تبدو الصورة مفزعة بعد مرور نحو أربعة أعوام على ما عرف ب"الربيع العربي" فإرهاب تنظيم "الدولة الإسلامية" ينتشر في أجزاء كبيرة من سوريا والعراق، في الوقت الذي يواصل فيه الديكتاتور بشار الأسد بعناد قصف قطاعات من الشعب وتغرق ليبيا واليمن في فوضى الميليشيات المتناحرة. أما مصر فقد انتزع فيها الجيش السلطة من الإخوان المسلمين وبدأ في الحد من الحريات بشكل قوي. التوترات بين العرقيات والعقائد المختلفة يتم زرعها في أنحاء عديدة ثم توظف هناك لتأمين السطوة السياسية. يمكن القول إن الأوضاع تدهورت إلى الأسوء، وكان من الممكن إصدار حكم بفشل "الربيع العربي" بالكامل لو لم يكن هناك النموذج التونسي. صدقت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عندما وصفت هذا البلد الصغير ب"بقعة الضوء" في المنطقة. فتونس كانت نواة موجة الثورات العربية، وهي الآن البلد الوحيد في المنطقة الذي يسير بخطى ثابتة على طريق تحقيق الديمقراطية ودولة القانون. ويتجلى التقدم الذي تحرزه تونس من خلال السلاسة التي ميزت مسار الانتخابات التشريعية والمشاركة القوية للمواطنين فيها، رغم التخوفات من وقوع هجمات إرهابية. وهو أمر لا يمكن معه سوى تقديم التهنئة للتونسيين.
تعاني تونس من غياب الآفاق الاقتصادية كما أن معدلات البطالة بها مرتفعة، علاوة على المشكلات المرتبطة بقيادات من النظام القديم وبالأطياف المختلفة للإسلاميين وللإرهابيين أيضا. لكن الطبقة السياسية عرفت حتى الآن كيف تحل هذا الكم الكبير من الصراعات بطريقة سلمية من خلال أكبر قدر ممكن من التوافق. فعلى العكس من النموذج المصري الذي سعى فيه الإخوان لفرض سيطرتهم المطلقة قبل أن يتم إسقاطهم من السلطة بطريقة عنيفة، نجد أن العناصر الإسلامية المعتدلة في تونس والقوى العلمانية تعاونت سويا بطريقة مثالية بهدف حماية البلد من الانفسام بسبب الصراعات السياسية أو عدم العودة به بعشرات السنين الى الوراء. النتائج الأولية وردود الأفعال على الانتخابات تعزز الآمال بشأن استكمال تونس لهذا النهج. وتشير النتائج إلى فوز "نداء تونس" الذي يتعاون فيه ممثلو النظام السابق سياسيا مع قوى علمانية أخرى. أما حزب النهضة صاحب الأيدلوجية المقابلة فحل هذه المرة في المركز الثاني. الحزب المحسوب على الإخوان المسلمين تقبل الهزيمة على الفور، كما هنأ الفائز وهو أمر يشير لقدر من الحكمة والثقافة السياسية التي يفتقدها المرء في دول أخرى بالمنطقة في الوقت الراهن. ثمة سيناريوهات مختلفة لمستقبل تونس. كما أن الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها الشهر المقبل قد تغير من التوازنات السياسية. إلا أنه من الواضح أن حزب "نداء تونس" سيضطر لتشكيل ائتلاف إما مع الإسلاميين المعتدلين في حزب النهضة أو مع أحزاب علمانية صغيرة أخرى. إن تجاوز التحديات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجهها تونس هي مسألة مهمة لمستقبل هذا البلد، غير أن العمل على الاستمرار في دمج الإسلاميين في العملية السياسية في البلاد والحيلولة دون حدوث تطرف لديهم من الداخل، هي أيضا مسألة ليست أقل أهمية. وهذا بالضبط هي نواة "التجربة التونسية". ويجب على أوروبا الآن أن تدعم هذا البلد بشكل قوي.