تقديم: يقول الشاعر السوري نزار قباني: "الشعراء يحملون أوطانهم على أجنحة قصائدهم ويطيرون، ما أشقى الأوطان التي لا تحرسها كلمات الشعراء". ما أشقى مدينتنا الخالية من كل ما هو فني وترفيهي، ومن لقاءات ثقافية وفنية، وندوات وقراءات شعرية، هي مدينة ميتة وهي حية، وجافة فضة وفظة، عبارة عن أتربة وجدران وكناسة، وإسمنت قاحلة ماحلة لا تنبت شيئا، في هذا الفضاء الجاف القاحل فنيا وثقافيا، ولد ونشأ هذا الشاعر المبدع في بني إنصار والذي لم يجد أين يفجر طاقاته الإبداعية، الشيء الذي دفع به إلى المعاناة والمكابدة، لأن صوته الشعري بقي مدفونا في أحشائه، كسر دفين لا يرى النور، فهو يريد البوح، ولكن لا يجد متنفسا، لذلك يبقى مهمشا مهموما، تعتمل في حيزومه استفهامات، وتبيت في صدره أنجية قد تسهره، وتراوده أفكار وخواطر قد تثقل كاهله، وصور شعرية يكتبها تارة، وتارة تبقى مهملة فوق الرفوف وفي الأركان والزوايا، وبالتالي ينزوي الشاعر ويختلي، ويبقى حزينا متألما لما يراه، متأملا فيما يحيط به من جمال أو قبح… في هذه القصيدة يخاطب الحياة التي وهبته كثيرا، منحته أفكارا، وخولت له ضميرا أبيض، سلخته من الجلد الذي كان كالسحاب الأسود، وألبسته لباسا مزركشا من لون قوس قزح من: بنفسجي ونيلي وأزرق وأخضر وأصفر وبرتقالي وأحمر، فهذه الألوان دليل على الانفراج والانبلاج والخروج من القتامة والضبابية، وربما يرمز الشاعر إلى المرأة التي أسعدته، وشبهها بقوس قزح، وهو تشبيه مأخوذ من الطبيعة، وفي الأسطورة: قزح هو إله الرعد والخصب عند عرب الجاهلية، وإليه تنسب القوس المعقودة في الشتاء قوس قزح، وقد قيل إنه ملك موكل بالسحاب، وقيل إنه شيطان، أو إله خرافي جعل له عباده قوسا نورانيا، وتسميه العامة قوس القدح، ويقال له أيضا قوس السحاب وقوس الغمام، وفلكيا: برج في السماء، وقزح ينصرف على تقدير كونه جمع قزحة، ولا ينصرف على تقدير كونه علما معدولا، ترى أن هذه القصيدة جرتنا إلى مفاهيم أسطورية ولغوية وصرفية، بسبب قراءتها والقراءة استجلاء وإظهار لما في النص الشعري أو النثري، من محاسن أو مساوئ، في هذا الوصف دليل عن فرج وفرح بعد كربة و هم وألم، لا أقول إن هذا الشاعر يمتح من بحر، أو يغرف من نهر، ولكن يستقي بعد جهد ولأي أفكاره وصوره الشعرية من المظاهر الطبيعية، كأنه أندلسي أو من أنصار الطبع لا من انصار الصنعة، ومن تجاربه العملية والفكرية. يشكرها ثانية بقوله: أنت فألي الميمون كما جاء في البيت الخامس "أثقذم أثوذرث شم ذميمون إينو" والميمون ذو اليمن والبركة، ويقال هو ميمون الطائر، أي مبارك الطلعة، ويقال لدعاء المسافر: سر على الطائر الميمون أي موفقا، ويسترسل الشاعر في مدح الحياة التي محت أوساخه، وحسنت أيامه وازدهرت، وجعلته قرير العين، فوجد طريقا مستقيما في دنياه وقد منحته كثيرا، وقوة في العظام ونقيها، ويرجو ويطلب أخيرا ويتكلم بالجمع: أن نعيش ونحفر ونحرث ونغرس ونجعلك ضيعة للروح ونرعاك بالسقي كما ورد في البيتين الأخيرين من القصيدة: سثريغ أندار أننقش أنزو أشمنك تثوتش أنبوحبر أتنسسو إن الشاعر يستعمل الرمزية، فهل "ثوذرث "هي الحياة الحقيقية أم المرأة؟ ربما الحياة هي المرأة التي تساعد الرجل وتجعله سعيدا وربما رمز إلى المرأة بالأرض من حيث السقي والحرث، كما ورد في القرآن الكريم "نساؤكم حرث لكم" هذه الحياة أو المرأة التي منحته كل شيء، جعلته سعيدا بعد أن كان شقيا، مفارقات وتناقضات، ولكن الشاعر ينتقل من الكربة والغمة، إلى الأمل والفرجة والدعة، ليس كباقي الشعراء الذين يتخذون التشاؤم مذهبا وملجأ. إن تاريخ القصيدة هو: 18/10/2009 نجهل مناسبتها، ولكن ظرف نظمها، يساعدنا مضمونها على أن الشاعر قالها في لحظة تأملية، كان منفردا بنفسه في مكان ما، وفي حالة نفسية شبه قلقة، تنتقل من الضيق إلى الفسحة، من الغمة إلى الابتسامة، مسترجعا أشرطة وصورا من الماضي والحالي، وإن اختراق جسد القصيدة وبنيتها وذاتيتها يفضي بنا إلى تصورات معقدة من جراء الصور الشعرية التي أحيانا تكون سوريالية. هذه القصيدة النثرية حفيفها لا يخضع للوزن التقليدي، فهي ما يسمى اليوم "بشعنثر" أو قصيدة النثر العربية التي ظهرت في 1957 مع جماعة مجلة الشعر، لأن القصيدة الأمازيغية الريفية على رأي المهتمين بالشعر هي أيضا مصرعة، ولها قافيتها. القصيدة غير مصرعة انتهت غالبيتها بحرف النون، وحرف الراء كما في البيت الأول والتاسع، والزاي في الحادي عشر والسين في الثاني عشر، مع مد حرف الواو الذي هو ضمة صغيرة في الشعر العربي، فالراء والنون والزاي أو الزاء والسين تؤدي جرسا موسيقيا مؤثرا في النفس والأذن، والسين من حروف الهمس، والراء واللام والنون من حروف الذولقية التي مخرجها طرف اللسان، فالراء تارة تكون رقيقة، وأخرى مفخمة، وقد وردت فيها مفردات غير مألوفة ك: أسفرنن /إمروان /ثجست /سثريغ /ثثوتش / وغيرها بكثرة في قصائد أخرى، هذا يدل على أن الشاعر له ثروة لغوية، يأتي بألفاظ قديمة، قد لا يعرفها القارئ ولا الدارس، وسوف لا يجدها الباحث لندرة القاموس، أو لم تذكر لغياب البحث، ويذكرني الشاعر ببشار بن برد الذي كان يوظف كلمات بدوية في شعره، وسئل لماذا؟ فقال: أريدها أعرابية، فصديقنا نجيب أياو يريدها أيضا ريفية قديمة… هذه القصيدة تتجلى فيها أنانية الشاعر بكثرة، ولكنها ليست بأنانية المتنبي المتضخمة، فهو يتحدث عن نفسه بكل تواضع، دون افتخار من خلال مسار القصيدة، نظرا لإحساساته الدفينة المبهمة في آخر كل بيت، وحرف النون أصبح عنده كضمير المتكلم، يكرره بكثرة في آخر كل بيت، كما استعمل بكثرة أيضا حرف الهمزة والنون والذال: أثقذم /أثوذرث/ أبرو. وكل بيت يبدأه تارة بالهمزة، والتاء والثاء، في البيت الحادي عشر: سثريغ، أندر، أننقش، أنزو. البيت كله ما عدا كلمة سثريغ فيه كلمات مبدوءة بالهمزة. واستشف من خلال حرف الهمزة نوعا من الحوار، والخطاب والمناداة والمناجاة. والقصيدة عبارة عن حوار، يناجي به الشاعر الحياة أو المرأة، ودائما النداء بالهمزة وهي من حروف النداء للقريب في اللغة العربية، وكذا في اللغة الأمازيغية الريفية، ومن خلال اللحظات الشعرية وصورها، يتبادر إلى الأذهان، أن هناك معاناة سابقة، وحياة جافة حرشة، مليئة بالأشواك وتصاريف الزمن وتقلبات الدهر، ثم بعد هذا وذاك يأتي الانفراج، كحل لهذه العقد التي ألمت بالشاعر يتجلى في انزياح المطر وفتوره، وظهور قوس قزح الذي هو رمز للحبور والنور والشعاع والقضاء على الظلام، الذي شبهه بسواد السحب، رغم أن السحب تأتي بأمطار الخير، وبعد ذلك شعر بالاطمئنان والتيمن والتبرك، بعد أن استحوذ عليه التشاؤم والتطير، ولكن ليس بتشاؤم وتطير ابن الرومي، وقد شجعته هذه الحياة، أو المرأة، حيث جعلته يقوى على مواجهة نوازل الحياة، ومنحته قوة في عظامه ونقيها، فهو ليس كالمتنبي الذي أصابته الحمى، فباتت في عظامه وجعلته عليلا كسيرا، ولا تزوره إلا في الظلام. ونهاية مسار هذه القصيدة/القصة / انتهى بفك الحبكة أو العقدة، أو لحظة التنوير كما في الأقصوصة، بإقدام الشاعر والقيام بما يقوم به الفلاح الذي يتوكل على الله ولا يتواكل، بالحرث والنقر والحفر والحرث والغرس والرعاية والسقي، إيذانا بانتصار العزيمة والعمل والجد، والقضاء على الاستسلام والتقاعس، والعيش على الأمل وانتظار نتائج العمل التي ستظهر في المحاصيل والغلال، وكذا انتظار النجاح مستقبلا في جميع الميادين بواسطة العمل والاجتهاد. إن للقصيدة قيما كثيرة من ناحية المناخ الجغرافي: السحب قوس قزح، المطر، الظلام، ومن ناحية الزمكانية الطريق الضيعة، الدنيا، الأيام، ومن الناحية الفلاحية الغرس والبذر والحفر والحرث والسقي، ومن الناحية النفسية: التحدث عن الأنا، القلب، الحزن، الابتسامة، اليمن بعد الشؤم، القوة، الروح، الطلب والتمني. من الناحية الاجتماعية: الشكر، العطاء، الكثرة، التواصل، التعاون، التنظيف، السلخ لجلد الحيوانات في المناسبات الدينية وغيرها. من الناحية الفكرية: إن الشاعر ذو ثقافة جامعية حيث نال شهادة الإجازة باللغة الإسبانية، مما جعله يطلع على أشعار الشعراء الإسبانيين وأمريكا اللاتينية، بهذا يزداد ثقافة وتجربة ومعرفة، إلى جانب الثقافة العربية والأمازيغية، لذا جاءت قصيدته مليئة بالتدبر في الأمور، بعيدة عن التهريج والبهرجة والتبهرج، والكلام السوقي المنحط، فهو شاعر ملتزم في أشعاره، ومتواضع في كلامه، فقد حنكته التجارب وتقلبات الدهر التي جعلته حكيما في قصيدته، وهادئا ورزينا في حياته ومع أصدقائه. ويكفيه فخرا أن يتغنى بقصيدته: "أندر أوكشوظ" التي نظمها في التسعينيات المغني خالد إزري، وله قصائد: "أورني أمنغي"، "مري إج نيزري ذثمورث إغيغمي" وغيرهما، وأتمنى له عمرا مديدا، ليصدر ديوانا كي لا يبقى مغمورا، وهو اليوم يشتغل كمترجم مساعد بالناظور، ليضمن قوت عائلته، فمزيدا من الإبداع لنسيان الهموم وتفتيتها وتبديدها بنظم الشعر، لأنني أراك دائما حزينا، كأن شيئا يشغل بالك، وكأنك حاضر جسديا، وغائب وجدانيا وعقليا، وكأن شيئا يسحرك وذلك هو الشعر الذي لا نفهمه. وختاما، هذه قراءة وليست دراسة، لأن الدراسة أعمق من القراءة، والأولى تتناول الجانب اللغوي والصرفي والنحوي والصوتي والدلالي والبنية…. وهل سنطبق النحو العربي وعلوم البلاغة في دراسة النصوص النثرية والشعرية والمسرحية وغيرها من الانتاجات الأدبية الأمازيغية…؟؟ هذا سؤال موجه إلى الباحثين المهتمين بالجانب اللغوي. والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الشعر يحتاج دائما إلى قراءات ودراسات لأن كل ما هو مرتبط بالفن يصعب فهمه وكل قارئ وتأويله وحتى أونوراتو دي بلزاك لا يفهم الشعر ولا الموسيقى ولا الرسم ولا المرأة…