الموت الإكلينيكي أو الموت السريري (clinical death)، هو المصطلح الطبي لوقف الدورة الدموية والتنفس، أي ما يلزم لاستمرار الحياة، وهو يحدث عندما يتوقف القلب عن الخفقان بإيقاع منتظم، وهي حالة السكتة القلبية، هذا الوصف ينطبق بالضبط على وضع التعليم عندنا، تعليم من شدة الإهمال والتردي الذي تعرض له أصبحت حالته حالة الميت ميتة إكلينيكية. لا يتصور عاقل من العقلاء أن يكون سير إلى الأمام، نهضة، تقدم، تطور دولة دون أن تكون التربية والتعليم رافعتها وقاطرتها، وبعد أزيد من خمسين سنة مازال سؤال التربية والتعليم مطروحا، ليس من باب كيف نطور منظومة التربية والتعليم، بل السؤال الذي لا يزال لحد الآن في الساحة وعلى الدولة خصوصا والأنكى من ذلك والأمَّرُ والأعجب أنها هي نفسها تطرح هذ السؤال وكأنها تتحدث عن أمر يتعلق بغيرها لا بذاتها، السؤال الذي لا يزال مطروحا هو: ماهي المحددات الكبرى للتربية والتعليم عندنا، أي أننا لا زلنا بَعْدُ نبحث عن المنطلقات الجوهرية والمعالم الأساسية التي ينبغي أن تؤطر تربيتنا وتعليمنا، هذا بعدَ أزيد من خمسين سنة من الاستقلال، أو كما يسميه المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه الله تعالى، مسيرة طويلة من التيه، تيه يقودنا ونحن نلامس قضية مفصلية وحيوية في بناء الأمم ورقيها إلى الوقوف عند مجموعة من الأسئلة لعل محاولة الإجابة عليها تفيد في موضوع لا يمكن أن نختلف في أهميته واستراتيجيته بأي حال من الأحوال. إرادة التعليم: كثيرا ما يكون المدخل إلى مناقشة موضوع التربية والتعليم هو سؤال السياسة التعليمية، لكن السؤال المركزي والمحوري الذي ينبغي أن يسبق هذا هو في الحقيقة سؤال: إرادة التعليم؛ أي هل الدولة عندنا تمتلك هذه الإرادة، هل الدولة عندنا تريد حقا أن يكون تعليم وتربية، في سنة 1945احتفلت الدانمارك بآخر أمي لديها، قطعت بذلك نهائيا مع هذه الآفة، وفي سنة 1952 استقلت اليابان – التي ضربت بالقنبلة الذرية – وكان الفارق الزمني بينها وبين استقلال المغرب أربع سنوات فقط، نأتي بهذه الأمثلة ليبرز أمامنا سؤال الإرادة واضحا، نأتي بهذه الأمثلة حتى ندرك أن عمق المشكلة ليس فقط السياسة التعليمية، بل هي الإرادة التعليمية، المنطق الاستقرائي لتتبع المسار الذي نهجته الدولة عندنا يثبت بما لا يدع مجالا للشك عند كل دارس موضوعي لعقدة التربية والتعليم في هذ البلد أن الدولة وضعت ألف ألف سياج لعرقلة مسيرة التربية والتعليم، منذ وقت مبكر من الاستقلال ترسخت العداوة بين الدولة عندنا وبين رجال التربية والتعليم، جل رجالات المعارضة عندنا هم رجال تربية وتعليم، ولذلك فالتعليم خطر محدق بالنظام والدولة، ولذلك كان الإهمال، بل كان التأفف من التعليم، بل واعتباره قطاعا غير منتج كما عبر عن ذلك الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى مرارا وتكرارا في الكثير من خطبه، وذلك منذ وقت مبكر؛ ففي خطاب 9-03-1965، حيث حمل الملكُ رجالَ التعليم مسؤولية ما حدث. قال رحمه الله: “أتوجه إلى الأساتذة وأقول لهم: إنه من عادة الرجال وعادة المثقفين بالخصوص أن تكون لهم الشجاعة الكافية للتعبير عن أفكارهم، لا أن يستغلوا التلاميذ، ولا أن يتستروا وراء الأطفال” واختتم كلامه الموجه إلى شعبه العزيز بتحذير شديد اللهجة لرجال التعليم واصفا إياهم بأشباه المثقفين فقال: “أقول لكم أنه لا خطر على أي دولة من الشبيه بالمثقف، وأنتم أشباه المثقفين .. وليتكم كنتم جهالاً”. هكذا هي الصورة المنطبعة عند الدولة عن التربية والتعليم وهذا نتاجها، أشباه المثقفين، بل يا ليتهم كانوا جهالا، تتبنى الدولة التجهيل ولا تتبنى التربية والتعليم لأن هذ الأخير خطر ولذلك فالجهل والتجهيل هو الخيار الاستراتيجي. وإذا كانت الدولة هذا منطقها وهذه نظرتها فإن سؤال السياسة التعليمية يبقى سابقا لأوانه حتى وإن كان من الأهمية بمكان. إرادة التعليم، هذا ما ينبغي أن تجيبنا عنه الدولة بوضوح، لأن هذا هو السؤال المهم والأهم. السياسة التعليمية: بعد أن وقفنا على جوهر الأسئلة: إرادة التعليم، نقف مع سؤال السياسة التعليمية. المحاور الكبرى أو لنقل بلغة الساسة التوجهات الكبرى للسياسة التعليمية في بداية الاستقلال كانت هي: التعميم، التعريب، التوحيد والمغربة. سؤالي الذي أود أن أطرحه قبل أن نواصل تفكيك منظومة السياسة التعليمية هو: كيف يمكن أن نجمع بين متناقضين إذا كانت الدولة تعتبر رجال التربية والتعليم “أشباه مثقفين” وإذا كانت تتمنى لو أنهم كانوا جهالا، كيف يمكن أن تؤجل الدولة السياسية التعليمية؟ هكذا كانت الخيارات الكبرى للمدرسة المغربية، خيارات بقيت موقوفة التنفيذ، لأنه عوض التعريب كانت الفرنسة، أما التعميم فنحن لا زلنا لحد الآن نتحدث بعد أكثر من خمسين سنة من الاستقلال عن آفة التعليم القروي وأن هناك الكثير من المناطق النائية لازال التعليم نائيا عنها حقيقة وشكلا ومضمونا، وكذلك التوحيد والمغربة لازالتا لحد الساعة قيد الدرس، أي أننا لازلنا نطرح سؤال “ملامح المدرسة المغربية وهويتها”. السمة العامة للسياسة التعليمية هي جزء من الكل، الارتجال ولا شيء غير الارتجال، حتى خيار التعريب عندما تم اتخاذه جاء هكذا دون مقدمات ووضوح كانت نتيجته أنه أنتج لنا نظاما مُخْتَلَطاً مُخْتَلِطاً، فأصبح التلميذ عندنا لا هو معرب ولا هو مُفَرْنَس، ولعل خيار “العامية” يكون خيارا في يوم من الأيام، منذ 1995 حيث تم الميثاق الوطني للتربية والتعليم ولحد تاريخنا هذا مازال هذا الورش مفتوحا في اتجاه واحد: الإجابة عن “سؤال السياسة التعليمية” وخياراتها، ولَمَّا يتجاوزْ هذا السؤال. الميثاق الوطني للتربية والتعليم، المجلس الأعلى للتعليم، الكتاب الأبيض، البرنامج الاستعجالي للتعليم، بيداغوجية الأهداف، بيداغوجية الكفايات، بيداغوجية الإدماج، كل هذه الأسماء والمسميات، ويبقى سؤال السياسة التعليمية مطروحا، أليست هذه هي قمة الارتجالية؟ إذ أعمال العقلاء منزهة عن العبث، فكيف يمكن تبني كل هذه البيداغوجيات وفتح كل هذ الأوراش والسؤال المحوري لم يُجَب عنه بعد، السياسة التعليمية، لغز آخر من الألغاز التي يحتاج الكثير منها إلى حل وإجابة في بلدنا العزيز، أليس قمة العبث أن يأتي السيد الوفا القادم من بلاد الصامبا البرازيلية ليلغي بجرة قلم البرنامج الاستعجالي دون أن يقدم أي بديل ثم ليخرج لنا بخلاصة هي العبث بعينه أن البرنامج غير صالح شكلا ومضمونا وأنه قد شَابَتْهُ الكثير من الخروقات المالية، “كلما جاءت أمة لعنت أختها”، لأنه ليس هناك مسار معلوم وسياسة متبعة ووجهة قاصدة، نمضي إلى لغة الأرقام حيث تتجلى حقيقة الادعاءات: جاء في تقرير منظمة اليونسكو عن التعليم في العالم العربي والإسلامي الصادر في شهر غشت لسنة 2012 ما يلي وسأركز على الفترة الأخيرة تاركا للقارئ الكريم ومن له لوعة على تعليمنا أن يرجع إليه كاملا ليجد أن لازمة المرتبة الأخيرة حتى مع دول كإثيوبيا وأوغندا وناميبيا لا تفارق تصنيف التعليم في بلادنا، نرجع إلى الفقرة الأخيرة حيث جاء فيها ما يلي: “كما سجل التقرير أن نسبة المقروئية بالنسبة للمغاربة فوق 15 سنة حوالي 56 في المائة، يشكل النساء منها نسبة 44 في المائة، وبلغ مؤشر بين الجنسين معدل 0.64، والمعطى المستخلص من نسبة المقروئية أن نسبة الأمية تقارب نسبة المغاربة الذين يعرفون القراءة والكتابة، وكشفت البيانات المقارنة، أن المغرب يحتل مرتبة جد متدنية مقارنة مع الدول العربية إلى جانب موريتانيا، وقد سجلت قطر نسبة 95 في المائة من نسبة المقروئية تليها الأردن بنسبة 91 في المائة، وحققت عمان وليبيا والسودان وتونس ومصر نسبا مرتفعة.” هذه خلاصة السياسة التعليمية، لأنه حقيقة ليست هناك سياسة تعليمية أصلا، وإنما هناك الارتجال، ارتجال يقودنا إلى خلاصة أخرى لا تقل قيمة عن سابقتها. سؤال النقابات: ليست غايتي أن أقدم تصورا عن العمل النقابي ولا أدعي ذلك، وليست غايتي أن أُشَرِّح العمل النقابي، ولا أن أدخل في سجال النقابي والسياسي، فتلك مواضيع تحتاج إلى مقالات منفردة لأن الموضوع دقيق ويثير معه الكثير من اللغط، لكن سؤال النقابات يفرض نفسه لأنها تعتبر نفسها شريكا رئيسيا في ملف التربية والتعليم، ولأنه ما من طاولة حوار حول الموضوع إلا وهي حاضرة فيه. غير أن النقابات تجدها عند تتعامل مع هذا الملف الحساس تركنه في زاوية واحدة، لها وجاهتها ولكنها تقزم موضوع التربية والتعليم بدرجة كبيرة، كل ما تناقشه النقابات الرتب والسلاليم أي بالدرجة الأولى في الجانب المادي لرجال التربية والتعليم، وهي مشكورة على ذلك، لكنني لم أسمع يوما أن النقابات دعت إلى إلى الإضراب نظرا لغياب سياسة تعليمية واضحة، لأن عدم وجود ذلك أننا نسير في متاهة العبث. ولم أسمع يوما أن النقابات فتحت نقاشا مفتوحا مع رجال ونساء التربية والتعليم حول هذا الموضوع، وأنها جعلت من نقاشها المفتوح هذا محورا مركزيا في تواصلها مع رجال التربية والتعليم ونسائه، وأنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون طرفا في مسرحية هي الحوار الاجتماعي، وإنما المفروض أن يكون الحوار سياسيا شموليا، على رأس أولياته “إرادة التعليم” بداية ثم بعد ذلك “السياسة التعليمية” ومحدداتها، تتحمل النقابات مسؤولية كبيرة لكونها تعتبر نفسها الناطق الرسمي باسم الشغيلة التعليمية. حادت عن وجهتها ودورها التأطيري ودورها في التعبئة والإشراك الفعلي لرجال التربية والتعليم ونسائها، وأصبح بيع بطاقة الانخراط هو الشغل الشاغل، وأصبحت يافطة الأكثر تمثيلية هي محك الصراع بين النقابات الذي قادها إلى نسيان دورها المحوري، سر النقابات في توحدها وليس في تفريخ النقابات، قوتها إن وقفت على لب الأمر وساهمت في ممارسة ضغطها على الدولة لحل المشكل من جذوره لأن سفينة التعليم وصلت إلى حالة الموت الإكلينيكي، تجاوزنا مرحلة المستعجلات، فإما عملا جادا وإما مصير النقابات إلى أفول، وما التصدع الذي أدى إلى بروز التنسيقيات كبديل عنها إلا مؤشر واضح المعالم ينبغي لها أن تستوعبه جيدا. استراتيجية العبث: من شدة ما طبق على التعليم من نظريات بيداغوجية أصبح جلده ميتا من كثرة هذه المضادات الحيوية، أصبح الجسم فاقدا للمناعة، ترهل الجسم وأصبح رحلة لا يعرف أحد من نساء التربية والتعليم ورجالها من أين البداية وإلى أين النهاية، قطاع واسع من “شبه المثقفين” كما تم تسميتهم، أصبح يؤدي الواجب فقط، يحاول جاهدا لأنها أمانة ملقاة على عاتقه رغم أن الدولة تحمله بشكل مباشر أو غير مباشر مسؤولية الفشل. حتى مفهوم التنمية البشرية عند الدولة عندنا لم يستهدف الإنسان، إذ التنمية البشرية في أبسط معانيها هي الارتقاء بالإنسان بداية قبل كل شيء، ما فائدة تلك المشاريع إن استحقت أن توصف بهذا الاسم بينما رأس القاطرة معطل بل يحتاج إلى تغيير جذري، لا مستقبل للبلاد دون تربية وتعليم. حينما تطلع على بعض الحلول التي تريد الدولة من خلالها إبراز اهتمامها بقطاع التربية والتعليم تفهم جيدا حقيقة الوضع وكيفية تدبير الدولة لهذا الملف الخطير؛ أعلنت الدولة أن أعلى رقم مخصص للوظيفة يَهُم قطاع التعليم، حيث خصصت 8000 منصب شغل لهذا القطاع، لكنها لم تذكر أن نسبة الخصاص الحقيقي في قطاع التربية والتعليم هو 30.000 منصب، هذه واحدة فقط، ثم أضف إلى معلوماتك أخرى لعل الصورة تزداد وضوحا ورسوخا، كان الرقم الذي حددته الدولة فيما يتعلق بالبنايات المدرسية هو 200 لم يتحقق منها إلا 44 فقط، أما الباقي فلا خبر عنه، من المسئول؟ تبقى وصْفَةُ “عفا الله عما سلف” هي الجواب ! هكذا تكون استراتيجية العبث في قطاع التربية والتعليم أوصلته إلى الباب المسدود، حتى الحوار الوطني حول التربية والتعليم يبقى الباب أمامه موصدا، وإن كنا نظن أنه ليس المفتاح لهذه المعضلة العويصة، فما أكثر المداد المسكوب على الأوراق. خلاصات: 1-إن أي مقاربة لقضية التربية والتعليم تلامس الموضوع في سياقها الجزئي تبقى محكوما عليها بالفشل، إذ المقاربة والمدخل الأصح هو المقاربة الشمولية، ذلك أن ملف التربية والتعليم هو من الملفات الاستراتيجية الكبرى التي يملك ناصيتها النظام بشكل كلي. “إن المعرفة عدو للاستبداد والفساد” ولذلك يبقى رهان نجاح التربية والتعليم رهينا بالقطع النهائي مع الاستبداد. 2-إن بقاء المجتمع المدني بعيدا عن هذا الملف ذي الأهمية القصوى، وعدم انخراطه بمشاريع جادة تعمل على تسليط الضوء وإشاعة الوعي بما وصلت اليه التربية والتعليم من هوة سحيقة، فجوة عميقة، وثقب في بناء جبهة الممانعة التي تعتبر واجهة من واجهات إيقاف النزيف الذي ينخر جسم هذا البلد، وهل هناك أكبر من نزيف التربية والتعليم؟ 3-إن لم يترفع العمل النقابي عن المزايدات السياسوية في ملف التربية والتعليم، بحيث يصبح الموضوع مجالا “للاستقطاب البطائقي” إن صح التعبير، إن بقيت مقاربتها للموضوع مقاربة تحكمها الايديولوجيا والانتماء السياسي، فإنها في حقيقة الأمر لا تزيد الطين إلا بِلَّةً، الخيار الوحدوي قفزا فوق كل تجاذبات سياسية والجلوس على طاولة التوحد بين كل المكونات الفاعلة في البلد هو الخيار الأسلم والأصح للخروج بالتربية والتعليم باعتباره مسألة حياة أو موت بالنسبة للبلد. ثلاث خلاصات وباب الاجتهاد مفتوح لكل ذي كبد على آفة التربية والتعليم ببلدنا، حالة الموت الإكلينيكي للتربية والتعليم مسؤولية الجميع، مهمة الجميع، نداء موجه للجميع.