لعل من "الاستثناء المغربي" أن يتعايش في الحزب السياسي الواحد المناضلون والأعيان والشيعة والشيوعيون والسلفيون وما شئت من المرجعيات؛ مثلما يتعايش مهرجان "موازين" مع الدروس الرمضانية، الأول يُنتقى مرشحوه بعناية فائقة تسويقا لصورة مغرب الحداثة، مغرب الثقافات، والثاني يُختارُ علماؤه بنفس العناية لتسويق صورة بلد إمارة المؤمنين، وكلاهما مشمول برعاية ملكية سامية. تنوع فسيفسائي وتعدد في المرجعيات والإيديولوجيات متحكم فيه لا يشكل خطرا، بقدر ما يمثل عنصر استقرار لنظام سياسي مغربي يقوم على التوازنات ويتقن دهاقنته إدارة التناقضات وتوظيفها، بحيث يُفسح المجال لفبركة قضية تستحيل تصير بعد زمن يطول أو يقصر بحسب حرارة الحياة السياسية والمجتمعية قضية رأي عام، وقد يسمح لها بالتطور لتغدو رافعة استقطاب مجتمعي استهلاكا للوقت والجهود وإذكاءً لحدة الاختلاف بين الفرقاء والمكونات المجتمعية، حتى إذا حمي وطيس النقاش وأوشك أن يخرج عن السيطرة، بادر النظام لإنشاء هيئة بحثية يُعهد لها بإعداد توصيات في النازلة، والتي على ضوئها تصدر التوجيهات لتضع الحرب السِّجالية أوزارها ويحسم نقاش مفتعل: مدونة الأسرة، القضية الأمازيغية، موضوع الإجهاض، ... مناسبة هذا المقال ما أثاره انخراط/ إدماج بعض الوجوه المغربية المحسوبة على التيار الشيعي في الحياة السياسية من ردود أفعال، ورغم أن العملية تمّت من خلال بوابة حزب معلوم الولاء والتوجه، مما يعطي الانطباع أن الأمر صناعة مخزنية خالصة؛ فإنه طرح أسئلة من قبيل: ما عوامل التشيع في صفوف المغاربة وبين الشباب المتعلم تحديدا وأسباب تنامي هذا "المد الفاجر" الذي يوشك أن "يهلك الحرث والنسل"، واللفظ للدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي؟ وبعيدا عن ردود أفعال متشنجة وخطاب مشحون بوابل من السباب والقذف، لا يُسعف في بناء موقف ولا يغني في إقناع متردد، كيف يبرر أفول خطاب مشروع السنة والجماعة؟ قبل محاولة الإجابة عن الأسئلة، بداية وجب التذكير أن العلاقات المغربية الإيرانية تميزت بالتوتر منذ 1979، وعرفت انقطاعا متكررا على المستوى الدبلوماسي خلال سنتي 1984 و2009، وقد شكل حدث استصدار الملك الراحل الحسن الثاني فتوى تكفير الخميني من طرف المجلس الأعلى للعلماء سنة 1982 قمة التوتر بين البلدين، على خلفية استقبال المغرب للشاه المطاح به، لتبقى إيران الثورة متهمة برعاية أنشطة نشر التشيع في المغرب، والتي على إثرها تم سحب رخص مؤسسات تعليمية في الرباط تحديدا عام 2009. أما عوامل تنامي وتيرة التشيع في المعسكر السّني، من جهة، وأفول خطاب المعسكر السني فتعود في تقديري المتواضع إلى طبيعة مشروع وخطاب ومواقف كل معسكر. فإذا كان الشيعة أحسنوا استثمار خطاب المظلومية التي طالت آل البيت في شخص الإمام الحسين رضي الله عنه وأهله في مذبحة كربلاء، فإن المشروع الشيعي انتعش بنجاح الثورة نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وأضحى لإيران الخميني مشروع تحرريّ من قبضة الهيمنة الاستكبارية الغربية. وبعيدا عن درجة تعافي النظام السياسي وحقيقة تداول السلطة بين قطبيه: المحافظين والإصلاحيين، لا يمكن تجاهل منجزات تنموية واقتصادية بل وتكنولوجية توِّجت باقتحام نادي كبار العالم؛ وما مفاوضات الملف النووي مع المنتظم الدولي إلا مؤشر ملموس عن الحضور الإيراني في الساحة الدولية والنزاعات الإقليمية: العراق، سوريا، اليمن نموذجا. وعلى مستوى الخطاب، نجحت الثورة الإيرانية في استمالة جمهور واسع من مستضعفي العالم، وليس المسلمين فقط بخطاب نِدي للغرب صنف الولاياتالمتحدة شيطانا أكبر والكيان الصهيوني وَرَماً خبيثا يجب استئصاله تطهيرا لأرض فلسطين ومقدساتها. أما على مستوى المواقف، فيكفي التذكير بموقفها من القضية الفلسطينية ومناصرتها الصريحة لنهج المقاومة وتنديدها بمسلسل الحروب العدوانية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. كما أن إيران شكلت مع مجموعة من الدول (تركيا، فنزويلا، الأرجنتين، البرازيل) تحالفا وجبهة ممانعة تتصدى للمخططات الامبريالية الغربية، وتنافح في المنتديات الدولية عن حق الشعوب المستضعفة في الاستفادة من مؤهلاتها وثرواتها الطبيعية. ولا يُنسَى دور حزب الله اللبناني من خلال خيار المقاومة المسلحة لتحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وصموده البطولي لرد العدوان الصهيوني: عدوان 2006 نموذجا، في رفع أسهم التيار الشيعي وإذكاء جاذبيته لشرائح واسعة من المسلمين السنة عموما والشباب تحديدا، وإن كان تدخله في الأزمة السورية ومناصرته لنظام الأسد أفقدت الكثير من وهجه وشعبيته. أما الأمور العقدية لمذهب شيعي متشعب وما يعتريه من اختلالات لا يُختلف في شأنها فالتذرع بها من باب حق أريد به باطل، وإلا ما حقيقة وبرهان تهمم حكام العرب والمسلمين السنة بأحوال المَعاد الأخْرويِّ لشعوبهم، مقارنة بتهممهم وحرصهم على ضمان العروش وتوريثها للخلف، حتى ابتُدِعَ منصبُ: "ولِيّ ولِيّ العهد". أبْشِرْ بطولِ عمْرٍ يا استبدادُ! أما مشروع الإسلام السني الرسمي فلا يعدو مستوى نوايا وشعاراتِ ليل يفضحها ضوء النهار، وإلا ما مصير مشروع التضامن العربي قبل الإسلامي؟ وأين تصرف مقدرات المسلمين وعائدات ثرواتهم الطبيعية: البترول نموذجا؟ أليس الأولى الاستثمار في تأهيل العنصر البشري المسلم تعليما وتأهيلا وامتلاكا للخبرات الإنتاجية، أم الاستثمار في بناء الملاعب الرياضية بأوروبا والتنافس على شراء فرق كرة القدم إنقاذا لها من الإفلاس؟ أليس الأجدر تشجيع البحث العلمي تحكما في ناصية التكنولوجيا باعتبارها بوابة للاستقلال والسيادة في عالم لا يعترف إلا بقوة الردع العسكرية؟ أليس الأولى الاستثمار في استصلاح الأراضي تأمينا للغذاء وتنويعا للإنتاج الزراعي توفيرا لمناصب الشغل وغزوا للأسواق العالمية عوض تسوّل الطعام من الغرب بشروطه المُهينة؟ ألسنا معشر المنافحين عن إسلام الجماعة والسنة حملة رسالة إلى العالم، فأي نموذج حكم راشد بلورنا؟ وأي نموذج قيم وأخلاق سوقنا؟ فلا كرامة آدمية صِينت، ولا مقدسات حُررت، ولا عدالة وقسمة ثروات حُققت، ولا تكنولوجيا، بل ولا أمية حُوربت، ولا حقوق انسان وحريات عامة مُورست. وعلى مستوى التدافع السياسي، تهافتت أنظمة المعسكر السني لشراء وُدِّ الغرب والأمريكان تحديدا، وسارعت لتوقيع اتفاقيات الاستسلام مع الاحتلال الإسرائيلي أو لتطبيع العلاقات الاقتصادية والثقافية والعسكرية والاستخباراتية على حساب قضايا الأمة ومقدسات المسلمين، بل دعمت حروبه العدوانية على الشعب الفلسطيني ماديا ومعنويا. ألا يدفع هذا التردي والضحالة مشروعا ومواقفَ وخطابا فئات واسعة من الشعوب السنية المُحْبَطة ل"اعتناق" مذاهب تحررية قد لا يكون التدين مكونا من مكوناتها؟ أليس الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز كان أكثر شعبية من حكام العرب بسبب مواقفه المتقدمة من العدوان المتكرر على قطاع غزة؟ ألم تُشْفِ كلمة رئيسة الأرجنتين كريستينا فرنانديز دي كيرشنر في مجلس الأمن خلال دورة شتنبر 2014 غليل مستضعفي العالم والمسلمين تحديدا وهي تحمِّل الولاياتالمتحدة مسؤولية ما عرفه مسار الانتقال الديمقراطي من تعثرات، مقابل خطاب عربي رسمي خشبي؟ وأخيرا، إن التشيّع وفي المغرب تحديدا لا يصنف خطرا على عقيدة المغاربة من وجهة النظر الرسمية، ليس لأنهم محصنون مسلحون بما يكفي من العلم والمعارف ضد هذا المد أو غيره من التيارات، بل لأن طبيعة النظام السياسي ومصالحه الوجودية استراتيجيا تعتمد على فَيْسَفَة من الفسيفساء المشاهد والحيوات (جمع حياة) المجتمعية، والديني أسُّها، إعدادا لبدلاء محتملين لتعويض من انتهت صلاحيته السياسية وضمانا لاستمرار الاستبداد وتأبيد الفساد. وعليه، فعوض الإمعان في تعميق جراح الأمة والتمكين للمزيد من التفرقة والتشرذم بين مكوناتها، حريّ بمن يعتبرون أنفسهم مصابيح الهدى والرشاد أن يتصالحوا مع ضمائرهم ويعيدوا النظر في مواقفهم في شكل مراجعات لا تراجعات مقتدين بأئمة أجمعت الأمة على رجولتهم الإيمانية واصطفافهم مع قضايا الأمة العادلة في وقت الشدائد والكُرب؛ وبتلك المواقف الرجولية خلدوا في وجدان الأمة، ولم يخلد ديدانُ القراء المتزلفون للسلاطين وإنما يُذكرون إذا ذكروا بركونهم إلى الذين ظلموا وتضييعهم أمانة استرعوها فما رعوها حق رعايتها، فشَرْعَنوا الاستبداد وأسهموا في مأسسته، حتى صار لولي العهد ولي. " وسيعلمُ الذين ظلموا أيَّ مُنقلبٍ ينقلبُون ". صدق الله العظيم والعاقبة للمتقين.