذي عم القاعة من بداية العرض حتى نهايته. ويعني هذا أن سعيد المرسي يملك كفاءة متميزة، وتأهيلا جيدا في مجال مسرح الوان مان شاو. ولا غرو في ذلك، فسعيد المرسي كما هو معروف لدى الجميع له تجربة وخبرة كبيرة في مجال التمثيل المسرحي والسينمائي والإذاعي كما تدل على ذلك أدواره التشخيصية ، والتي تفوق فيها أيما تفوق ، ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو حاسد. وما يلاحظ على الخطاب اللساني لسعيد المرسي داخل عرضه الدرامي أنه يتلاعب باللغة الموظفة في العرض المسرحي تصويتا ونطقا وإضمارا وحذفا وتكنية وتورية، ويقوم بتبئير الكلمات سميأة وتدلالا، والتشديد عليها تفخيما وتأكيدا ، وتمديدها صوتيا ليشد انتباه الجمهور إلى الرسالة التي يريد توصيلها، وذلك حينما يركز مثلا على كلمة ” الميزانية”، فيمددها بالوصل الجيد لتصبح كلمات متعددة ومختلفة ومفارقة من حيث الدلالة والمقصدية ” لميزانيا/ مزيانا/ مين زينيا/ سافر بها”، ونلاحظ أيضا تلاعبا باروديا بكلمات أخرى مثل: ” ءابريذ ءيتاران/ الطريق الذي يعيد ويتقيأ”، وكلمة “الانتخابات” بكل مشتقاتها ومرادفاتها وتعابيرها السياقية. هذا، ويتكئ سعيد المرسي في مسرحه على التنويع الأسلوبي، حيث يوظف الوصف، والسرد، والتعليق، ويشغل الحوار الذاتي ، أو يستحضر شخصية أخرى غيابيا. وكان الارتجال العفوي والتلقائي هو السائد في المسرحية، دون أية استعانة بالوثائق أو الإكسسوارات أو الأدوات النصية أو البصرية المساعدة الأخرى. أضف إلى ذلك، فحينما كان يستعمل الوصف ( وصف الطعام مثلا) يلتجئ إلى المقارنة والموازنة والحجاج الفكاهي(المقارنة بين الياباني والريفي أثناء الأكل)، وتشغيل نسق القيم الخلافية في تحديد المختلف والمشترك، مع الاستعانة بأسلوب الباروديا والتقابل والتهجين والأسلبة ، وتقليد الأصوات بكيفية جيدة ومتقنة أثناء محطة الحوار تلوينا واستبدالا وتنويعا ، كأن يستعمل مثلا صوت الجدة، أو يستعمل صوت الياباني، أو يستعمل صوت الريفي الخشن المهذار. المستوى البصري: لم يكن سعيد المرسي يستعمل اللغة المسرحية بمعزل عن الحركات والإشارات والإيماءات، بل كان يشغل خطاب الكوريغرافيا تشغيلا سياقيا جيدا يراعي فيه بلاغة المقام ومقتضى الحال، فيوظف الميم توظيفا دلاليا مناسبا، حيث يصاحب الملفوظ اللساني الدرامي السياق التداولي واللساني والبصري. وبالتالي، فقد كان يؤثر على الجمهور تأثيرا مقنعا ومؤثرا ، وذلك بحركات جسده المتنوعة وإماءاته الوظيفية. ويعني هذا أن سعيد المرسي كان يشغل نسق الوجه جيدا على المستوى الإشاري والسيميائي، فقد كان يحرك مجموعة من الشفرات الحركية والإيمائية التي تنتمي إلى نسق الوجه كالرأس والجبهة والعينين والأذن والفم والأنف والذقن، كما كان يعنى أيما عناية بنسق الجسد كاستعمال حركات اليدين والساقين، وتحريك الجسد رياضيا في مختلف الاتجاهات ، وكل ذلك من أجل تشكيل خطابات درامية فكاهية وتنكيتات ميمية ديناميكية. وهكذا، فقد كان سعيد المرسي يرفق خطابه اللغوي واللساني بمجموعة من العناصر البصرية كالكوريغرافيا ، وحسن التموقع في وسط الخشبة المركزية المواجهة للجمهور، والذي يحيل بطبيعة الحال على حلبة الصراع الدرامي، كما يؤشر على تجذير الممثل في المكان(هنا) والزمان(الآن)، ولاسيما أن زمن الفرجة هو زمن الحاضر و الكينونة الواقعية . المستوى التداولي: يضمن سعيد المرسي عرضه المسرحي مجموعة من الرسائل المرجعية والمقصديات التداولية، والتي ينقل عبرها مجموعة من العوالم الواقعية والتخييلية المفترضة والممكنة. ويعني هذا أن العرض الذي كان يقدمه سعيد المرسي تغلب عليه الرسائل المباشرة الموجهة، مادام مسرح وان مان شاو هو المسرح الأقرب إلى الجماهير الشعبية ، ولاسيما الطبقة الكادحة منها. لذا، يحضر الخطاب السياسي عبر الفكاهة والسخرية والكروتيسك، وتبرز، بالتالي، الانتقادات والشعارات والصورالأيقونية البصرية ، و التي تحمل في طياتها شعارات سياسية ودعائية. وبالتالي، يقترب هذا العرض الدرامي من الأسلوب السياسي البريختي ، وذلك من حيث تكسير الجدار الرابع، وتمثل تقنية التغريب واللاندماج في التعامل مع الأحداث المسرحية، والتفاعل مع الجمهور، وتوقيف العرض المسرحي لشرب الماء، والحديث مع الراصدين بشكل حميمي وعاطفي حول أمور سياسية ساخنة. ومن هنا، فالمسرحية المعروضة كانت فرجة سياسية اجتماعية ساخنة بامتياز، وكان تشتمل على مجموعة من المقصديات المباشرة وغير المباشرة. بيد أن خطاب التعيين والتقرير كان أكثر هيمنة من خطاب التضمين والإيحاء. وبالتالي، فلا ضرر في ذلك بأي حال من الأحوال مادامت طبيعة مسرح ” الوان مان شاو ” تعتمد على ثنائية الجد والهزل، والتقرب من الجماهير الحاضرة بشكل قوي ، وذلك من أجل تسليتهم، والترفيه عنهم إمتاعا وإفادة. خلاصات ونتائج: وهكذا، نصل إلى أن سعيد المرسي قد جرب في حياته الفنية مجموعة من الطرائق الفنية والتجارب الجمالية، فقد مارس التمثيل المسرحي، والتمثيل السينمائي، والتمثيل التلفزي، والآن يجرب التمثيل الفردي الذي يحسب على مسرح ” الوان مان شاو”. ونقول بكل صراحة موضوعية : إن سعيد المرسي قد نجح في عرضه الدرامي:” ياباني في الريف”، إذ استطاع بفنية فائقة، وتجربة متراكمة ناجحة، وخبرة ميدانية أكيدة في التمثيل والإخراج ، بأن يزاوج بين الفرجة اللسانية والفرجة البصرية ، وذلك قصد تقديم عرض مسرحي متكامل. ولقد استطاع كذلك بهذه الازدواجية الفنية والجمالية أن يدغدغ عواطف الجمهور الحاضر متعة وتسلية وترفيها، وأن يؤثر على قلوبهم وجدانيا وعاطفيا، وأن يقنعهم ذهنا وعقلا ومنطقا.