لْوِيسْ مَارْتُوسْ فى ذِكْرَى ميلاده فى الثاني من شهرديسمبر الجاري حلّت الذكرى الثامنة والثمانين للشّاعر الأندلسيّ المقلع، القرطبيّ المولد لويس خيمينيث مارتوس الذي كان قد وُلد فى مثل هذا التاريخ من عام 1926،والذي توفّي فى الخامس والعشرين من شهر يونيو 2003، هذا الشّاعر الذي يَعترف لك في شعره، ونثره، وأحاديثه بأنّه مشدودٌ إلى أصله، فخورٌ بجذوره التي لها صلة وثقى بالوجود الإسلامي فى الأندلس موطنُه، ،إذ بفضل هذه الجذور أصبح يتعاطى الشّعر. فالشّاعر الحق ّ فى نظره، ليس ذاك الذي يتغنّى بالحياة الآنية التي يعيشها وحسب، بل إنّه بالضرورة الذي يرحل،عبر الزّمان والمكان ويعودُ، ويغوصُ في بحر ماضيه،و يبحث عن أصله،وفصله، وعرقه، ومحتده، وجذوره ، وعن مباهج، وينابيع حبّه فى شرخ الشباب وريعانه،وهيامه وتعلّقه وألفته بأوّلِ منزل ، وشعارُه دائماً بالتالي فى هذا القبيل كان هو قول أبي تمّام الطّائي : نقّل فؤادَكَ حيث شِئْتَ من الهَوَى/ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأوّلِ كم منزلٍ فى الأرض يألفه الفتى/وحنينه أبداً لأوّلِ منزلِ. بين قُرطبة الفَيْحاء وغرناطة الغَرّاء شعره طافح بالأحاسيس الجميلة، والمعاني الجليلة المتعلقة بالماضي الأندلسي، و بأجواء مدينته ومسقط رأسه قرطبة أولاً، ثم غرناطة كمرتع خصب لطفولته وصباه. خيمنيث مارتوس شاعر متعلق بنزعتين اثنتين هما : الماضي، (ماضيه العربي) والجنوب (الأندلس لوقوعها في جنوب شبه الجزيرة الايبرية). يؤكد الناقد "خوان فان هالن" في مقدّمة أحد دواوين الشاعر إتجاه خيمنيث مارتوس الشعري، فيقول : "فبالإضافة إلى إندفاعه نحو جذوره أي نحو الماضي، فإنّ القاسم المشترك في الأعمال الشعرية لصاحب كتاب"قصيدة الحدث الحميد" هو الجنوب دوماً ، ففيه تنمو عبر رياح سحرية أندلسية ساحرة هذه القصائد التي يستمتع بها القارئ فى كلّ وقت وحين ،". و يضيف الناقد مشيرا : "أن كتاب قصيدة الحدث الحميد" ينبثق كمؤلفات أخرى للشاعر من رحلته إلى طفولة الحبّ، فالحبّ مازال حيّاً،نابضاً، وحاضراً فى أعماقه ووجدانه، ، والكتاب إذن ديوان غرامي، وعنوانه بالذات يتبنىّ هذه العواطف، إذ أنّ كلمة "قصيدة" العربية المثبتة في صدر الكتاب تعني عنده شعر الحبّ بدون حدود، و منذ الأبيات الأولى يمكن رؤية القصد وإدراك المضمار : أنت و أنا، و للنفس زجاجٌ واحد و خريطة للعودة المعروفة عجّل، عجّل، عجّل، طفولة الحبّ تعيش في غرناطة. و يقول خوان فان هالن كذلك أنّ هذا الديوان. يقوم على ثلاثة محاور يقوم عليها ،المحور الأوّل شخصي المتمثل في العلاقة بين رجل و إمرأة، ووجه الحب في الماضي و الحاضر، والمحور الثاني يستحضره الشاعر في قصيدة "موكب الأشباح" ملامح شخصيات مرتبطة بغرناطة، وبكلّ ما هو غرناطي. و أمّا المحور الثالث فهو المتعلق بالمدينة ذاتها وبشخصيتها السحريّة. هذه المحاور الثلاثة تعتبر عناقاً حارّاً بين التكريم الحيوي، ومتعة التأمل، ودرساً في التعايش و الحب الناضج الماثل دائماً، فضلا عن حقيقة الشاعر الإنسانية المقاوِمة لعامل الزّمن ومروره وإنسيابه، وتحاتّه ، يُضاف إلى ذلك كلمة البقاء الخالد لجمال غرناطة الأندلسية على امتداد العصور والدّهور. إن خيمنيث مارتوس في هذه "القصيدة" العربيّة الرّوح، والرّائحة، والنكهة، والمكتوبة بلغة قشتالية مطعّمة وموشّاة بكلمات عربية أنيقة تنمُّ عن حنين راسخ في أعماق الشاعر نحو ماضيه الجميل الحافل، فالذي مضى ما زال حاضراً قائماً ماثلاً أمام ناظريه،بالنسبة إليه في الزّمن و الذاكرة، و إن ذكرياته الماضية و حبّه الأوّل،ومنزله الاوّل، و عشقه، وهيامه بالمدينة الأندلسية الأسطورية يصل به إلى "لحظات مطلقة للجمال" نظرته إلى الوراء ليست نظرة أسىً وحسرة بقدر ما هي إستمتاع بالحبّ، و حفاظ عليه بعيدا عن أيّ حنين مشبع بالأسف والتأسّي. إن معظم القصائد في هذه "القصيدة الكتاب" تومئ، وترمز، و تتحدث، وتناقش،وتحاور، وتستحضر، وتبثّ الرّوح في كلّ ما هو إسلاميّ في هذه المدينة الأندلسية، وعلى الرّغم من أن الشاعر من مواليد قرطبة، إلاّ أن ّغرناطة في هذه القصائد تحتل مكانا بارزا ومهمّا في شعره كما أنّ ذكريات الشاعر يطغى عليها كلّ ما هو غرناطي، بل إن ّعنوان الديوان نفسه "الحدَث الحميد" هو بداية ولادة الحبّ لدى الشاعر، إذ أن الحدّث الحميد الذي يقابله فى اللغة الإسبانية El buen Suceso إنّما هو إسمُ الشارع الغرناطي الذي عاش وترعرع فيه الشّاعر. الحنين إلى الماضي يقول فان هالن : "في هذا الديوان و كما يحدث عموما في جميع أعمال خيمنيث مارتوس الشعرية هناك رشح وتبادل دائمان بين الواقع الداخلي و الخارجي الذي يعيشه المؤلف، وهذه من جهة أخرى ميزة تقليدية في الشّعر العربي".ويرى الناقد أن كتاب "قصيدة الحدث الحميد" يُعتبر حدثا حميدا في الشعر الاسباني الحديث فى حدّ ذاته !. يتضمّن الكتاب تسعا وعشرين قصيدة تدور حول مواضيع متباينة يطغى عليها الطابع الأندلسي المتعلق بماضي الشاعر، وطفولته، وحبه، وارتباطه بحضارة متألقة سادت فوق أرضه الأندلسية و التي ما يزال يرى و يلمس معالمها و آثارها حتى الآن. و لو قام القارئ بإجراء إحصاء للكلمات العربية الأصل الموجودة في القصائد الواردة في هذا الديوان لهاله الأمر، و لا عجب فالشاعر إنما يتغنى في ظل الحضارة الإسلامية، وعن مركز مهم من مراكز إشعاعها وهي مدينة غرناطة. بل إننا واجدون جوّ الحنين هذا إلى الماضي العربي القديم ، والإعجاب به في بعض عناوين القصائد نفسها مثل : عودة، اندهاش، من حي البيّازين، إلى الحمراء، أنت كذلك عرفت شتاءً من الدموع، شروق من الكرسي العربي، من أجل الكتابة على سور غرناطة الحمراء، من على مصطبة جنّة العريف، محاورات إبن زمرك، من ديوان دار الريّاحين، رثائيات إلخ. و من الأسماء والكلمات العربية الواردة في هذه القصائد أسوق منها على سبيل المثال لا الحصر : عدن، الحمراء، البيازين،وادي آش، جرّة، أبو عبد الله، سليمة، باب الرّمل، الزناتي، العربي، الصوفي، البِركة، إبن زمرك، السّطح، العرب، بنو زيري، جنّة العريف، الياسمين، إلى غيرها من الكلمات العربية. أو ذات الأصل العربي أو الامازيغي التي لا حصر لها المبثوثة هنا وهناك من الديوان. التأثيرات العربيّة في شِعره و يعترف لويس خيمنيث ماتوس بمدى تأثّره بكلّ ما هو إسلامي، و لا غرو، فقد ولد وعاش في الأندلس ما بين مدينتي قرطبة و غرناطة، حيث كانت الآثار الإسلامية في هاتين المدينتين و سواهما من المدن الأندلسية الأخرى تأخذ بمجامعه، وتستحوذ على مشاعره، و تبعث فيه الزّهو والفخار حيال ماضيه المجيد، و تشحذ قريحته الشعرية التي تحفل بالإشارات، والأسماء، والرموز العربية. كما رأينا من قبل. ففي قرطبة كان يقطن بجوار الرّصافة، و كثيرا ما كان يتردّد على مدينة الزّهراء. و باقي المآثر الإسلامية بالمدينة. قال عنه الناقد الاسباني" فرانسيسكو لوثب إسترادا "ضمن مقال تحت عنوان "أخبار الشعراء القرطبيين المعاصرين" والذي نشرته مجلة "كانتيكو" الاسبانية : "أن لويس خيمنيث مارتوس مُشبع بالتأثيرات العربية، إنني ألمس في قصائده غنائية الشّعر العربي الأصيل". و يشير خيمنيث مارتوس أنّ ديوانه أو كتابه "قصيدة الحدَث الحميد" هو إمتداد لقصيدته المطوّلة "العيون البعيدة" التي كتبها عام 1952 في قرطبة. و تدرجه الباحثة الاسبانية " بيلار بالومو" ضمن مجموعة ّ الأندلسيّين المعاصرين المجيدين . قصائد لويس خيمنيث مارتوس كلها ذات طابع عربي، منها : "قصيدة في رثاء الرّصافة" ،وقصيدة تحت عنوان "أزرع نخلةً في مراكش"، وقصيدة تحت عنوان "صحراء من السّماء" (كتبت في الطائرة ما بين مراكش و الدارالبيضاء) و قصيدة أخرى كتبها في مدينة أصيلة المغربية وهي "في تكريم الشاعر ابن زيدون صاحب ولاّدة بنت المستكفي". و كتقييم عام لهذا الشاعر نثبت هنا شهادة عميقة للناقد الكاتب الإسباني خوان فان هالن الذي يشير أيضا في الكلمة التمهيدية لديوان قصيدة "الحدث الحميد" إلى ما يلي : لويس خيميث مارتوس شاعر متين، ومثالي، وخصب، وهو صوت راسخ فى الشعر الإسباني المعاصر. وكتابه "قصيدة الحدَث الحميد" هو سابع كتبه أو دواوينه الشعرية، تعتبر برمّتها مفخرة أخرى تضاف إلى عطاءاته ، ودليلاً على حسن إستعماله، واستخدامه للمواد الشعرية، ولدوافعه المتجسّدة في حقائق بديعة سابقة. و ذلك الإندفاع هوالذي حمله إلى جذوره الأولى ،إلى ماضيه البعيد في قصيدتيه "تحت ضوء آخر" و في "طاحونة مارتوس" ووضعه فى أجواء مدينته ومسقط رأسه يحمله في هذه المناسبة نحو مبدأ الحبّ في كتاب هو من و لغرناطة. والقاسم المشترك في الأعمال الشعرية لصاحب كتاب"قصيدة الحدث الحميد" هو الجنوب دوْما. ففيه تنمو عبر رياح ساحرة عربية أندلسية هذه القصائد الرّقيقة التي يستمتع بها القارئ بكلّ اللغات على حدّ سواء. ليس هناك من مفاجأة لمن تابع أعمال خيمينث مارتوس، من حيث الأوجه الشكلية في "قصيدة الحدث الحميد" هذه. ففيها نجد شاعرا ذا معرفة ثرية، وصوتا أصيلا، وعليه لا يمكن أن يطولنا الاندهاش من وجود زخم شعري عميق في هذا الكتاب. و يجتازخيمينث مارتوس في هذه المستويات من مسيرته الشعرية مرحلة حافلة بالنضج ،والحماس، والموسيقى ،والوضوح البهيّ، والشوق المتزن، والكلمة الموزونة، والفعالة دائما يضاف إلى ذلك نفحة من النضارة والعاطفة. شتاء الدّموع و كنموذج لهذا الشعرالطافح بالمشاعرالصادقة، والحنين الدائم إلى الماضي، وبالخصوص إلى الذكريات الغرناطية المتعانقة مع التجربة الشخصية المعاشة، والعاطفة الجيّاشة المتأجّحة نورد القصيدة التي تحت عنوان : "أنت أيضا عرفتَ شتاءً من الدموع" التي يقول فيها الشاعر : أنت أيضا عرفت شتاءً من الدموع كتلك التي ذرفها أبو الهديل في وداعه الضبابيّ و لكنك لم تكن تعرف لمن تسلّم مفاتيح ما قد ضاع و عندما إلتبس عليك الأمر حملتها معك إلى الأبد و الآن تعود لإرجاعها كالرّماد في ضوء نهار صيفيّ و ذاك الألم يضحك في الحضيض. وذكريات الحبّ الأولى من الزاوية الشخصية والبيوغرافية الذاتية تصل إلى لحظات مطلقة من الجمال. وينظر الشاعر إلى الوراء، و لكنه يفعل ذلك انطلاقا من المتعة في الإحتفاظ بالحبّ لا عبر الحنين المشبع بالأسف. عندها صارت الكلمةُ بدايةَ الكون. آه ،لم أكن في حاجةٍ إلى ستّةِ أيامٍ لخلقك و لم تُلزِمْك أنت لإيجادي ماءً جاريا كن و ً سريعة كالتي تعشعش في هذه "الحمراء" غرناطة دائما، و أجواء الحبّ في قاع القصيدة، غرناطة السّحرية، طبيعة عاشقة في الماضي و الحاضر، أخذت تنبثق من الأمس مسترجعةً ذاتها من ثبج الماضي، لتصبحَ حيّة كما كانت من قبل، بعفّة الحبّ الذاهب والآتي، فى رحلة حبّ الإستطلاع المزدوج. *كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا)