كان يجر وراءه عربته المليئة بالقنينات البلاستيكية، التي كانت تتمايل وكأنها فرقة كورال تردد وراء رئيس الفرقة بمجرد أن تسمع صوته المبحوح المرتعد يصدح عاليا : جافيل... جافيل ... رجل في الستينيات من عمره، تمكن منه الزمان والفقر ،ذو ثياب رثة ،وطربوش متهالك بال لا يكاد يغادر رأسه الأبيض ، وحذاء أكل عليه الدهر وشرب ،يحكي معاناة صاحبه ومعاناته في قطع مسافات طويلة، حاملا فوقه جثة رجل مثقل بهم الزمن والتفكير في تدبير لقمة عيش حارب من أجلها سنوات خلت ومازال يحارب. مازلت أتذكر كيف كانت تستهويني صيحة (مول جافيل) حين كنت صغيرة،وكان هو مازال قوي البنية يدفع عربته بكل قوة وعنفوان، فأرد وراءه جافيل...جافييييل... كبرت وكبرت هموم (مول جافيل)، وشاخت يداه اللتان ترتعدان وهمما تمدان للزبائن هذا السائل الأصفر. كلما تطلعت في هذا الرجل الكهل أحسست بمدى تعبه وبقسوة ظروفه ،كل ما فيه غاضب ثائر، قسمات وجهه التي خطتها تجاعيد الزمان، ملابسه التي بهت لونها من توالي الفصول عليها وتوالي السنين ، حذاؤه العريق المتآكل الذي مازال يغطي هاتين الرجلين المنهكتان من التعب ومن ثقل رفيقة دربه كما كان يحلو له أن يصفها، هذه العربة الوفية له التي لو كان لها لسان لحكت الكثير والكثير عن معاناة هذا الرجل وعن معاناة الآلاف غيره، لروت لنا عدد الأزقة التي جابها هذا الكهل طوال حياته دون ملل، لأخبرتنا عن الأيام الممطرة التي كان يظل فيها هذا الشيخ بدون عمل فيظل بدون مأوى، بدون أكل ولا دواء و... في الحقيقة إني لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن ل (مول جافيل) أن يقاوم غلاء المعيشة، وأن ينعم بشيخوخة هادئة تحت ظل حكومات متوالية يأبى مسؤولوها إلا أن يجعلوا من ظهور الفقراء المعوجة من ثقل الزمن والمسؤولية عليها، سلالم يرتقونها دون خجل وبكل طمأنينة، من أجل الوصول إلى مناصب يتفنون من خلالها في قهر الطبقة الكادحة. إني أخجل من الوضع المزري لهذا الرجل ولغيره من الشيوخ والعجزة الذين لا يملكون الحق في الراحة ولا في تقاعد يضمن لهم شيخوخة كريمة، وليت خجلي ينفعهم في شيء.