لم يكن المعتقلون السابقون على خلفية ما يعرف ب"السلفية الجهادية"، وعائلات باقي المعتقلين بالسجون بمن في ذلك النساء بمعزل عن الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب منذ أشهر. هذا الحراك الذي كشف واقعيا بعض المستجدات المسكوت عنها في صفوفهم، من قبيل تراجعهم عن بعض الأفكار التي كانت بالأمس القريب خطا أحمر لا يمكن تجاوزه مثل "الولاء والبراء، ولاية المرأة، سفر المرأة، صوت المرأة، الانضمام إلى الجمعيات، التعامل مع الأجانب.."، فالمتتبع لتحركات مجموعة من المعتقلين السابقين وعوائل معتقلين لايزالون يقبعون داخل أقبية السجون، يلاحظ الكثير من التغييرات سواء على المستوى النظري أو المستوى العملي، في محاولة لتأسيس عهد جديد للمصالحة، إلا أن هذا التغيير يمر في صمت. أولا وقبل الخوض في المراجعات لابد من تحديد الفرق بين التراجعات والمراجعات مادام النقاش الدائر في صفوف المحسوبين أمنيا على تيار "السلفية الجهادية"، سواء داخل السجون أو خارجه يقف عند معنى هاته الكلمة، سيما وأن المعارضين لفكرة "المراجعات"يعتبرون الأمر تراجعا ونكسة ونكوصا، ويحاسبون كل من بادر إلى مراجعة أفكاره علنا، بل يتخدون موقفا عدائيا منه، في حين يرى المؤيدون لفكرة المراجعات أنها عمل محمود في أي وقت ومن أي كان. وأوضح الشيخ أبو حفص محمد عبد الوهاب رفيقي، المعتقل بالسجن المحلي بوركايز بفاس في مبادرته المشهورة "أنصفونا"، أن "المراجعات ضرورة شرعية، وواجب عقلي، وسمو أخلاقي، وبناء إصلاحي، ومشروع نهضوي"، مشيرا إلى أن "البعض قد يقبل المراجعة، ولا يقبل التراجع، فيقولون تراجعات لا مراجعات، ولا أدري ما العلة في هذه الحساسية، ألم يقل الله عز وجل :(إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة)، فالتراجع عن الدين، والخذلان والنكوص عن نصرته، لا يقبله مسلم ولا يرضاه، لكن التراجع عن موقف اتخذ على عجل، أو فكرة ظهر بطلانها، أو تقدير بان غلطه، محمود ومطلوب، بل شجاعة وجرأة، وعزة وفخر، ألم يتحيز سيف الله المسلول بجيش المسلمين يوم مؤتة، فقال الصبيان:أولائك الفرار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:أولائك الكرار،أولائك الكرار، فالتراجع عن الباطل والخطأ والتقدير السيء فضيلة ومنقبة". تغيير لابد منه أكد جلال المودن، معتقل سابق على خلفية ملفات "السلفية الجهادية"والذي كان يعمل كإمام و خطيب جمعة قبل الزج به في السجن، أن التغيير الذي يحدث في صفوف هذا التيار يمر عبر مستويين: المستوى الأول فكري، والثاني نظري. وأوضح المودن ل"التجديد"، على أن "السلفيين يخوضون اليوم في قضايا كبرى على المستوى العملي أو الواقعي لكن الأمور تسير بدون تأصيل علمي. وعن أمثلة الأفكار التي كانت تعتبر بالأمس القريب أمرا محسوما فيها يقول "المودن" إنه وكغيره من "السلفيين" لم يكن ليقبل بولاية المرأة التي كانت في فكرهم لوقت قصير مسألة شائكة، إلا أن الأمر تغير على أرض الواقع اليوم، فعلى رأس تنسيقية الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين نساء، مستدركا:"قد يقول قائل إن الضرورة دفعتهن لذلك، إلا أن أي مبرر لذلك ينتفي فيه التأصيل العلمي، ولو لم يكن ما يحدث تراجعا عن بعض الأفكار لتغير الأمر بعد خروج مجموعة من المعتقلين السابقين من السجون". بل أكثر من هذا، شدد المودن أنه لم يكن ليقبل هو نفسه قبل اعتقاله بحدوث ثلاث قضايا، كانت تعتبر أمرا لا نقاش فيه بالنسبة إليه: (سفر المرأة بدون محرم، رفع صوت المرأة، وولايتها)، مستدركا و"إن كنت لا أخفي تحفظي عليها اليوم، لكن لا أرى في سفر المرأة بدون محرم أي إحراج حين يتوفر ضابطان: الأول الرفقة الصالحة، والثاني الأمن والأمان"، كما لا يرى المتحدث نفسه بترؤس امرأة للتنسيقية في وجود الأكفاء من الرجال أي مشكل، وهي نفس قناعة مجموعة من الأشخاص ممن قضوا سنوات من الظلم داخل السجون وإلا لما سمحوا بنساء تبرمجن للمسيرات والوقفات الاحتجاجية وتكتبن البيانات... وعرج المودن إلى مسألة اللباس كحدث يعتبر نقلة -بحسبه- لدى السلفيين، فبالنسبة للرجال لم يعد يطغى على المحتجين لباسا واحدا -الذي يتمثل اللباس التقليدي-،أماالنساء فقد احتفظت باللباس لكن مع قليل من الإضافات البسيطة التي تساعدهن على التحرك. أما مسألة الولاء والبراء، التي تعد من المعتقدات السلفية والتي تعني مجملا الولاء المطلق لأهل الإيمان، والبراء المطلق من أهل الكفر والعصيان فقد ذابت في خضم الأحداث الأخيرة، ولم يعد لدى من يحمل هذا الفكر التعامل مع أي شخص حتى لو كان ينتمي إلى اليسار، ووحدت المطالب الاجتماعية المشروعة "السلفيين" و"اليساريين"..، بل صارت العوائل وللتعريف بمظلوميتها تتعامل مع الجميع، تطرق كل الأبواب، وتلتمس اللقاءات من كل الجهات الرسمية وكل الجمعيات الحقوقية بمختلف توجهاتها سواء على المستوى الوطني، وحتى الأجنبي. السلفية و02 فبراير شكل وجود معتقلين سابقين على خلفية قانون مكافحة الإرهاب ونساء محسوبات على هذا التيار السلفي جنبا إلى جنب مع كافة فصائل المجتمع في المسيرات والوقفات الاحتجاجية التي تنظمها حركة 20 فبراير، والتنسيق معهم لتتوحد الشعارات تغيير واضح في أفكار "السلفيين"، وبالرغم من تحفظ بعض "السلفيين"من مشاركة "العلمانيين" في أي مجال، إلا أنهم انخرطوا وبدون خلفيات مع الحراك الاجتماعي للمطالبة بإطلاق باقي المعتقلين، وأطلقت شعارات بشكل جماعي حينها تطالب بإغلاق معتقل تمارة وإطلاق سراح المعتقلين السياسين. كما انخرط المعتقلون السابقون ممن كان يؤمن بفكر المرحوم الداعية زكرياء الميلودي فيما يخص موضوع الجمعيات، والتي كانت بالأمس القريب من أهم القضايا التي وقف ضدها الفكر السلفي المغربي في تنسيقيات وجمعيات، وأسسوا لأخرى عبر الفايس بوك، ولم يعد للكثير من المعتقلين من حرج في هذه المسألة، وهو ما يعتبر مراجعة حقيقية عملية لموقفهم من اعتبار العمل الجمعوي نوع من الاعتراف بالنظام، فاليوم انضم فعليا أشخاص خرجوا أخيرا من غياهب السجون إلى جمعيات حقوقية، ومنهم من حاول تأسيس جمعية إلا أن وثيقة حسن السيرة و السلوك التي تحمل بين طياتها كل تلك السنوات التي قضوها بالسجن على خلفية ملف "الإرهاب" حالت دون تمكنهم من ذلك، فاختاروا الانضمام إلى جمعيات كانت مؤسسة من قبل. أسباب التغيير عزا "جلال المودن" أسباب التغيير الملحوظ لدى هذه الشريحة من المجتمع إلى أن الإنسان كلما كان بعيدا عن مواطن الاحتكاك، تكون لديه قناعات بعيدة عن الواقع، وكلما نزل الشخص إلى الساحة، إضطر أن يضيق من مساحته الخاصة لفتح المجال أمام الآخر. وأردف المتحدث نفسه قائلا:"ظروف الاحتكاك بالناس و خاصة الحقوقيين والصحفيين والمناضلين، تدفع بالشخص إلى مد جسور التواصل، كما قد يشترك في هذا التغيير عدة أمور، السجن والحراك الشعبي والزاد المعرفي الذي استقاه المعتقلون داخل السجون. تجتمع أمور كثيرة في التغيير الذي بدا عمليا في صفوف تيار السلفيين، ولو أن بعضهم يرفض الاقتناع بهذا الأمر، ويعتبره تراجعا ونكوصا، إلا أن الآخرين ممن استفاد من سنوات السجن، ومن الحراك الذي تعرفه البلاد، مقتنع تماما على أن ما يحدث ليس إلا مراجعة ذاتية لبعض المفاهيم المغلوطة، ولم تكن هذه الفئة يوما في صراع مع المجتمع. وفي قراءة لما يحدث بالسجون اليوم، فمباركة معتقلي ما يعرف ب"السلفية الجهادية" للحراك المجتمعي ومشاركة ذويهم في مسيرات جمعت اليسار باليمين بالمواطن العادي، وطلبات العفو الكثيرة التي تخرج من هناك في طريقها إلى الديوان الملكي، و الصحف، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومنتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وكذا جمعية النصير لمساندة المعتقلين الإسلاميين ليست إلا رسائل مشفرة للدولة المغربية وللقابضين على هذا الملف بأن هؤلاء مستعدون للحوار والتواصل من أجل الإفراج عنهم بعد سنوات من الاعتقال بدون أدلة ولا إثباتات. وفي هذا الإطار، يؤكد "المودن" بأن المعتقلين داخل السجون هم وقود هذا الحراك، بمعنى أن هؤلاء هم الذين يتحكمون في سيرورة الاحتجاجات، ويؤثرون فيها، ويتأثرون بها بشكل كبير.