حتى إذا ما أصرت جهات بعينها على صم آذانها، كي لا تستوعب توضيحين للعلمانية تقدمنا بهما في مقال لنا سابق. توضيح يتعلق بمفهومها، وتوضيح يتعلق بوضعها في العالمين: العربي والإسلامي. فإن إصرارنا على تنوير الرأي العام – من باب أداء الواجب الثقافي – إصرار لا يقف عند حد معين لا يتجاوزه، بحيث يكون علينا في عجالة أن نميز علمانيتنا عن علمانيتهم التي لم ينقطع الاعتماد عليها منذ قرون عديدة. شأنها شأن علمانيتنا التي انقطع اعتمادها ببعثة الرسول الأكرم، لكنها – للأسف الشديد – عادت بعد خضوع دولنا للاستعمار الغربي الذي مكنها من الاستمرار حتى الآن بوجوه كلها في الجملة ذميمة وقبيحة!!! 1- العلمانية لا تعني فصل الدين عن الدولة كما يدعي المدعون! وإنما تعني: تنظيم الدول وكافة المجتمعات البشرية على أساس من معتقدات ومن ممارسات دينية غير سماوية كالبوذية، والمزدكية، والوثنية، والصابئية الخ. وعلى أساس من معتقدات ومن ممارسات تقوم على الأوهام والخرافات، كالطوطمية، وأنواع من عبادة الأرواح. ثم على أساس من قوانين وضعية، كان واضعوها أفرادا أو كانوا جماعات. 2- هكذا تكون العلمانية كاحتكام إلى تصورات دينية وخرافية، وإلى قوانين من وضع البشر، لا يتضمنها كتاب منزل، ولا تحويها رسالة يقال إنها من عند الله، هي التي جرى بها العمل في العالم برمته قبل ظهور الإسلام. هذا الدين الذي دشن تفعيل شرع الله على نطاق واسع، فصح أن هناك فصلا بين مرحلتين من مراحل الحياة البشرية، أو صح أن هناك قطيعة عميقة، بين عهد العلمانية كما حددنا مفهومها، وبين عهد الدين الذي جرى تطبيقه فعلا على أرض الواقع، بحيث استمر تفعيله لقرون تلو قرون، مع ما رافق هذا التفعيل المزدوج – على الصعيدين النظري والتطبيقي – من فتوحات في مختلف ميادين المعرفة البشرية التي هي عماد العصر الحديث والمعاصر في الغرب الأوربي وفي العالم برمته. 3- ما نعنيه هو أن دول العالم ومجتمعاته كلها عرفت العلمانية قبل ظهور الإسلام بقرون. 4- نؤكد أن الأناجيل المعروفة، لا تضم أحكاما شرعية عملية، وإنما تضم وصايا ونصائح وتوجيهات ونبذة من سيرة سيدنا عيسى عليه السلام. 5- وبما أن الأناجيل لا تضم أسس الاحتكام إلى شرع الله، فكيف ندعي أن الغربيين اعتمدوا على الدين المسيحي الذي انتهى بهم إلى الظلام على كل المستويات طوال العصور الوسطى. 6- ما ساد الغرب ليس هو أحكام منصوص عليها في الأناجيل. وإنما هي شروح الرهبان لتلك الأناجيل! أو الكهنوت الذي يشبه إلى حد بعيد مسمى التلموذ عند اليهود. وهذا الكهنوت مارس سلطاته في إطار العمل بالقوانين الرومانية الوضعية!!! 7- فأن ندعي بأن الغرب لم يتقدم إلا بفصل الدين عن الدولة مجرد افتراءات، وإلا فليقل لنا العلمانيون عندنا أي دين فصلوه عن الدولة؟ نقصد الدين الذي كانوا يعتمدونه لتسيير شؤونهم العامة والخاصة؟ 8- علمانيتهم صدر عنها نظامان: نظام ليبرالي. ثم نظام اشتراكي بنوعيه: اشتراكي ديمقراطي، واشتراكي ثوري (= الشيوعية). ولم يصدرا عنها لمجرد الرغبة في التنوع، وإنما لتغول الليبرالية الرأسمالية التي جعلت من العمال مجرد أدوات أو سخرة طيعة لإنتاج أكبر قدر ممكن من المنتوجات التي تذر على مالكي وسائل الإنتاج، أكبر قدر ممكن من الأرباح. 9- لكن الليبرالية الغربية القائمة على العلمانية، تحسنت أحوالها بالتدريج، بعد أن استفادت من نهب ثروات الشعوب المستعمرة! فأصبحت للعمال حقوق واعتبارات إنسانية، واتسعت دائرة الحريات، فبات من حق المواطنين تأسيس أحزاب وهيئات ومنظمات، وإصدار الجرائد والمجلات، وانتخاب ممثلين لهم على المستوى الجهوي والوطني، وتم الابتعاد عن التزوير، كما تم فضح المزورين وإخضاعهم للمساءلة، حتى ولو كان المزور هو نفسه رئيس الدولة! أو تم التزوير لفائدته! دون أن ندعي تماما بأن الليبرالية الغربية أمثل نظام سليمة كافة خطواته! إنه كمعتمد على العلمانية له هفوات لم يسلم من خطرها الملايين من ساكنة المعمور! وخطرها هذا لا بد من إفراد مقال لإبراز فظاعاته المهولة! 10- علمانيتنا في العالمين العربي والإسلامي، طبعها الاستعمار - وهو جاثم على أرضنا - بطابع فصل الدين عن الدولة! إمعانا في مسخ هويتنا! كما طبعها بطابع ليبرالية عرجاء! إنه أغلق أمام شعوبنا أبواب الحريات التي يمارسها مواطنوه في بلده! فكان أن حرمنا من حرية تأسيس الأحزاب والهيئات والجمعيات، وتنظيم الانتخابات والاستفتاءات. وحتى إن فتح أمامنا بابا من أبواب الحرية أو بابين، فإن ما فتحه هو بالتحديد باب الاقتصاد الذي استغله الإقطاعيون والبورجوازيون الذين وجدوا فرصة للإثراء المفرط اللامشروع! إضافة إلى باب ممارسة البغاء داخل المواخير وخارجها! فضلا عن تعاطي الخمور وكافة أنواع المخدرات! 11- برحيل الاستعمار حذا حذوه من تسلموا زمام أمورنا منه! فأصبحنا بصريح العبارة أمام نوع جديد من الاستعمار! فكان أن تفرعنوا ووضعوا عراقيل أمامنا حتى لا نخضعهم للمساءلة! فالأحزاب لا تؤسس إلا بشروط! في مقدمتها الاعتراف بالأنظمة القائمة! وهذه الأنظمة لم تخير الشعوب بخصوص قبولها أو رفضها! إذ لا يوجد ولو حاكم واحد نظم استفتاء شعبيا في بلده بعد انجلاء الاستعمار عنه، ليعرف نوع النظام الذي اختاره الشعب: نظام إسلامي؟ أم نظام علماني بمختلف أنواعه المذكورة قبله؟ أم نظام ملكي؟ أم نظام جمهوري؟ أم نظام أميري؟ مما يدل دلالة قاطعة على أن خيانة الشعوب تم اقترافها من طرف حكامها الأوائل بدون ما استثناء يذكر! 12- مما يعني أن الحكام الأوائل وجلاوزتهم وحواشيهم، والمتكاملين معهم بعد رحيل الاستعمار عن كافة الدول العربية والإسلامية، خانوا شعوبهم واستصغروهم، واعتبروهم غير مؤهلين للتشاور معهم في موضوع أساسي حساس، يتعلق بمستقبلهم وبمستقبل أبنائهم في القادم من السنوات التي وقفنا عليها الآن كسنوات قاتمة من حيث سيطرة الديكتاتوريات وطغيان قادة الدول، إلى حد أن الشعوب انتفضت فيما يسمى بالربيع العربي، بعد أن كان هناك في إيران 1979م ربيع من نوع آخر أطاح بملك الملوك شاه شاه محمد رضا بهلوي! والحال أن المتوقع في المستقل المنظور لا يعلمه غيره عز وجل! وهو مع ذلك مستقبل آت لا ريب فيه!!!