زوار معرض مراكش الدولي للطيران يتعرفون على قدرات الجيش المغربي    الملتقى الدولي للتمر بالمغرب يكرم المتميزين في عمليات الإنتاج والتسويق    قضية الصحراء المغربية تحت المجهر .. اندحار البوليساريو وهشاشة الجزائر    النيابة العامة تشرّح جثة ممرضة    الفتح يستقبل الوداد في "ملعب البشير"    إنييستا: نسخة مونديال 2030 فريدة    المغرب يرحب باعتماد مجلس الأمن "القرار 2756" بخصوص الصحراء    الحبس النافذ لمتهم بالابتزاز والشعوذة    هيكلة جديدة لوزارة الشؤون الخارجية    مالك صحيفة "هآريتس" العبرية يصف الفلسطينيين ب"مقاتلي الحرية" ويدعو إلى فرض عقوبات على إسرائيل    فيضانات إسبانيا.. ارتفاع حصيلة القتلى إلى 158    الصحراء المغربية.. الرباط ترحب بقرار مجلس الأمن بتمديد ولاية المينورسو    توقيع اتفاقيات خلال "مراكش إيرشو"    مهنيو النقل الطرقي عبر القارات يعلقون إضرابهم    انخفاض طفيف لأسعار المحروقات.. الغازوال يتراجع ب20 سنتيمًا والبنزين يستقر    الصحراء.. مجلس الأمن يمدد مهمة المينورسو سنة جديدة ويؤكد مجددا على عودة الجزائر إلى طاولة المفاوضات    فيضانات إسبانيا.. ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 158 قتيلاً واستمرار البحث عن المفقودين    السيد السكوري: الوزارة منفتحة على جميع التعديلات التي ستتقدم بها الفرق البرلمانية بشأن القانون التنظيمي للإضراب    بنسعيد.. الوزارة تعمل على سن برامج تروم تقوية الرابط الاجتماعي،تثمين الفضاء العمومي وتعزيز مكانة وسائل الإعلام    فيضانات إسبانيا.. وزارة الخارجية تعلن استعدادها لتقديم المساعدة للمغاربة بالمناطق المتضررة    الإيرادات السياحية.. تقدم المغرب 10 مراتب في التصنيف العالمي    جماهير اتحاد طنجة تتوجه بنداء لوالي الجهة لإنهاء حرمانها من حضور المباريات    المغرب يتابع أوضاع مواطنيه في إسبانيا ويسجل حالة وفاة واحدة    نشر أخبار كاذبة والتبليغ عن جريمة غير واقعية يجر شخصاً للاعتقال    7 نوفمبر بالمسرح البلدي بتونس "كلنا نغني" موعد العودة إلى الزمن الجميل        ائتلاف مكون من 20 هيئة حقوقية مغربية يطالب ب "الإفراج الفوري وغير المشروط" عن فؤاد عبد المومني        المنتخب المغربي للفوتسال يواجه فرنسا وديا يوم 5 نونبر القادم    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يُكرم الراحلة نعيمة المشرقي، والممثل الأمريكي شون بين، والمخرج الكندي ديفيد كروننبرغ    المحكمة تقرر تأجيل محاكمة "الستريمر" إلياس المالكي    الكاتب المغربي عبد الله الطايع يفوز بجائزة "ديسمبر" الأدبية    مريم كرودي توثق رحلتها في ورشات الشعر بكتاب "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة"    حماس ترفض فكرة وقف مؤقت لإطلاق النار وتؤيد اتفاقا دائما    الشرطة الألمانية تطلق عملية بحث مكثفة عن رجل فرّ من شرطة برلين    موسم أصيلة يحتفي بمحمد الأشعري، سيرة قلم لأديب بأوجه متعددة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    طقس الخميس.. امطار ضعيفة بالريف الغرب وغرب الواجهة المتوسطية    موقع "نارسا" يتعرض للاختراق قبل المؤتمر العالمي الوزاري للسلامة الطرقية بمراكش    مولودية وجدة ينتظر رفع المنع وتأهيل لاعبيه المنتدبين بعد من تسوية ملفاته النزاعية    الانخفاض يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    اعتقال ومتابعة صناع محتوى بتهمة "التجاهر بما ينافي الحياء"    "فيفا" يعلن عن أول راع لكأس العالم للأندية 2025    مانشستر سيتي وتشيلسي يودعان كأس الرابطة الإنجليزية    توقيف شخص بسلا يشتبه تورطه في جريمة قتل    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    إسرائيل تدعو لإقالة خبيرة أممية اتهمتها بشن حملة "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين    وزير: الإنتاج المتوقع للتمور يقدر ب 103 آلاف طن في الموسم الفلاحي 2024-2025    التحكيم يحرم آسفي من ضربة جزاء    متحف قطر الوطني يعرض "الأزياء النسائية المنحوتة" للمغربي بنشلال    دراسة: اكتشاف جينات جديدة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالسرطان    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    إطلاق حملة وطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدية إلى الشيخ المجاهد راشد الغنوشي
نشر في الرهان يوم 13 - 01 - 2012


محمد وراضي
هذه المقالة التي كتبتها بوحي ممن رافقته روحيا منذ أواخر السبعينات من القرن الميلادي الذي تولى بخيره وشره، أقدمها هدية لأخينا الشيخ الوقور المجاهد: راشد الغنوشي. رئيس حزب النهضة الإسلامي بتونس الشقيقة. وأدعوه أن يرفع صوته عاليا – وهذا عهدنا به – ليخبر العالم كله بأن مبدأ الفصل بين السلط، ليس غريبا عن الإسلام، وإنما هو من صميمه، ومن ضمن مبادئه، حيث إنه جرى تطبيقه، والرسول – عليه السلام – لا يزال على قيد الحياة.
وفي عهد الأغالبة بالقطر التونسي المستقل عن التبعية لعتبات الخلافة العباسية ببغداد، أتيحت فرصة التأكيد عليه واقعيا للإمام القيرواني المالكي الانتماء: سحنون بن سعيد التنوخي، الذي أنهيت إنجاز دراستي عنه كموضوع لنيل دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية بالرباط عام 1989م. والذي أعد بنشره كافة المجاهدين العاملين في حقل الدعوة إلى الله، بعد شهور من الآن إن بقيت في العمر بقية.
وحتى إذا ما أفلحت الجمهورية الثانية بتونس الخضراء في إعادة الأمور إلى ما كان ينبغي أن تكون عليه فور حصولها على الاستقلال، فإنه لا مجال للادعاء بأن الفصل بين السلط مجرد تنفيذ لما عرفه الغرب قبلنا من استقلال للقضاء عن السلطتين: التشريعية والتنفيذية. كلا! إن المبدأ بالنسبة للإسلاميين عودة إلى الأصل، لا اقتباس من الغرب! فضلا عن كون الحرية والمساواة والأخوة، مبادئ تنطق بها النصوص القرآنية والحديثية، وإلا ما ألح الإمام القيرواني سحنون الذي نعزه ونفخر به على العمل بها وهو يمارس القضاء، جنبا إلى جنب مع تطبيق الفصل بين السلط. خاصة وأن الرجل إمام لا يضاهى في الفقه بعد شيخ أساتذته التونسيين والمصريين والحجازيين: مالك بن أنس!
فلتنعم أخي الشيخ الكريم راشد بالاطمئنان النفسي وبالسعادة الروحية، فقد أديت واجب العالم، وقدمت من التضحيات ما اطلعنا عليه وما لم نطلع عليه في الإقامة وفي الظعن، خدمة منك لدين الله ، من خلال خدمتك للشعب التونسي الذي لا يرضى بديلا عن الإسلام الحق، لا عن إسلام القبوريين والطرقيين.
إليك الهدية، ولتقبلها منا شاكرين مشكورين ليقيننا أنك لن تردها، إذ أن أخلاقك المنبثقة عن أخلاق نبي الهدى والرحمة، تحتم عليك قبولها!
سحنون القيرواني والفصل بين السلط
الحلقة الأولى
عندما يتحدث من ليس له إلمام بالنظام السياسي في الإسلام عن ثلاثي السلطة التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، يطير ذهنه – من فرط تناوله لوصفات التغريب – بأجنحة من الإعجاب إلى هناك على الضفة الأخرى للبحر الأبيض. دون أن يخطر بباله أن المجتمع الإسلامي مارس الفصل بين السلط بكيفية أو بأخرى، وإلا ما كنا لنفخر بأسلافنا من العلماء والأدباء والمفكرين. مع التأكيد على أن العلماء هنا هم: الفقهاء، والمحدثون، والمفسرون، والمتكلمون.
ولما كانت ميزة الدول المتقدمة وسمتها في التمدن لا تخرج عن نوع التشريع، وعن نوع تطبيقاته على يد القضاة العادلين، وعلى يد السلطات وأعوانها، أو على يد الحكام في الجملة، أو على يد الدولة من قمة رأس هرمها إلى أسفله أو إلى سفحه، فإننا نقدم نموذجا لفقيه تونسي مغاربي، جمع بين الثلاثي المتقدم عندما تولى القضاء، وله من العمر ست وسبعون سنة (ت 240ه).
وقبل تقديم التفاصيل عن كونه نموذجا في سلوكه القضائي للفصل بين السلط، نؤكد أن الفقهاء قديما هم الذين يتولون التشريع من موقعين: من موقع توليهم القضاء، ومن موقع انشغالهم بما هو أنفع لهم وأجدى وهو التدريس والتأليف، بحيث إنهم على استعداد دوما للإفتاء، كلما عرضت عليهم قضية، أو كلما جد جديد في المجال التشريعي أو القضائي بالبلد الذي يقيمون به. كان ذلك على مدى أربعة عشر قرنا ونيف.
ودورهم في التشريع، لا يقل عن دور نواب الأمة بالبرلمان عندنا في الوقت الحاضر، مع الفرق الموجود بينهم وبين المنتخبين لتولي وضع القوانين والمراسيم، ومراجعتها، أو إعادة النظر فيها، إلى حد إلغاء بعضها وإحلال أخرى مكانها، أو نسخها بصفة نهائية لأنها لم تعد صالحة، وبالتالي لأنها لا تعدو أن تكون نسبية!
فإن كان وضع التشريعات وإصدار الفتاوى لدى الفقهاء مشروطا بشروط تراجع في مظانها، فإننا وجدنا ونجد داخل مجالس النواب، من لم يميز بين الكاف والنون! ومن لم تكن له أية صلة بالفقه وتوابعه ولوازمه. ولا كانت له أدنى صلة بالقانون الوضعي! كما وجدنا ونجد منتخبين لا يعرفون على وجه التحديد فلسفة الحزب الذي ترشحوا تحت مظلته، ولا شموا رائحة إيديولوجيته للكلام باسم الشعب، إلى حد أن بعضهم يترشح في مناسبة انتخابية باسم حزب يميني! وفي مناسبة موالية باسم حزب وسط غير مستقر على مبادئ لن يتخلى عنها لمجرد هبوب ريح عاصفة أو رخوة عليه من جميع الجهات! وقد يترشح باسم حزب يساري تقدمي! أو باسم حزب يساري ثوري! ليصبح بتلونه الحربائي التمويهي واحدا من قدماء البرلمانيين الذين خرجوا بغنائم قد تكون عقارات، أو مشاريع فلاحية أو تجارية أو صناعية!
فيكون المنتخبون ممن لا حياء لهم ولا مبادئ، مجرد وصوليين انتهازيين خونة للأمانات المعلقة في أعناقهم دون أن يدركوا بعد، كيف أنهم غير مؤهلين لتحمل ما يحاط برقبة أي منتخب، في أي مستوى كان من مسؤوليات.
يعني أن النواب الذين يتولون التشريع في دول إسلامية، على رأسها أمراء، وملوك، ورؤساء. وفي مقابل أموال طائلة تؤخذ أخذا من الخزينة العامة للأمة، لا يرقون إلى مستوى من كانوا يشرعون تقريبا بالمجان. فقط للاقتناع بوجاهة الدولة الوطنية. بينما الدولة الإسلامية محظور قيامها! ذلك لأن قيامها عودة إلى عهود الظلام! فالدعاة إلى قيامها إذن ظلاميون! ومع ذلك تخبرنا دساتير أكثر من دولة وازنة بأنها دولة إسلامية!
الحلقة الثانية
عندما تضطرب أحوال الأقلية الخادعة في أي بلد، وتقتنع زعاماتها، وعلى رأسها قائد النظام، بأن الاستقرار سوف لن يضمن إلا إذا تمت الاستعانة بجهة أو بجهات، تحظى بالقبول من طرف جمهور المواطنين. حتى ولو تمثلت الجهة المراد الاستعانة بها في شخص واحد متنور ذي جاه وذي صيت وسمعة. وهذا بالتحديد ما حصل من طرف النظام الأغلبي بتونس، مشخصا في الأمير محمد بن الأغلب، الذي حلف على الإمام سحنون بأشد الأيمان كي يتولى القضاء (= قاضي القضاة حينها أو وزير العدل) فكان أن قبل سحنون بالعرض في اليوم الثالث من رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين.
ولما تولى القضاء، جاءه عون بن يوسف فقال له: "نهنيك أو نعزيك؟ ثم سكت (قليلا) فأجابه: بلغني أنه من أتاها من غير مسألة أعين عليها، ومن أتاها عن مسألة لم يعن عليها"!
ثم أضاف: "من ولته الشفاعة (=الواسطة)، عزلته الشفاعة، ومن ولته الشفاعة حكم بالشفاعة"!
فقال له رجل من الأندلس: "إنا لله وإنا إليه راجعون، وددنا أنا رأيناك اليوم على أعواد نعشك، ولم نرك في هذا المجلس قاعدا"!
معناه أن كبار العلماء الورعين، كانوا يتجنبون مواطن، إن دخلوها كانوا عرضة للجرح والهمز واللمز، ولو أنهم أبعد ما يكونون عن التهم التي تلصق عادة بالحكام وأعوان الحكام: الظلم والغش والتدليس، وأكل أموال الناس بالباطل. مما يفسر لنا إلحاح العلماء العاملين قديما على الابتعاد عن مواقع، تسرع الشبهات إلى تلبيس أصحابها بالدناءة والحقارة والاستصغار! لذلك رأينا كبار الأئمة يرفضون رفضا قاطعا تولي وظائف حكومية، ويفضلون بدلها اتخاذ موقف الآمرين والناهين (= موقف المعارضة المنتجة) من منطلق كونهم مسؤولين عن الصدع بالحق.
ففي خطاب قيم من عبد الرحيم الزاهد إلى صديقه المخلص سحنون، بعد تسلمه للمنصب الذي طالما أعرض عنه، نقف على هذه الدرر:
"أما بعد، فإني عهدتك وشأن نفسك عليك مهم، تعلم الخير وتؤدب عليه، وأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة. تؤدبهم على دنياهم، يذل الشريف بين يديك والوضيع. قد اشترك فيك العدو والصديق، ولكل حظه في العدل، فأي حالتيك أفضل، الحالة الأولى أم الثانية؟ والسلام".
ولم يملك سحنون لتبرير قبوله لأول منصب حكومي يتولاه، غير أن يرد على صديقه بخطاب حكيم كعهدنا به:
"أما بعد، فإنه جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وإني أجيبك أنه لا حول ولا قوة في شيء من الأمور إلا بالله تعالى، عليه توكلت وإليه أنيب. فأما ما كتبت أنك عهدتني وشأن نفسي علي مهم. أعلم الخير وأؤدب عليه، وأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة، أؤدبهم على دنياهم. فلعمري أنه من لم تصلح له دنياه، فسدت له أخراه، وفي صلاح الدنيا إن صح المطعم والمشرب صلاح الآخرة. فكلا الأمرين متصل بهذه! أؤدبهم في معايشهم، وفي دفع ظالمهم عن مظلومهم، وفي أخذهم الأمور من وجوهها. أؤدبهم لآخرتهم، لأنه بصلاح دنياهم، تصلح لهم آخرتهم، وبفساد الدنيا تفسد الآخرة. وقد حدثني ابن وهب: أن النبي ص قال: "نعم المطية الدنيا فارتحلوها فإنها تبلغكم الآخرة". ولن تبلغ الدنيا الآخرة من عمل في الدنيا بغير الواجب من حق الله"!
ولما كان سبحانه وتعالى "يأمر بالعدل والإحسان" و"ينهى عن الفحشاء والمنكر". ولما كان الظلم من بين أشد المناكر فقد أنس سحنون القيرواني من نفسه إلى أن بمقدوره أن يقيم العدل حيث الظلم جاثم على النفوس،، إنما بعد قبول الأمير الأغلبي لشروط فرضها عليه. فما هي هذه الشروط؟
الحلقة الثالثة
نعرف أن المعارضة السياسية تتقدم بشروط كي تشارك في إدارة شؤون الدولة. ومن جملة الشروط التي تتقدم بها إلى الرئيس، أو إلى الملك أو إلى الأمير، خطط مدروسة لتحقيق متطلبات الأمة المادية والمعنوية في شتى المجالات. إذ الهدف في البدء وفي الختام، إنما هو خدمة الوطن والمواطنين. أما خدمة المصالح الخاصة من خلال التواطؤ مع الحكام فخيانة تدينها الشعوب والأمم إن في العاجل وإن في الآجل!
فأما شروط سحنون – كمعارض صلب صادق – لقبول المنصب المعروض عليه – لا لاهثا خلفه – فيحدثنا عنها في الفقرات الآتية:
قال: "لم أكن أرى قبول هذا الأمر، حتى كان من الأمير معنيان: أحدهما أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت. حتى إني قلت له: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك! فإن من قبلهم ظلامات للناس وأموالهم من زمن طويل. إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي.
فقال لي: نعم، لا تبدأ إلا بهم، وأجر الحق على مفرق رأسي.
فقلت له: الله!
فقال لي: الله ثلاثا ( = أدى القسم ثلاث مرات أمامه!)
وجاءني من عزمه مع هذا، ما يخاف المرء على نفسه، وفكرت فلم أجد أحدا يستحق هذا الأمر، ولم أجد لنفسي سعة في رده".
لقد حصل سحنون الفقيه المجاهد المناضل في وجه الحكم الاستبدادي التونسي على ما لم تحصل عليه المعارضة في العالمين: العربي والإسلامي منذ عقود في عصرنا الحالي، لأسباب أو لعوامل يطول شرحها، وفي مقدمتها طغيان الطموحات الشخصية والمغريات المادية من جهة،، وضعف الحس النضالي بغياب الصمود والثبوت في الحق وبه ومعه وعليه من جهة ثانية،، مما يعني أن نضال سحنون يتسم بالصدق والصرامة والرفض العقلاني المؤيد بالتقوى والورع الدينيين!
لقد فرض على الأمير الأغلبي عدم التدخل في القضاء. وهذا ما سوف تسفر عنه بعضا من الوقائع التي نريدها نماذج لاستقلاليته على يديه. إنه رفض أي تدخل فيه من طرف الحكام الذين يمثلون السلطة التنفيذية، مع العلم بأن مواجهته الصارمة لرأس النظام بتونس، تؤكد ما يعرف اليوم بحرية الرأي، والاستقلال في اتخاذ القرارات انتصارا للشرع وانتصارا للأمة.
ثم إن استقلال القضاء عن تدخل أي عنصر من عناصر السلطة مهما كان موقعه ومهما علت درجته، لا يمكن أن ينطلق بتطبيقه من الصفر. فسحنون لم يلغ من حسابه ظلامات (بضم الظاد) استهدفت الناس من طرف أهل بيت الأمير وقرابته وأعوانه لمدة طويلة. والظلامات تعني ما أخذ ظلما من أصحابه كمنقولات وكثوابت من أموال وعقارات ومزارع وحقول وجنات!
وما أقدم عليه سحنون من فرض الفصل بين السلط على الحاكم الأول بتونس، سابقة لم نسمع نظيرها بعده. غير أن ربيع الانتفاضة العربية والحراك الثوري الذي تحمل عنوانه، أعاد إلى ذاكرة الجماهير التونسية ما كان قد قام بتنفيذه عالمها الفذ الذي كان لا يخاف في الله لومة لائم،، فكان أن أضحت تونس بشعبها الغاضب الرافض للظلم والطغيان قدوة لباقي دول العالم كله لا للدول العربية والإسلامية فحسب. فصح أن الطغاة النهمين لاستعباد الشعوب ونهب خيراتها، لا يزعزعهم عن مناصبهم – في هذا الزمان – فرد واحد شديد المراس مثل الإمام سحنون،، وإنما تزعزعهم عنها جماهير تخلصت نهائيا من عقدة الخوف والتردد،، بحيث يكون من حقها أن تطالب بإلحاح ما كان قد طالب به إمام القيروان: الفصل بين السلط، والحرية والكرامة، ومحاكمة كل من استهدف المواطنين بظلامات في غاية الجور،، وليكن موقعهم من الأنظمة الحاكمة ما يكون!
الحلقة الرابعة
مارس سحنون أول وظيف وآخر وظيف حكومي له،، دون أن تتشوف نفسه إلى أي مقابل مادي لعمله الحكومي يحصل عليه. فقد كان "لا يأخذ لنفسه رزقا ولا صلة من السلطان في قضائه كله، ويأخذ لأعوانه وكتابه وقضاته من جزية أهل الكتاب".
قال ولده محمد: "سمعته يقول للأمير: والله لو أعطيتني ما في بيت مالك - أو قال له: لو ملأت مجلسك هذا إلي دراهم ودنانير – ما سألني الله أن أقبل منك ذلك. ولا آخذ منه شيئا، ويقول: لو أخذته لجاز لي، ولكنه تورع".
فكان أول من نظر في الحسبة من القضاة. وأول من "فرق حلق أهل البدع في الجامع، وشرد أهل الأهواء منه (واليوم لهم أعشاش أو زوايا خاصة محروسة محظية من طرف حكامنا!).
و"لما كثرت الظلامات من رجال ابن الأغلب، وأبى أن يقبل منهم الوكلاء على الخصومة إلا بأنفسهم" كما هو حال اليوم عندما يرتمي أحد من عائلة الحكام أو من أقارب عائلتهم على ملك الغير "وجه إليه الأمير – وقد شكوه إليه بأنه يغلظ عليهم – فأرسل إليه ابن الأغلب وقال له: إنهم فيهم غلظة، وقد شكوك، ورأيت معافاتك من شرهم، فلا تنظر في أمرهم..!
فقال سحنون للرسول: ليس هذا الذي بيني وبينه. قل له: خذلتني خذلك الله!" لأن الأمير حنث في قسمه ولم يبر به، ولا ثبت عند وعده أو أوفى به! ولم يملك أمام اعتراض سحنون على أمره (= فلا تنظر في أمرهم ) غير قوله: ما نعمل به؟ (أي بسحنون). إنما أراد الله (تشدده في موقفه منا ومن أوامرنا)!
قال ابن أبي سليمان وغيره: "إن المحتسبين لم يكونوا يعرفون بأفريقية، حتى كان سحنون جالسا على باب داره، إذ مر به حاتم الجزري، ومعه سبي من سبي تونس، فقال سحنون لأصحابه: قوموا فأتوا بهم.
فذهبوا حتى خلصوهم من حاتم، وأتوا بهم، وهرب حاتم على برذونه، وخرق ثيابه، ودخل على الأمير (= السلطة التنفيذية) فشكا أمره فأرسل الأمير إلى سحنون: أن اردد إلى حاتم السبي (إصرارا منه على تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية والتشريعية)!
فقال سحنون (يرد عليه): إنهم أحرار، ولا سبي عليهم، وقد أطلقتهم.
فرد الأمير إلى سحنون: لا بد من ردهم (= إطلاق سراحهم).
فأبى سحنون وقال للرسول: قل للأمير: جعل الله حاتما شفيعك يوم القيامة، وأقسم عليه (الرسول) ليبلغن ذلك إلى الأمير.
ثم قال سحنون: هذا الأسود – يعني حاتما – يمضي هكذا! وأمر بسجنه، فطرح عمامته في عنقه، وحمل إلى الحبس، فلحقه معتب فقال: يا حاتم، لا تلق الشر بين الأمير والقاضي، وأعطاه معتب من عنده سبعة دنانير، فخلا حاتم عن السبي، وأخبر معتب سحنون بذلك، فأمر بإطلاق حاتم من السجن".
ونظائر هذه الوقائع كثيرة، وسحنون يمارس وظيفة قاضي القضاة. ومع ذلك لم يقف الأمير عن محاولة استغلاله – كما يستغل وزراء العدل في الوقت الحاضر من طرف الحكام – لتمرير ولتسهيل عمليات ما يعرف ب"الظلامات". فلما ثار القويبع على محمد ابن الأغلب، قال بعض القواد: اليوم سيتمكن من سحنون. إما أن يخسر دينه أو دنياه. فقالوا للأمير: سحنون داعية مطاع، فأمره بنصرك على هذا الخارجي. فبعث فيه الأمير وأعلمه بالأمر، واستشاره في قتاله، وأن يعلم الناس بفرض ذلك عليهم!!! فقال له سحنون: "غشك من دلك على هذا، متى كانت القضاة تشاورها الملوك في صلاح سلطانها ونهض من عنده"!!!
فأي قاض، وأي وزير يستطيع اليوم في أي بلد إسلامي، أن يبدي من الشجاعة ولو بعضا مما أبداه منها الإمام القيرواني، بحيث يقول لرأس النظام في بلده: خذلتني خذلك الله؟ أو بحيث يقول له: عناصر من أسرتك ومن أقاربك ومن أعوانك: لا بد من محاكمتهم لاسترداد ما أخذوه غصبا من مواطنين مسالمين اعتمادا منهم على حمايتك ورضاك، وصرف نظرك عن محاسبتهم مهما تمادوا في الباطل والظلم والطغيان!!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.