طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :16 مهرجان السينما الافريقية بايطاليا ..هكذا كان الاسم الذي تحمله الدعوة ..لم اكن اعرفه من قبل ..ولم أكن قد ارسلت له طلب المشاركة ..طاقم من مكتب المهرجان كان هناك في مهرجان البوركينافاوصو وشاهد الكثير من الافلام.. ومن هناك اختار فيلم اندرومان ليكون ضمن لائحة المسابقة الرسمية . كانت الدعوة تنص على الحضور لأسبوع ..تعجبت لهذا الامر ..لان غالبية المهرجانات في الخارج لا تتجاوز الثلاثة ايام او اربعة على الاكثر .. كان ذلك سنة 2013..وصلت الى المطار بايطاليا في الساعة الثانية صباحا ..التقيت باحدهم كان يحمل لافتة وقد كتب عليها اسمي .. رجل في السبعينيات من عمره وبلحية بيضاء كأنطوني كوين في عمر المختار ..بعد التحية والسلام بالاشارات فقط ركبنا السيارة ..كان الرجل لايتكلم اية لغة سوى الإيطالية .. انطلقت السيارة تجوب الشوارع الفارغة ليلا ..كنت اتضور جوعا حينها .. وكنت متيقنا ان الوقت متأخر جدا ولا استطيع أن أجد محلا مفتوحا لاقتناء السندويشات .. رغم ذلك التفت نحو السائق وبالحركات والايماءات أبلغته انني اريد آن أشتري سندويش قبل الدخول الى الفندق .. فهم الرجل ذلك.. لكنه استمر في طريقه نحو الفندق .. عندما وصلنا .. كان باب الفندق مغلقا ..نزل السائق ودق الباب بشدة ..ولا من مجيب .ثم أعاد الكرة ثانية وثالثة ..فاذا باحدهم يبدو لنا - من زجاج الباب- يركض من بعيد .. رجل في السبعينات من العمر كذلك ..وبلحية كثة طويلة ولباس ابيض بالكامل .. فتح الباب.. اعتذر عن تأخره بشدة وتركنا ندخل ..اخذ منى جواز السفر ثم قال لي بالانجليزية : تفضل .. سحب السائق الحقيبة وسار امامي .. تبعته وانا احمل بقية أغراضي .. ونحن في الرواق الى الغرفة ..توقف في غرفة عبارة عن مطبخ ..منحني خبزا وزبدة ومربى وعصير ليمون ..وطلبي مني ان نكمل الطريق نحو الغرفة .. كلما وصلنا الى رواق ما.. تنير الأضواء اتوماتيكيا.. وحينما نتجاوزه تنطفئ الانارة ..قطعنا دهاليز معقدة وكثيرة .. بعد النزول بدرجين تقريبا عن سطح الارض .. فتح بابا كبيرا فاذا نحن في كنيسة كبيرة جدا .. انار الضوء بمجرد دخولنا ...الكثير من الاصنام على جنبات الكراسي وصور للموت وحكايات المسيح عليه السلام .. في كل جانب ..وقبور متراصة هناك تثير الرعب وعلى جنباتها بقايا شموع .. .الكراسي متراصة صفوفا صفوفا كثيرة على شكل هلال.. كنت أخطو من ورائه وانا في رهبة شديدة ..صمت رهيب في المكان ..فقط هو صوت عجلات الحقيبة من كان يكسر ذلك الصمت المقدس .. قطعنا الكنيسة طولا الى ان وصلنا الى الربوة التي يقف عليها القساوة عادة وهم يخطبون في الناس... وعلى الجهة اليمنى من تلك الربوة الخشبية وجدنا بابا صغيرا .. يبدو انه بابا يفضي نحو كواليس الكنيسة او هكذا كنت أعتقد ..فتح الباب فاذا نحن اما غرفة صغيرة بها سرير واحد.. وصور عيسى تملأ المكان.. والانجيل بالايطالية فوق المنضدة ..ولباس القس على الحائط ..يبدو ان الغرفة تستعمل في قيلولة كبير القساوسة .. وضع السائق الحقيبة ..منحني مفتاح الغرفة..فودعني وانصرف الى حال سبيله .. بملامح الدهشة وعدم الاستيعاب ما انا فيه ..وضعت أغراضي فوق السرير ..ثم وضعت الاكل على طاولة صغيرة ..لم أعد في حاجة اليه ..لم أعد اتضور جوعا ..ربما أصبحت أتضور خوفا من هول المكان .. كأنني في حلم ..صمت رهيب ..لاوجود لأحد بالمرة ..المكان خال من البشر ماعدا الرجل في مدخل الكنيسة الذي اخذ جواز سفري ..أو هكذا كنت أعتقد لا اخفيكم سرا انني كنت مرعوبا جدا ..كأن الزمان رجع بي الي القرون الوسطى .. أو تماما كماهي الرحلات في الزمن في أفلام الحيال العلمي .. خرجت من الغرفة لأتفحص جنبات المكان علني أجد أحدا يدلني على طريق العودة الى ردهة الاستقبال..لا احد سواي .. عدت سريعا واغلقت الباب .. المكان مخيف جدا..كنت متيقنا أنني لن استطع النوم ابدا والصليب فوق رأسي .. والانجيل على يساري وانا في كنيسة كبيرة صحبة اموات ..وليست لي القوة ولا معرفة الطريق للعودة الى مدخل الكنيسة حيث الرجل الذي يتحدث الانجليزية .. جلست على طاولة علي شكل مكتب كانت هناك.. ولنسيان ما أنا فيه ..بدأت اكتب ماتمليه اللحظة ..هناك وفي تلك اللحظات وفي ذلك المكان.. انبثقت فكرة فيلم كيليكيس دوار البوم ..كتبت بعض المشاهد المرعبة في الفيلم فقط ..كتبتها على شكل رؤوس اقلام .. وضعت الورقة فشعرت حينها كأن لحظة الخوف والرعب قد خفت قليلا .. وبما انني متعب جدا من السفر ..استسلمت للنوم بنفس الوضعية التي كنت فيها ..و على المكتب.. والانارة مضاءة .. في الصباح الباكر فتحت الباب وحاولت تذكر طريق العودة الى المدخل الخارجي ...قطعت الكنيسة طولا وانا أعيد استكشاف المكان ..ثم فتحت الباب الخلفي وخرجت.. فاذا بي في مكان غريب .. غرف متراصة وجدران بيضاء صوت الات ضخ الاكسجين والتنفس ..ورنات دقات القلب تسمع من كل مكان ..ابواب الغرف بعضها مقفل ..والبعض الاخر مفتوح .. انين هنا واخر هناك ..يبدو اني دخلت جناح الانعاش.. في نفس الرواق وجدت باب مصعد ضغطت على الزر ..فتح الباب ودخلت ..المصعد كبير جدا يتسع لسرير او اكثر .. بدأت اضغط على الازرار لكنه لم يتحرك من مكانه .. يبدو انه يحتاج الى قن معين ..خرجت منه وسرت الى اخر الجناح.. هناك خرج من غرفة مجاورة رجل طاعن في السن .. بلباس أسود بالكامل ..يمشي ببطء شديد وهو يتكئ علي عكاز باربعة أرجل ..نظر الى وابتسم واكمل طريقه ..تبعته من حيث لايدري ..فتح بابا صغيرا من خشب واكمل مسيره ..فعلت الشيئ نفسه ..وصل الى ممر واستدار يمينا ..ثم فتح باب كبيرا ودخل ..
بعد هنيهة .. اقتحمت الباب نفسه ودخلت …فاذا بي وسط مطعم كبير فيه الكثير من العجائز حول طاولات طويلة تماما كمطعم جامعي .. توقفوا جميعهم عن الاكل وبدأوا ينظرون الي ..لا أدري هل كنت قد دخلت المكان الخطأ ..ام هي فقط نظرة فضولية منهم لرؤية الغريب .. بعد لحظة من الزمن.. نهض من بين الحضور ذلك الرجل الذي استقبلني ليلا ورحب بي.. وطلب مني ان اخدم نفسي بنفسي لانتقاء ما اود الافطار به .. هكذا فعلت.. و حين جهزت فطوري اخذت مكانا بجانبه على الطاولة وجلست.. بالانجليزية بدأت استفسره عما يجري في هذا المهرجان السينمائي الغريب..فحكى لي كل الحكاية ..وقال لي بان هذا المهرجان الافريقي للسينما أسسه منذ عشرين سنة قس من القساوسة المبشرين بالمسيحية .. الذين اشتغلوا في افريقيا .. وظل منذ ذلك الحين يستقبل المخرجين الأفارقة في هذا المكان ووسط هؤلاء العجزة ويعرض الافلام في القاعة المجاورة .. بحضور جماهيري مهم وبتغطية اعلامية واسعة ... في هذا المكان يبدو أن الزمن توقف فعلا.. وقد حاصر شريحة من محاربي المسيحية الذين انتهت صلاحيتهم .. هنا تجمع ماتبقى من المبشرين العجزة الذي كانوا قد جابوا ارض افريقيا طولا وعرضا وهم يبشرون بالمسيحية ..منهم من يتحدث العربية والامازيغية والانجليزية والاسبانية.. كل اللغات التي كانت موجودة في افريقيا بلهجاتها في تلك الفترة ..ممثلة في هذا المكان .. «كومبوديان» هكذا يسمى المكان رسميا نسبة الى مؤسسه كومبونياني .. لكن الكل في ايطاليا يسميه بمقبرة الفيلة ... جلست في هذا المكان اياما عديدة ..استأنست به وبه سكانه و عدت اليه في مناسبتين متباعدتين لانجاز فيلم وثائقي..واستطعت من خلال تواجدي هناك ان اقف عن قرب ..على حياة هؤلاء البؤساء.. الذين اعياهم المرض والعجز ووجدو انفسهم بعد ان قضوا حياتهم في التبشير ، بدون عوائل.. و لا اقارب.. بل وبدون هوية .. كنا نشهد في بعض الايام.. تناقضات الحياة وتقلبات الزمن في يوم واحد ..نحتفل بتسعينية احدهم ليلا.. لنستفيق على خبر موت احدهم صباحا .. الموت لم يعد يرعبهم لان اغلبهم في حكم الغائب ..الزهايمر منتعش في هذا المكان بشدة ..وغرفهم مستشفى بكل التجهيزات ... كاصحاب الكهف يشعرون ..لا يخرجون من غرفهم الا للمطعم او المقبرة .. وفي ارقى الحالات يخرجون لمشاهدة صور الامكنة والمدن في افلام السينما الافريقية بالمهرجان علهم يشبعون حنينهم لارض هجروها بفعل الزمن .... في احدى الجلسات مع احدهم تحدثنا كثيرا عن افريقيا ..وخاصة عن السودان وقال لي بان كل المتوجهين الى الدول العربية للتبشير انذاك ، كانوا يتعلمون العربية في لبنان ..كان فرحا كالطفل وهو يحكي ذكرايته التي لايملك سواها ..لكن حينما استدرجته الى الحاضر .. شعرت بانزعاجه ..ورغم ذلك قال لي والحرقة بادية عليه : نحن في هذا المكان كفئران تجارب ... قال هذا الكلام وصمت طويلا. ثم استرسل وقال : يأتون بطلبة الطب للتمرن على أجسادنا .. ذات مرة غرز أحد الطلبة ابرة في خدي وشل نصف وجهي لمدة عام كامل ... قال هذا وصمت مرة اخرى .. ثم وقف ونظر الي وقال لي : سأعود الى السودان .. وانصرف متجها الى غرفته ببطئ شديد لانه تجاوز التسعين ... في مقبرة الفيلة وقفت على معنى خيانة المعتقد ... معنى ان تشعر بالوحدة وسط اناس كل واحد فيهم ينتظر دوره للرحيل ..خيانة الايمان بمعتقد كنت تظن أنه الطريق نحو الخلاص ومنحته كل الشباب.. بل كل الحياة ..وفي المشيب تشعر بخيبة الامل ... كل من جالستهم يعجون بحكايا أغرب من الخيال ..لكنهم يتوحدون جميعهم حول مفهوم واحد ألا وهو : خطأ العودة من افريقيا الى مقبرة الفيلة .. لازلت اتذكر قول أحدهم..وكان يحب المرح كثيرا لانه عاش في مصر 40 سنة قال لي أمام الجميع : اسمع ايها المخرج ..نحن جميعا اغبياء ..جئنا لهذا المكان لكي نموت.. مع العلم ان الموت كان سيأتي الينا اينما كنا ... لم يضحك الاخرون ...ضحك بمفره ..ثم توقف عن الضحك ونظر اليهم ... التفت نحوي ودعني وانصرف الى غرفته... والى اللقاء مع حكاية اخرى من الحكايات الوثائقية ارجو ألا تبخلوا على اصدقائكم بتقاسم هذه الحكايات محبتي للجميع