أسئلة جوهرية ملحة: دعونا بعيدا عن أي حسابات سياسوية أو قراءة مغرضة نطرح أسئلة جوهرية: هل كان الإعلان عن إضراب 23 شتنبر 2014 إعلانا حقيقيا ينطلق من استيعاب دقيق للمرحلة ولطبيعتها؟ ويعتمد مرتكزات واقعية ملحة؟ أم أنه يأتي في سياقات سياسوية صرفة فيها من اللعب على حبال الصراعات والتناقضات الشيء الكثير؟ أو إنما جاء استجابة وتطييبا لخاطر شغيلة طحنتها آلة الارتجال التدبيري للحكومة المنفذة مثلما طحنتها وضعية التشتت والتمزق والتفتت الذي تحياه الكيانات النقابية في ظل غياب فعل نضالي واضح الأهداف مرتب الأولويات متعال عن النزق السياسي الذي لا يكاد يثبت على حال؟ سياقات ومطالب: من السياقات العامة التي يمكن أن يقرأ فيها قرار الإضراب هذا الوضع العام الذي عرفته البلاد مع مختلف عمليات التدبير السيء للسياسات العمومية من طرف الواجهة المنفذة التي هي الحكومة، والتي جعلت البلاد تعيش مسارا تراجعيا على مختلف الأصعدة؛ سياسيا باستمرار التحكم المخزني وبقاء هوامش التنفيذ للحكومة من دون ما قدرة على فصل حقيقي للسلط ولا على تنزيل أو تأويل للدستور الممنوح، واقتصاديا بالتمادي في سياسات التبذير للأموال في مشاريع مضخمة لا أثر لوقعها على معيشة المواطنين خاصة أمام تغييب حكامة تعتمد المحاسبة والمساءلة، واجتماعيا بتدهور البلاد في سلم مؤشرات التنمية البشرية خاصة مع الكارثة التي يحياها قطاع التعليم بفعل غياب البوصلة وضياع الوجهة وتأبيد مسلسلات الارتجال والعبث. وهي وضعية أدخلت البلاد في "سنوات بيضاء" جعلت الحصيلة التدبيرية لا ترقى لمستوى التطلعات والآمال التي عقدت على "مؤسسات ما بعد يوليوز 20111" [1] أما السياقات الخاصة فتكفي نظرة عابرة للبيانات النقابية لنكتشف أن مبررات هذا الإضراب تتلخص عموما في اتخاذ الحكومة لقرارات فردية تتسم بالإجحاف في قضايا مصيرية من دون إعمال منطق التفاوض والتشاور الجماعيين مع الشركاء النقابيين والفاعلين المجتمعيين؛ وفي الهجوم المتتالي على الطبقة العاملة من خلال إجراءات رفع الدعم ورفع الأسعار؛ ولعل قضية التقاعد التي لخصت مجهودات العمال في قاعدة: "اعمل أكثر وادفع أكثر لتُحصِّل معاشا أقل" كانت النقطة التي أفاضت الكأس، وعجّلت باتخاذ قرار نضالي كهذا. في ما يرتبط بالمطالب يطمح الفاعلون النقابيون إلى "أن تتدارك الحكومة هجمتها الشرسة هذه على حقوق الطبقة العاملة وأن تعمل على إعمال "العقل السياسي الوطني" لحل مشاكل البلاد عبر التفاوض والحوار الجماعي لضمان السلم الاجتماعي وتقوية الجبهة الداخلية" [2]، كما يطالب هؤلاء ب"التعبئة الشاملة في إطار جبهة نقابية واجتماعية موحدة لإنجاح الإضراب العام الوطني ضد الإجهاز على الحريات ومكتسبات وحقوق الشغيلة، خاصة في مجال التقاعد والحفاظ على القدرة الشرائية" [3]. ولعل تداخل وتفاعل مجموع السياقات هذه والمطالب تلك هو ما أحدث نقاشا وردود أفعال متباينة، ودفع إلى السطح، مرة أخرى، سؤال الفعل النضالي وأشكاله وأسئلة الممارسة النقابية وآفاقها. إضراب 23 شتنبر: سؤال الجدوى؟ لنقرر بداية أن الإضراب حق مكفول بقوة الدستور والقانون، له قوة وفاعلية وجدوى في الممارسة النقابية الراشدة التي تعي أهمية الفعل النقابي وحيويته في دعم أركان مجتمع قوي متضامن. عندما نطرح سؤال الجدوى من الإضراب فإننا نطرح معه أسئلة في عمق معنى وغاية الفعل النقابي ضمن عناصر عدة هي على الترتيب: 1- سؤال الموقع من الحركية المجتمعية؛ إذ ما هو وضع النقابات وموقف النقابات من الحراك المجتمعي العام، خاصة مع تباين تفاعلاتها مع هذا الحراك المجتمعي بفعل الحسابات السياسوية الضيقة والسقف النضالي "النازل" الذي جعلها تركن إلى الصف الآخر المهادن للحاكم حتى لا نقول شيئا آخر؟ 2- سؤال الاحتواء على قاعدة ضمان السلم الاجتماعي؛ إذ ألا تأتي هذه الإضرابات فقط عقب سيادة أجواء عامة من السخط والبرم اللذين يصيبان الطبقات المسحوقة بفعل ما يمارس من سياسات التفقير والتجهيل والسطو على مقدرات البلاد والعباد لا تجد معها النقابات أمام ضغط بعض مما تبقى من قواعدها خاصة بعد إبداع أشكال التنسيقيات، إلا أن تتدخل بإجراءات نضالية قد تكون خدمات "تنفيسية" مخافة الانفجار القادم لا محالة؟ 3- سؤال الامتداد الجماهيري؛ إذ هل لدينا فعل نقابي ممتد جماهيريا مسهم في أداء وظائف التأطير والاحتضان ومعانقة الهموم المطلبية المتعددة؟ أم أننا بصدد أداء باهت موسمي مفتقد لقواعد الممارسة الديمقراطية؟ 4- سؤال الجسم النقابي المشتت؛ إذ ما معنى أن تعلن نقابات تاريخا للإضراب ثم تتبعها أخرى لتعلن عن قرار الإضراب وترجئ تاريخه إلى أجل غير مسمى على نحو يميع هذا السلوك النضالي، حتى ليبدو أننا سنخصص لكل نقابة يوما خاصا تتحول معه أيامنا كلها إلى إضرابات بحسب عدد النقابات؟ ألا تتحكم هنا حسابات كل طرف تغدو معه مصلحة الطبقة العاملة مجرد واجهة للمزايدات الفارغة التي لا طحين وراءها؟ إننا عندما نلح على جدوى طرح هذه التساؤلات إنما نريد التأكيد أن الظرف المجتمعي العام الذي تحياه البلاد ما عاد يسمح بإضاعة الأوقات والجهود في اجترار السلوكات نفسها والممارسات ذاتها التي لا تخدم -رغم ما قد يقدم لها من تبريرات- إلا النظام الحاكم الذي يعمل على استغلال تناقضات الجسم المجتمعي الممزق ليؤبد حضوره "الأخطوبوطي" في كل مسارات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مقويا ثروته على أنقاض المستضعفين. الجبهة النقابية وبناء القوة المجتمعية: فعلنا النقابي بالصورة التي يتقدم بها إلينا وعيا وممارسة فعل تحكمه الموسمية والتجزيء والتفتت والتشتت، إذ ما معنى أن تعلن البيانات والتصريحات النقابية عن أهمية العمل المشترك وعن التشبث بالعمل الوحدوي وعن جبهة نقابية واجتماعية موحدة ثم تسقط الشعارات وتتناثر أمام امتحان سهل هو توحيد تاريخ الإضراب؟ في حاجة ماسة نحن إلى أن ينخرط عملنا النقابي في الفاعلية المجتمعية المعبرة عن العمق الاستراتيجي للمستضعفين، وأن يحدد موقفه بوضوح من قبضة الاستبداد التاريخية الجائرة الملتفة على أعناق الأمة، ومن الوضوح الاصطفاف إلى جانب هؤلاء المستضعفين بعيدا عن التبريرات التي لا ينتفع منها إلا الحكام وحفنة الانتهازيين الدائرين في فلكه المقتاتين من فتات موائده. وبعد وضوح الموقف ووضوح الاصطفاف، علينا أن نبني لفعل نقابي ممتد العمق في القاعدة البشرية تأطيرا وتكوينا وتدريبا وحضورا قويا بالعمل الدؤوب والممارسة المستمرة التي تضع المصلحة العامة للمستضعفين وللبلاد فوق أي اعتبار حزبي أو ذاتي أو شخصي. ضمن هذا المعنى، نعرض لما يسميه الأستاذ مبارك الموساوي "أهمية نقل الفعل النضالي من مواقع النضال الجزئي إلى موقع النهوض المجتمعي، وهو ما سيمكن من تجنب السقوط في العمل ضمن استراتيجية الاستبداد. وذلك لأن العمل النقابي الذي يتحرك في مواقع نضالية جزئية هامشية سيؤدي لا محالة إلى التحول عن مواقع النضال الكلي وإلى إهدار لجهود ولطاقات لا تكون في مستوى التضحيات ولا النتائج التي لا تتجاوز مستوى السقف المرسوم لها سياسيا." "ولعل تحقيق ذلك مرتبط بالتأسيس لوعي بالمشروع المجتمعي الذي يؤطر الحركة النقابية، وببناء نظرية سياسية موجهة للممارسة العملية، وبالتقعيد لممارسة نقابية تمكن من إنجاز المهام وتحقيق الأهداف والمطالب" [4] إن هذا يقتضي من وجهة نظر هذا الباحث "الثبات على قاعدة الواجب النقابي والصمود المسؤول في خط النضال المطلبي الاجتماعي، والنضال على قاعدة رفض الاستضعاف لا قاعدة الصراع الطبقي، وصناعة تحالف استراتيجي قطاعي، وامتلاك وعي نقابي مؤطر بوعي سياسي، وقبل ذلك وبعده الوعي بالواجب الدعوي الرسالي ووظيفة الأمة التاريخية" [5] إن التشتت والتفتت -نعيد التأكيد- لن يفيدا إلا الاستبداد وأعوانه، وإن لم الجهود في جبهة نقابية موحدة على قاعدة رفض الظلم المؤذن بالخراب مطلب أساسي مستعجل الآن الآن الآن، على العقلاء أن يلحوا في طرحه ونقله إلى دائرة النقاش المجتمعي الحقيقي قبل أن يداهمنا طوفان الانفجارات الاجتماعية الوشيكة لا قدر الله.