(متابعة الحوار مع الأستاذ الحقوني مرزوق) 2: حول النقد وشروطه: إن النقد الهادف إلى البناء والتغيير هو الكفيل باستمرار الحوار وإبراز نواقصه وثغراته. ووفق هذه الرؤية ينبغي على الناقد أن يراعي أمرين أساسيين في العمل النقدي الذي يتوخى انجازه، أولهما هو اعتماد الحياد والموضوعية في تناول موضوع النقد. وثانيهما هو ضرورة تقديم البديل الممكن للعمل الذي يحاول نقده، فلا قيمة للنقد دون طرح البدائل. فعندما يحاول المرء على سبيل المثال نقد مشروع ما سواء كان سياسيا أو فكريا، فيجب عليه أن يكون موضوعيا في تناوله لهذا المشروع. كما يجب عليه أن يقدم البديل الممكن لذلك المشروع الذي يعمل على نقده، بحيث لا يمكن له – أخلاقيا – أن يرفض ذلك المشروع ما لم يقوم بتقديم البديل الممكن والأفضل في تصوره. لهذا، عندما نقوم بنقد خطاب/ مشروع الحركة الإسلامية القائم – أساسا- على تقديس النص، سواء كان هذا النص هو نص ديني أو تاريخي أو أدبي، والقائم من جهة أخرى على تقديس الأشخاص ( السلف الصالح، أمير المؤمنين، الشيخ ..!!) ، حيث انه في ظل القداسة يكرس المرء واقع القهر والتبعية الذي لا يساعد على التحرر الفكري والديني والمذهبي، وبالتالي فإنه لا يساعد على تحقيق مجتمع العدل والمساواة والمواطنة. قلنا، عندما نشرع في نقد الخطاب الإسلامي فإننا نحاول في نفس الوقت تقديم خطاب/ مشروع بديل ؛ وهو الخطاب الديمقراطي الحداثي الذي لا مكان فيه للتقديس والعبودية والطائفية، خطاب يرتكز – أساسا- على المواطنة والحرية والمساواة الكاملة بين البشر على أساس أنهم بشر أولا وأخيرا، وليس على أساس ديني أو مذهبي كما هو الأمر في مشروع الحركات القومية عموما، والإسلامية خصوصا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يحق للناقد أن يحكم على العمل الذي يقوم بنقده، وبالأسلوب الذي يريده ويختاره بنفسه، لكن شريطة أن يكون هذا النقد موضوعيا، وبالتالي يستوفي شروط النقد المعروفة ولا يتعرض للأشخاص. فالنقد يهتم بالأفكار( الفكر) أولا وأخيرا، ولا يهتم بالذات المنتجة لتلك الأفكار. لهذا فإنه من الضروري الاطلاع الكامل على الأفكار والمواقف التي نريد نقدها، فالنقد وسيلة وليس غاية. وعلى هذا الأساس يكون الأهم في العمل النقدي الذي نروم القيام به، هو مراعاة نوعية النقد الذي نسعى إلى تقديمه كبديل للعمل الذي نعمل على نقده، ومن الضروري التمييز هنا بين حق النقد ونوعية النقد ، فالأولى شيء والثاني شيء آخر. استنادا إلى ما سبق توضيحه نقول أنه من حق السيد الحقوني وغيره بطبيعة الحال، أن ينتقد كلامنا كيفما يشاء، وبالطريقة التي يفضلها ويختارها بنفسه، فلا ضرر أطلاقا في النقد الموضوعي الهادف إلى البناء والتغيير الايجابي، بحيث من خلاله؛ أي من خلال النقد الموضوعي يمكن لنا أن نتعلم ونستفيد أشياء كثيرة – ربما- نجهلها أو ننساها أو لا نعرفها أصلا. ولكن ما ليس من حقه(= الحقوني) هو أن ينسب لنا كلام لم نتفوه به أطلاقا، وإنما هو مجرد استنتاج وتخمين شخصي لصاحبه لا غير ، كما سنوضح ذلك بعد قليل، وهذا النوع من النقد نرفضه جملة وتفصيلا. تجدر الإشارة هنا إلى أن الكاتب غالبا ما ينتقد كلامنا خارج السياق والإطار الذي وضعناه فيه، كقوله على سبيل المثال وليس الحصر ” يقول بأن الدين ينحصر في مجال إصلاح المسلمين فقط، وليس البشرية كلها..”. نعم لقد قلنا هذا الكلام ومازلنا عليه حتى يثبت لنا العكس ، لكن ما يتفاده الكاتب في تعليقه هذا، هو أن كلامي هذا جاء في أطار الرد والتعليق على كلامه السابق حيث قال هو أيضا نفس الكلام ، وبالتالي لا ندري لماذا يرفض كلامنا هذا بينما هو القائل به أولا؟ واليكم كلامه بالحرف : ” فيسقطون في مأزق الحكم عن فشل الدين في إصلاح أمور المسلمين..”، ( انظر مقاله تحت عنوان ” الإسلام بين العلمانية والحكم المسبق قراءة في ردود محمود بلحاج على الشيخ الفزازي المنشور على الموقع الإخباري دليل الريف). ففي هذه الفقرة يعترف الحقوني أن الدين يسعى إلى إصلاح أمور المسلمين، وهو الشيء الذي أكدنا عليه نحن أيضا في ردنا التالي ” ومن هذا المنطلق يكون التوافق الذي يتحدث عنه الأستاذ الحقوني ينحصر في مجال إصلاح أمور المسلمين فقط وليس البشرية كلها، حيث أن ما قد يقدمه الدين من إمكانية إصلاح المجتمع قد يناسب المجتمع ” الإسلامي ” فقط، ولا يناسب المجتمعات الأخرى كالمجتمع الهندي أو الأوربي على سبيل المثال..” . وبعد هذا التوضيح لا ندري أين يوجد الاختلاف بين كلامنا وكلام الحقوني؟ وهل يعتقد صاحبنا أن مشروع ” الإصلاح” الذي يقترحه الإسلاميون في مشارق الأرض ومغاربها قابل للتطبيق في جميع المجتمعات البشرية على اعتبار أن الدين الإسلامي هو دين عالمي وصالح لكل زمان ومكان، وبالتالي قد يصلح للبشرية كلها، خاصة على مستوى التشريع، والحريات الدينية والجنسية، والمساواة الاجتماعية والقانونية بين الرجل والمرأة، وحرية التعبير والإبداع الأدبي والفكري وغيرها من القضايا الحقوقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسة السائدة في المنظومة الفكرية والأخلاقية للعديد من شعوب الله في الأرض ؟ 3: حول بتر النصوص الدينية: لكن الخطير في الأمر كله هو أن الأستاذ الحقوني يقوم ببتر النصوص الدينية ( القرآن والأحاديث) حيث يستعملها خارج سياقها التاريخي، وهذا الأمر لا يجوز دينيا بإجماع علماء المسلمين، كتوظيفه على سبيل المثال للحديث القائل ” انتم أدري بشؤون دنياكم” في غير محلها وسياقها بتاتا. فهذا الحديث لا علاقة له بالعلم أو الدين، بمعنى أنها لا تدعوا للبحث في أمور العلم عند الحاجة كما يقول الحقوني، كما أنها لا تدعوا إلى البحث في أمور الدين نفسه إذا ما رجعنا إلى سياقها التاريخي ، وإنما لها علاقة بالأمور السياسية؛ أي بالبحث في أمور تسيير وتدبير الشأن العام للأمة، طبعا يمكن اعتبار السياسة علم من العلوم التي تستوجب الحاجة البشرية البحث فيها باستمرار، وفي هذه الحالة سيكون الحقوني على صواب في استشهاده بالحديث المذكور أعلاه، لكن آنذاك سيكون لنا كلام آخر غير هذا الكلام. وذلك لكون أن هذا الحديث هو اعتراف صريح من النبي (ص) بأن الحكم(= السلطة) ليس من أمور الدين وإنما هو من أمور الدنيا، حيث أن الدولة ينبغي أن تحكم في مجالها والدين يحكم في مجاله. وحينما نؤكد على ضرورة الفصل بين المجال السياسي والمجال الديني فإننا ندرك جيدا عدم وجود شيء يمكن أن نسميه دولة إسلامية؛ في الواقع، هذه الدولة لا يمكن أن توجد. لأن الإسلام لا يفسح المجال بإقامة حكومات.(14) كما لا ندري كيف توصل الكاتب إلى أن البحث العلمي في إطار ” الضمير الإسلامي” يحقق سعادة البشر كما جاء في مقاله المذكور أعلاه، هل هناك مثلا دراسات علمية في هذا المجال أم هو استنتاج شخصي؟ إذا كانت هناك دراسات خاصة في هذا المجال فما هي هذه الدراسات ومن قام بها؟ نحن لا نعتقد بوجود مثل هذه الدراسات بتاتا، ولكن سوف لا نعلق الآن على كلام زميلنا حتى يتفضل بذكر المصادر التي استقصي منها كلامه هذا. أما نحن فنرى أن البحث العلمي لا يحتوي على شيء اسمه البحث العلمي في أطار ” الضمير الإسلامي ” أو على شيء اسمه البحث العلمي في أطار ” الضمير المسيحي” أو الضمير اليهودي” أو ” الضمير الغربي ” مثلا، البحث العلمي هو بحث علمي وكفى، لا عقيدة له، ولا لون له، ولا انتماء له، بقدر ما له قواعد صارمة وضوابط محددة ، ومنهجية البحث العلمي هي منهجية مجردة عن الدين والعرق والجنس واللغة، وبالتالي فعلى كل من يريد أن يشتغل في هذا المجال ( = مجال البحث العلمي) أن يخضع لهذه القواعد والضوابط العلمية. ومن التخمينات الكثيرة التي أوردها الحقوني في مقاله المذكور سابقا بنوع من الثقة الزائدة، هو قوله على سبيل المثال ” مع غياب الوازع الديني (= الضمير بلغة أهل الصين) يمكن توظيف نتائج هذا العلم في تدمير الإنسان..”، نحن لا نوافق الكاتب في هذا التحليل الغير العلمي والمنطقي، حيث أن شواهد التاريخ تؤكد العكس تماما. لم يذكر التاريخ أن ما تعرض له الإنسان من الحروب والدمار كان بسبب غياب الوازع الديني، لكن العكس موجود وصحيح؛ أي أن الدين كان في مرات عديدة من الأسباب الرئيسية لقيام حروب طاحنة ومدمرة بين الديانات والطوائف/المذاهب الدينية داخل نفس الدين، ومنها مثلا الحروب الصليبية، والحروب الاستعمارية التي شنها الجيش العربي الإسلامي في مطلع القرن السابع الميلادي في كل من الشام وإيران وشمال أفريقا والأندلس واسيا..الخ. فالحروب التي خاضتها الدولة العربية الإسلامية في القرن السابع الميلادي على سبيل المثال كانت تحت راية الدين؛ أي أنها كانت حروب دينية هدفها هو نشر الدين الجديد (= الإسلام)، وبالتالي إخضاع شعوب المناطق المستعمرة لسيادة العرب المسلمين بالقوة (15)، علما أنه لا يمكن التشكيك إطلاقا في الوازع الديني لقادة هذه الحروب، ومنهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب، وخالد بن الوليد وعمر بن العاص وغيرهم كثيرون. فالبلدان المستعمرة من قبل الجيوش العربية الإسلامية كانت أمام ثلاثة خيارات لا أكثر: الإسلام أو الجزية أو الحرب، ومن هنا فإن كل جرائم القتل والإبادة الجماعية والنهب والسبي كانت تتم باسم الدين، علما أن الدعوة إلى الإسلام وفق القرآن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.(16) ومن هنا كان الاستعمار العربي الإسلامي بطابعه الاستغلالي والاستيطاني والنهب وابتزاز الإنسان والأرض وكل ما وجد فوقها بداية للبعث الحضاري العربي الإسلامي، حيث أن هذا الانبعاث لم ينطلق من الصفر، وإنما هو امتداد لما كان قائما وموجودا آنذاك من الحضارات، سواء عن طريق النهب والسرقة أو عن طريق الترجمة.( سنعود إلى الموضوع في الجزء الثالث من هذه المقالة) . هذا فيما يخص الوازع الديني أما مسألة استعمال وتوظيف العلم في تدمير الإنسان فهذا موضوع آخر، ونوافق فيه رأي الأستاذ تماما ، غير أن العلم نفسه لا يعتبر مسؤولا عن توظيفه في الدمار، بينما أن الدين مسؤول إلى حد كبير جدا في تدمير الإنسان كما سنرى في المحور الخاص بالعلم والدين خلال الجزء القادم، واعتقد أن هذه هي واحدة من نقط الاختلاف الأساسية بيني وبين الأستاذ الحقوني. إجمالا، يمكن القول أن النقد الذي قدمه الحقوني لكلامنا السابق ، إذا ما اعتبرناه نقدا، يعبر في العمق عن الحالة النفسية والعاطفية لصاحبنا أكثر مما هو تحليل فكري وموضوعي ، فعلي سبيل المثال وليس الحصر يتهمني الكاتب بأنني قد قلت بأنه غير ديمقراطي، حيث أورد يقول (( إتهمني صاحبي بأني غير ديمقراطي ))، وهذا غير صحيح أطلاقا، وإنما قلت فقط بأنه يرفض الديمقراطية مقابل الشورى، وهذا لا يعنى بالضرورة انه عير ديمقراطي كما يعتقد الكاتب. انطلاقا من تصورنا هذا سنسعى خلال السطور الموالية من هذه المقالة المتواضعة إلى نقد، أو بالأحرى إلى مناقشة ومحاورة أفكار ومواقف الحقوني التي نختلف مع معظمها، ففي هذا الموضوع بالذات؛ أي في موضوع النقد يقول الكاتب(=الحقوني) كلاما مهما للغاية، وهو كلام لا نختلف حول مضمونه وأهميته ، لكنه في العمق هو كلاما منمقا يخفي وراءه انزعاجه البين من مقالنا السابق. قلنا، أنه قال كلاما مهما للغاية حول النقد وشروطه التي لا جدال حول أهميته، كلام يوحي بالنضج الفكري لصحابه، لكن مع الآسف، سرعان ما ينكشف الوجه الآخر لهذا الكلام ، كما سنعمل أن شاء الله على كشفه وتوضيحه بعد قليل، على أمل أن يدرك محاورنا، هذه المرة، ما نقوله هنا، وان يتفضل في المرة القادمة( إذا ما أراد مواصلة النقاش طبعا) بالإجابة بوضوح وبشواهد مادية( حجج وأدلة) عن الأسئلة التي طرحناها في المقال السابق، أو التي سيشملها هذا المقال، حيث لا يمكن التستر وراء القول ” أنني فضلت ما يراه الله على ما يراه البشر” ، فكلنا نفضل ما يراه الله وليس ما يراه البشر، ولكن المشكلة لا تكمن في ما يراه الله وإنما تكمن في ما يراه البشر في الأمور التي يراها الله، أو بعبارة أخرى المشكلة تكمن في التأويل البشري لما يراه الله وليس في ما يراه الله نفسه، وبالتالي المشكلة كما قلنا سابقا ليست – أساسا- في النص الديني وإنما في سلطة النص؛ أي كيف يتم تأويل النص الديني لأغراض سياسية دنيوية. كما نتمنى من محاورنا أن يبتعد شيء ما عن التخمينات الشخصية، أو على الأقل أن لا يعتبرها بمثابة حقائق ومسلمات لا تقبل الجدل والطعن. قلنا، سريعا ما انكشف كلام الحقوني بعد حديثه القيم عن النقد وشروطه وأهدافه، المليء بالغموض أحيانا والتناقض أحيانا أخرى، فبالإضافة إلى ما تقدم ذكره تعرض الكاتب، مرارا، إلى شخصنا المتواضع قبل أن يتعرض لأفكارنا، حيث أن لغة التشكيك والتشبيه، بل أن لغة التصغير والاستعلاء أيضا حاضرة بقوة في كلامه، كما يبدو إن محاورنا له عقدة مع الآخر (= الغرب) الحامل لثقافة آخر غير ثقافته. فكل رأي يخالفه ينسبه إلى الغرب في الوقت الذي يؤكد فيه أن الحضارة هي فعل بشري مشترك وليس شيء خاص بالغرب، وحتى نكون منصفين في كلامنا هذا نستعرض في ما يلي ما قاله بالحرف” إن كلام صاحبنا يشبه إلى حد كبير كلام بعض المهاجرين الذين كان اغلبهم فلاحين، وساقهم القدر إلى أوربا الغربية بحثا على تحسين الظروف المادية، في السبعينيات والثمانينيات حتى التقوا ببعثات من المهاجرين قادمة من الشرق خاصة…” ، ثم أضاف يقول أيضا ” والكلام الذي يقوله بلحاج عن العلم/البدعة وانتساب كل علوم الدنيا إلى القرآن هو كلامهم، ولا ألومهم فهم في الأصل فلاحين أميين، ولكن اللوم على من يتهم الإسلام بالباطل، ويعتقد بأن الكمال المعرفي أو المعرفة المطلقة، هي فقط المعرفة الغربية، ويتم أعطاء للمعرفة مفهوما مقيدا بالمكان، ونسوا أو تناسوا أن المعرفة تعني كذلك استخلاص المعرفة الصافية…” . لقد قدمنا كلام الحقوني هذا حتى يشهد بنفسه على ما يصدر منه من الاستعلاء والاستهزاء في حقنا وفي حق المهاجرين عامة. أولا نحن لا نوافق الكاتب في مسألة أن الهجرة كانت قدرا، ثانيا هذا الكلام ليس غريبا عن تفكيرنا حيث سمعناه مرات ومرات عديدة من مثقفين وكتاب مغاربة آخرين، وثالثا هو أن الإسلاميون عادة ما يتصورون أنهم أفضل من الآخرين.. فبغض النظر عن هذا الكلام كله، وبغض النظر كذلك عن هذه النظرة الاستعلائية المرفوضة دينيا وأخلاقيا ( ربما أن الحقوني لا يحتاج هنا إلى التذكير بموقف الإسلام من مسألة الاستعلاء ). قلنا، بصرف النظر عن هذه الأمور كلها، فإنه من الضروري في اعتقادنا توضيح بعض الأمور التي نساها الحقوني أو يجهلها في موضوع الهجرة والمهاجرين. ومن بين هذه الأمور هو نعته للمهاجرين بالأميين، فهذا الكلام هو كلام غير صحيح ودقيق، حيث لا ندري ماذا يقصد ب ” الأمية ” ؟ هل يقصد بها مثلا عدم معرفة القراءة والكتابة باللغة العربية أو عدم امتلاكهم ؛ أي المهاجرين، للوعي الديني أو السياسي أم ماذا ؟ فإذا كان المقصود به هو مسألة عدم معرفة القراءة والكتابة باللغة العربية فهذا خطئ كبير جدا، وهو بالدرجة الأولى موقف سياسي وليس علمي، وفيه الكثير من الاحتقار والإجحاف في حق المهاجرين للاعتبارات التالية: أولا: مسألة عدم معرفة المهاجرين للقراءة والكتابة باللغة العربية ليس اختيارا ذاتيا للمهاجرين وإنما هو واقع سياسي وتعليمي فرضته الحكومات المغربية المتعاقبة على حكم المغرب بعد الاستقلال الشكلي سنة 1956؛ ثانيا: اللغة العربية ليست هي لغة الأم لمعظم المهاجرين المغاربة بأوربا وبالتالي لا يمكن الحديث عن الأمية، وإنما يمكن الحديث عن الجهل؛ أي أن معظم المهاجرين المغاربة يجهلون اللغة العربية، فالإنسان العربي مثلا ( في العراق أو السعودية أو سوريا ..) عندما يتحدث عن مواطن عربي آخر لا يعرف القراءة والكتابة يقول عنه بأنه جاهل ولا يقول عنه بأنه أمي، والفرق بين الاثنين شاسع جدا. كما أن معظم المهاجرين المغاربة يعرفون لغة ثانية إلى جانب لغتهم الأصلية( = الأمازيغية أو الدارجة المغربية)، وبالتالي ليسوا أميين حسب تعبير الحقوني. كما أن وصف المهاجرين ب ” الفلاحين” هو كلام فيه الكثير من الاستهزاء بالفلاحين عموما والمهاجرين خصوصا. هذا بالإضافة إلى أن كلام الحقوني هذا عن المهاجرين هو كلام لا أساس له من الصحة إذا ما نظرنا بشكل موضوعي إلى الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي و الثقافي للمهاجرين، خاصة إذا ما نظرنا إلى واقع الجيل الثاني والثالث والرابع من مهاجرين المغاربة بأوربا، وبالتالي فان كلام الحقوني حول المهاجرين يعبر عن ضعف ثقافته/ معلوماته في مجال الهجرة والمهاجرين. فالمهاجرين المغاربة بأوربا الغربية لم يظلوا كما كانوا في بدايتهم الأولى، وبالتالي لم يظلوا مجرد فلاحين و ” أميين ” كما يقول الحقوني، وإنما أصبحوا وزراء، وبرلمانيون، وباحثون، وكتاب .. الخ. أما مسألة انتشار الفكر الوهابي السلفي المتشدد والمتطرف فهو موضوع آخر لا علاقة له بالأمية حسب كلام الحقوني، وأحب أن أنبه الكاتب إلى حقيقة أخرى، حقيقة ربما يجهلها ويجهلها الكثير من المغاربة، وهي أن معظم المغاربة المتشددين/ المتطرفين بأوربا هم من المتعلمين، بل لهم شهادات علمية عالية ، فقاتل المخرج الهولندي تيو فان خوخ على سبيل المثال لم يكن أميا، ولم يشتغل يوم ما في الفلاحة مثلا، ونفس الشيء بالنسبة لمجموعة هفد اسطاد أمستردام ( hofstaad amsterdam ) أو مجموعة الشريعة ببلجيكا، أو الرابطة العربية الإسلامية بأوربا، أو الأمام الخليل المؤمني ، فهؤلاء وغيرهم كثيرون كلهم مثقفون ومتعلمون. كما أن الذين يصفهم الكاتب ” بالفلاحين الأميين ” هم الذين أسسوا مئات المساجد والجمعيات الدينية بأوربا. ففي هولندا على سبيل المثال فقط أسسوا أزيد من 250 مسجد والمئات من الجمعيات الإسلامية، زيادة عن إذاعة إسلامية، أما مساهماتهم الاقتصادية والاجتماعية التي قدموها للوطن ككل، وللريف خاصة، فالأرقام الرسمية تشهد على مساهماتهم الحاسمة كما يشهد بذلك الواقع العملي السائد في المناطق التي ينحدر منها المهاجرين/ منطقة الريف نموذجا في هذا المجال. ثالثا: إذا تكلمنا عن ” أمية” معظم المهاجرين حسب رأي الحقوني من المنطلق اللغوي؛ أي أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة باللغة العربية، فيمكن اعتبار الحقوني هو أيضا أمي لكونه لا يعرف مثلا اللغة الألمانية، أو الفرنسية، أو العبرية، أو الروسية، أو الهولندية..الخ. أما إذا كان منطلقه في تقييم مدى وعي المهاجرين انطلاقا من مهنهم (= الفلاحة) قبل هجرتهم إلى أوربا أو بعدها، فيمكن أن نقول أيضا أن الكاتب هو أمي لكونه لا يعرف مثلا الزراعة والتجارة والصباغة وغيرها من المهن والحرف التي يتعاطها الإنسان. رابعا: هناك فئة واسعة من المهاجرين (خاصة من الجيل الثاني والثالث والرابع) لهم مستويات دراسية عالية، منهم صحفيون وكتاب وشعراء وفنانون..الخ، ومنهم كذلك من دخل المجال السياسي والنقابي ، وبالتالي لا يمكن الحديث بهذا المستوى الرديء للغاية عن المهاجرين. علاوة على ما سبق توضيحه بشأن الغموض والتناقض السائد في كلام الحقوني يبدو أن صاحبنا له عقدة ما تجاه الآخر– تجاه الغرب – فكل رأي يخالف قناعته يعتبره من أنتاج الغرب، واليكم الحجة والدليل من كلامه ” هذه الرؤية التي تدل على أن هذا النوع من الفكر هو نسخة عن فكر آخر غائب أو مغيب، منطلقه أن الدين الإسلامي هو دين لفئة من البشر اسماهم هو بالمسلمين أما الآخرين فلهم دينهم، لذلك فانحصار الإسلام، عنده، أمر ضروري، ونسى أو تناسى أن أهل هذه الفكرة الأصليين، وهم البعض من أهل الغرب يطلقون بعثات تبشيرية للدين المسيحي في إفريقيا كلها، ومنها بلدة الحسيمة، ولكن بلحاج لا يشير إلى هذا، ربما لأنه علماني مسلم وليس علماني مسيحي..” وفي موقع آخر من مقاله يقول أيضا ” مشكلة هذه الفئة من المثقفين الجنوبيين أو الشرقيين الذين يعيشون في الغرب، هي أنها توجد في عالم العولمة وغير قادرة على احتوائه أو إعادة تنظيره وسبكه ليصبح عملة تجد لها سوقا في الجنوب والشرق وخاصة المجتمع الإسلامي..” أو قوله كذلك “حيث قراه بخلفية سابقة لا تؤمن بأي اجتهاد أو كلام آخر ليس من كلامه في الحداثة أو العلمانية، فالعلمانية عنده للغرب والحداثة كذلك ..”. نطن أن هذه الفقرات كافية لمعرفة كيف ينظر السيد الحقوني مرزوق إلى من يختلف معه في الرأي والموقف، فلا ادري من أين جاء بفكرة أنني لا أؤمن بأي اجتهاد أو أي كلام ليس من كلامي، أتمنى أن يوضح لنا في المرة القادمة من أين جاء بهذا الكلام الذي لم نتفوه به في مقالاتنا السابقة. كما لا ادري كذلك كيف ينسب لي الكلام التالي ” العلمانية عنده للغرب” علما إنني حاولت في مقالي السابق أن أبرهن على أن الأمازيغ والمسلمين، تاريخيا، كانوا سباقين إلى نهج الأسلوب العلماني في الحكم (17). أما مسألة إنني أقول أن الدين الإسلامي هو دين لفئة من البشر الذين سميتهم بالمسلمين حسب تعبيره فهذا شرف لا ادعيه، ولكنني سوف لا أخوض فيه كثيرا، ليس لكوني إنني لم أقول بهذا الكلام فقط، وإنما أتحدى الكاتب أن يقدم لنا دليل واحد يثبت ما يتهمني به في هذه النقطة بالذات. كما أن هذا الكلام لا يرقى إلى المستوى الذي يناقش فيه الكاتب، فالجميع يعرف أن الإسلام جاء للعالمين وليس لفئة من البشر، والجميع يعرف أيضا أن القرآن هو من أطلق اسم المسلمين على أتباع الإسلام وليس محمود بلحاج الذي ازداد البارحة ولا يفقه في الدين إلا الشيء القليل والقليل جدا. وبعد هذه التوضيحات الضرورية التي قدمنها حول مجموعة من القضايا المتعلقة بالمنهج والخلفيات/ المنطلقات الفكرية التي تؤطر توجهاتنا وقناعتنا تجاه المواضيع المطروحة لتداول والنقاش بيني وبين الأستاذ الحقوني ، سننتقل في الجزء الموالي إلى تقديم ملاحظاتنا الأساسية حول ما تضمنه مقال الحقوني من المغالطات الفكرية والدينية. وقبل أن نختم هذا المحور ، نود أولا أن نذكر أستاذنا الفاضل بأن الخلط والتشويه والتأويل لا علاقة له بالنقد الموضوعي ، كما انه لا يجوز شرعا. يتبع .. محمود بلحاج / لاهاي هولندا للتواصل [email protected] 14: الكلام الذي أوردناه أعلاه هو للسيد أ.ج. نوراني، انظر كتابه ” الجهاد والإسلام ” ، ترجمة رياض حسن – منشورات دار الفارابي بيروت، الطبعة الأولى 2007 ، ص 108 15: من الأمور التي يتغاضى عليها الإسلاميون هو أن الغزو العربي الإسلامي يجد مبرراته في النص القرآني حيث هناك العديد من الآيات التي تتحدث عن القتال والجهاد من اجل كلمة الله ومنها مثلا : الآية 28 من سورة التوبة. 16: يقول سبحانه وتعالي في كتابه الحكيم { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين} سورة النحل، الآية 125 17: انظر كتاب : مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة” للدكتور عبد السلام بن ميس – الطبعة الأولى 2005 – ص 5 -.