استقلت الحافلة. بينما ألتقط أنفاسي، سقط بصري على بعض المقاعد الشاغرة. حاولت أن آخذ أحدها لكنها لم تكن صالحة للجلوس. لابأس أن أبقى واقفاً لبعض الوقت عسى أن ينزل بعض الركاب أو أحدهم في المحطة القادمة. لم تصدق تنبؤاتي، فقد كانت الحشود حاملة أكياساً المختلفة الأشكال و الأحجام تنتظر الحافلة كما تنتظر الفتاة العانس فارس أحلامها بشغف كبير. تدافع الركاب بكل ما أوتوا من قوة على البابين الخلفي و الأمامي كالبنيان المرصوص. تزيد الحافلة اكتظاظا فيما يزيد القابض و السائق تذمراً و فظاظة. لم يكن لي بد من أقفز على كرسي تقشفي يقيني من تدافع الأكتاف و حرارة الأجساد و لاسيما الناعمة منها. و بينما أنا أحاول أن أجد تناغماً بين عظامي و بين عظام المقعد الثائرة، فاجأني القابض بمحياه العبوس ففاجأته بورقة نقدية من فئة مائة درهم. ناولني تذكرتي بعدما خدشها بقلمه الأحمر و حرر بظهرها كوداً خاصاً يستحيل أن يُزور، مصحوباً بإمضائه و رقم الحافلة. . أومأت له بيدي بعدما لفظه الزحام،على أنه عليه دين لي. سلمته تذكرتي فأشبعني قطعاً نقدية من كل الأجناس، الصفراء و الفضية و المخضرمة. يعدها من يده إلى يدي واحدة تلو الأخرى. غريبة الأمر هذه النقود، كيف تحولت ورقة نقدية ذات وزن الريشة تقلبها الرياح كما تشاء و تمزقها أيادي رضيع كما يريد، إلى قطع معدنية صلبة كقلوبنا أو كالأحجار قادرة على أن تخون صاحبها في أية لحظة، بعدما تحدث ثقب الأزون في جيبه؟ شكرت القابض على حسن الخدمة و دعوت له بالصبر الجميل مع الزبائن الكرام في حضن هذه الحافلة. فجأة شد انتباهي صوت جهوري آت من المقاعد الخلفية. تخيلته نزاعاً مألوفاً في الحافلة أو كما لو أنه نزاعاً يحدث بين تلاميذ كسالى مشاغبين يجلسون في الصفوف الخلفية للقسم. صهل صاحب الصوت مرة أخرى مما أثار فضولي و دفعني دون تردد إلى أن ألتف ورائي و أشرئب برأسي لكي تتضح لي الصورة كاملة و أعرف أكثر كما هو شعار العربية. شاب زنجي تخطى الثلاثين من عمره بأخاديد على كلا خديه و عنقه يساوم من أجل جاكيطة مستعيناً بصوته وأطرافه و إفرازاته . فيما الأخر يرد عليه بصوت خافت بالكاد يُسمع، بأنه لن يتنازل عن خمسة و عشرين درهماً و لو سنتيماً واحداً. استسلم الزنجي لعناد الرجل و حمل أكياسه الحبلى بالخضر الطازجة قاصداً الباب الأمامي. و على حين غرة، أخرج كيس طماطم قرابة كيلوغرامين و رفعه إلى الأعلى ثم أخذ يذيع إعلاناً مدوياً في الحافلة. كيس طماطم بخمسة دراهم. كان هذا العرض أكثر إغراء من التعبئة المضاعفة. آه منك يا طماطم! يا ذات الخدود الحمراء، كم تمنيت لو لم تكن وجهتي إلى الجامعة...شدني المشهد كثيراً. تبادلت النظرات والابتسامات الخافتة بين الركاب الذين سالت لعابهم للعرض المغري و لاسيما النساء. تقدمت امرأة بثبات نحو الشاب من دون منافس، ففازت بالصفقة و كان ذلك من عزم الأمور. تحرك الشاب إلى الخلف بين الزحام بسلاسة كأمير محبوب بين جماهيره. فناول صاحبَه خمسة و عشرين درهماً و حصل بالمقابل على الجاكيطة التي هام في حبها دفعة واحدة. لبسها و راح يتفقدها يميناً و شمالا و من الخلف. بدت فضفاضة بعض الشيء، مما دفعه إلى استفسار السائق عن مدى تناسقها مع جسمه النحيف. ما إن ينطق السائق حتى تعالت أصوات من هنا و هناك تبدي رأيها "جاتك زوينة. بصحة و راحة و الله حتا جات معاك". بادلهم بابتسامة شكر ثم غادر الحافلة مسرعاً بعدما توقفت عند الضوء الأحمر