منحت التجربة السياسية الجديدة في المغرب لرئيس الحكومة ووزرائه سلطات مهمة خولها لهم الدستور الجديد، جعلت الحكومة تمارس صلاحياتها دون تدخل من أي جهة كانت، فكل ما تقرره هذه الحكومة تطبقه، حتى لو كانت له في بعض الأحيان تبعات خطيرة. فعندما قرر بنكيران أن يصلي صلاة الاستسقاء بمفرده وبعيدا عن الجماعة صلاها لوحده ولا أحد اعترض، وعندما قرر عدم الانتقال إلى السكن الوظيفي كما تقتضي الأعراف، كان له ما أراد، مع ما يشكله ذلك من أعباء أمنية ومالية على الدولة، وحتى عندما نزل في جنح الظلام إلى حيث كان يعتصم حاملو الشهادات ومنحهم بطاقة زيارته، لا أحد فتح فمه ليقول لبنكيران إن ما فعلته لا معنى له. وحين أصدر رئيس الحكومة تعليماته للقوات العمومية بضرب منتفضي تازة تم تطبيق تعليماته دون نقاش، بل وحتى رجال التعليم وموظفو الجماعات المحلية لم يسلموا من سوط بنكيران، الذي سلط على جلودهم، ومع ذلك الكل امتثل لأوامر السيد رئيس الحكومة. وحين قرر عزيز الرباح استعمال سيارة الكونغو للتنقل إلى رئاسة الحكومة، أو استعمل القطار للتنقل نحو مقر سكنه في القنيطرة اعتبر الكل أن ذلك شأن يخص الرباح وحده، وحين قررت بسيمة الحقاوي السفر إلى أمريكا في الدرجة الاقتصادية بدعوى الحفاظ على المال العام، قال موظفو وزارتها آمين ونفذوا رغبتها. وحين أصدر لحسن الداودي أوامره لحراس وزارته وقوات الأمن المرابضة هناك لسلخ مراهقين جاؤوا طلبا في التحصيل العلمي والمهني، لم يمنعه أحد، ولم يقل له إن ما فعلته عار عليك، مع أن هؤلاء التلاميذ كان همهم الوحيد هو الاستماع إلى شكواهم، وتلبية رغبتهم في ولوج مدارس عليا هم أحق بها. وعندما سافر بنكيران إلى منتدى دافوس ووزع من هناك تصريحات جزافية لكل من التقاه بما فيها الصحافة الإسرائيلية لا أحد عاتبه، وحتى عندما أثار سخرية كثير ممن حضروا إلى دافوس حين، قال، إنه لن يجالس شخصا يشرب الخمر مرت تصريحاته دون لوم من أحد، وكيف نلومه وهو رئيس حكومة بصلاحيات واسعة. وعندما نثر نكته الحامضة هنا وهناك، ضحك منها من ضحك وبكى عليها من بكى، لكن لا أحد قال له كفى فقد صدعت رؤوس المغاربة بهذه النكت التي لا معنى لها، بل اعتبروه مسؤولا سياسيا من حقه أن يلقي النكت كما يشاء ووقتما يشاء ألسنا نحن الذين انتخبناه. وعندما قال للمعطلين من حملة الشهادات العليا، ابحثوا لكم عن رئيس حكومة آخر ليوظفكم لم يراجعه أحد في تصريحاته، بل لقد صفق له شباب العدالة والتنمية وكأنه لم يقل شيئا يستحق أن ينتفض ضده كل شباب المغرب. بل وحتى عندما أصدر لائحته التاريخية حول لكريمات، رغم ما تحمله من نكت حامضة، لم يعترض أحد، بل ولم يتم منع نشرها لأن ذلك يدخل في صميم صلاحيات رئيس الحكومة، وحدها الصحافة الوطنية عبرت عن آرائها سواء بتأييد بنكيران وصحبه، أو بمعارضة قراره هذا وبالحجة والبرهان. وعندما طلب مصطفى الرميد وزير العدل والحريات إطلاق سراح شيوخ السلفية الجهادية وفيهم من لم يقم بأية مراجعات، صدر العفو عنهم وخرجوا إلى الحياة العامة، بل إن الرميد استقبلهم في حفل عشاء وهو المسؤول الحكومي، ومع ذلك لا أحد اعترض. فأين هي جيوب المقاومة في كل هذا، أليس حمقا الحديث عن شيء ليس له وجود، أم أنه حين نقول إن المغرب بدون قانون مالية، وأنه يعيش حالة جفاف متقدم ستكون له عواقب وخيمة على المستقبل بسبب تزايد أعداد المهاجرين وتكاثر البناء العشوائي وغلاء المعيشة، يعتبر ذلك جيبا من جيوب المقاومة. ألم يسرع الرميد مسطرة تنفيذ كثير من الأحكام وفيها ملفات كان هو موكلا فيها، من قبيل الحكم الغريب على جريدة "النهار المغربية"، فأين هي جيوب المقاومة التي تحدث عنها رئيس الحكومة. إذا كان يعتبر بنكيران أن انتقادات الصحافة جيب من جيوب المقاومة، فإنه بذلك قد دخل عالما سورياليا لا وجود له إلا في مخيلته، أما إذا كان مؤمنا بنظرية المؤامرة هذه، فما عليه وهو رئيس الحكومة إلا أن يكشف لنا عن هذه الجيوب، أما إطلاق الكلام على عواهنه، فإنه يضر أولا بصورة رئيس الحكومة، قبل أن يضر بصورة الدولة التي وضعت قطيعة إبستمولوجية مع الماضي، وفيه كثير من جيوب المقاومة التي كان إحداها حزب العدالة والتنمية نفسه.