في عام 1973 تم توظيف النفط العربي إيجابيًا في الحرب التي شنتها كل من مصر وسورية على إسرائيل لاستعادة الأراضي العربية المحتلة، وبعد هذا التاريخ لم يلمس أحد وجود أية دور لتوظيف الجوانب الاقتصادية العربية في إدارة الصراعات الدولية أو الإقليمية بشكل ملحوظ ومعلن، إلا في الأزمة المصرية الحالية، حيث أعلنت كل من السعودية والإمارات والكويت عن دعمها المادي المباشر للحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد تدخل الجيش والإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسى يوم 3 يوليوز الماضي. والفارق بين الموقفين أن التدخل الأول بعام 1973 كان إيجابيًا حيث عكس توحدًا قوميًا في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي، أما موقف عام 2013 فهو يؤكد تحليلات نشرت من قبل بشأن مخاوف خليجية من امتداد ثورات الربيع العربي إليها، وهو ما يفسر هذا الدعم الخليجي القوي لحكومة مصر الحالية. الدعم المباشر لم يتوقف الأمر عند الإعلان المبكر من قبل بعض دول الخليج بتقديم الدعم المادي للحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد تدخل الجيش، ولكن ظهر دور أكبر للمال الخليجي خلال الأيام القليلة الماضية بهدف التأثير على مقدرات الأمور في مصر، فبعد موقف متشدد من قبل بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وبريطانيا والمانيا، تجاه ما حدث فى مصر عقب عزل الجيش محمد مرسى ، ظهرت بوادر على وجود تغير في موقف تلك الدول تجاه ما حدث خاصة عقب زيارة وزير الخارجية السعودي الأخيرة لفرنسا. وفى الوقت الذى كان فيه البعض يتوقع خروج اجتماع وزراء خارجية الدول الأوروبية يوم 21 غشت بموقف قوى تجاه ما حدث فى مصر بعد 30 يونيو الماضي ووقف مساعدات الاتحاد الأوروبي لمصر، وبخاصة ما يتعلق بصفقات السلاح، خرج الاجتماع ليتحدث عن كون مصر شريكا للاتحاد الأوروبي، وأن وزراء الخارجية يطالبون طرفي الأزمة في مصر بالتوقف عن ممارسة العنف. والجدير بالذكر أن الاستثمارات العربية في أمريكا وأوروبا تقدر بما يزيد عن 2 تريليون دولار، وقد تزايدت أهمية وجود هذه الاستثمارات بعد الأزمة المالية العالمية في أغسطس عام 2008، وما تبعها من أزمة مالية خانقة في أوروبا. وتتميز الأموال الخليجية على وجه التحديد بأنها لا تملك مشروعًا منافسًا للمشروع الأمريكي الغربي، على خلاف الوضع لرؤوس أموال أخرى غير عربية تتواجد في أمريكا والغرب، مثل الصين والدول الصاعدة في آسيا، حيث ينظر للصين والدول الآسيوية على أنها منافس قوى لكل من أمريكا والغرب في إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وكذلك خريطة تشكيل القوى الاقتصادية الدولية. والمال الخليجي لا يزال أسير الاتفاقيات الأمنية بين الدول الخليجية وكل من أمريكا وأوروبا التى تقضى بحفظ أمن الدول الخليجية، من خلال وجود الأسطول الأمريكي في الخليج العربي، أو من خلال القواعد العسكرية في دول الخليج، وهو الواقع الذي أوجدته أزمتي الخليج الثانية والثالثة في عامي 1990 و2003. مظاهر توظيف المال الخليجي الخطوة الأولى تمثلت في الاعتراف السريع من قبل كل من الإمارات والسعودية والكويت بالإجراءات التى قام بها الجيش في مصر عقب مظاهرات 30 يونيو الماضى والتى وصفها أنصار مرسى "بالانقلاب العسكرى"، ثم الإعلان عن حزمة من المساعدات النقدية والنفطية، قدرت بنحو 12 مليار دولار، وهي حزمة مساعدات نوعية، مثلت طوق النجاة في المرحلة الحالية للاقتصاد المصري، فنحو 6 مليار دولار أضيفت لاحتياطي النقد الأجنبي بمصر ليرتفع إلى 18.8 مليار دولار بنهاية يونيو، وأوجدت هذه المساعدات نوعًا من التوازن في سعر صرف الجنيه المصري، ولتوقف انخفاض قيمته أمام العملات الأجنبية الأخرى، كذلك ساعدت المنحة النفطية الخليجية لمصر المقدر قيمتها بنحو 3 مليار دولار في توفير احتياجات البلاد من الوقود في المرحلة الحالية لتغطية استخدامات محطات الكهرباء وكذلك وقود السيارات. ولكن يبقى تساؤل مهم وهو : ماذا بعد نفاذ هذه المساعدات، هل ستستمر الدول الخليجية في دعم الاقتصاد المصري الذي يعاني من مشكلات مزمنة يحتاج علاجها لسنوات؟. التدخل الخليجي لمصر ما بعد 30 يونيو معلن وليس أمرًا يحدث في الخفاء، سواء من خلال البيانات الداعمة لإجراءات الجيش على الصعيد السياسي ، أو من خلال مطالبة دول الخليج وبخاصة السعودية من الدول الغربية بعدم فرض عقوبات على مصر أو منع المساعدات عن القاهرة ، أو تبنى مواقف سياسية تؤدي إلى إضعاف موقف النظام الحاكم في مصر حاليًا، وما نشر بوسائل الإعلام، من أن وزير الخارجية السعودي طلب من فرنسا إعطاء فرصة للحكومة المصرية لتفعيل خارطة الطريق يؤكد ذلك. وحسب ما نشرته وكالة الأنباء السعودية عن وزير الخارجية سعود الفيصل قوله "من يُعلن وقف مساعدته لمصر أو يلوح بوقفها فإن الأمة العربية والإسلامية غنية بأبنائها وإمكاناتها، ولن تتأخر عن تقديم يد العون لمصر".. وتأتي تصريحات الوزير السعودى ردًا على الموقف الذي نشرته وسائل الإعلام عن إمكانية أن يتناول اجتماع وزراء خارجية الدول الأوروبية إعادة النظر في برامج مساعدات تعهد بها الاتحاد الأوروبي لمصر خلال الفترة من 2012 – 2014 وتقدر بنحو 5 مليارات يورو . اللافت للنظر ان المال الخليجي استدعى أكثر من مرة للتوظيف السياسي في مشكلات اقليمية ودولية تخص المنطقة أو قضايا الأمة الإسلامية، ولكنه كان خارج نطاق هذا الدور، وكانت الدول الخليجية تؤثر السلامة، ففي أثناء الاعتداءات المتكررة لإسرائيل على الاراضي الفلسطينية، طالبت القوى السياسية الشعبية العربية بتدخل دول الخليج بالتأثير على الموقف الاوروبي من خلال النفط أو الاستثمارات الخليجية لدى الدول الأوروبية، حتى تتراجع الدول الأوروبية عن دعمها الدائم لإسرائيل، ولكن الدول الخليجية لم تفعل. سيناريوهات استمرار توظيف المال الخليجي نحن أمام مساريين في توظيف المال الخليجي سياسيًا في الأزمة المصرية، الأول ما يتعلق بالداخل المصري، حيث تحرص حكومة مصر المؤقتة برئاسة حازم الببلاوي على توفير احتياجات رجل الشارع اليومية خلال هذه المرحلة، بما يجعله يؤيد الخطوات القمعية تجاه معارضيها المطالبين بعودة " الشرعية "واحترام الحياة الديمقراطية في مصر. وفي هذه الحالة تحتاج مصر إلى استمرار المساعدات النقدية والنفطية لفترة أطول من عام، حيث لوحظ مؤخرا قيام البنك المركزي المصري بضخ أموال للبنوك المصرية وفق آلية الريبو، وهو ما يعني وجود ازمة سيولة بالبنوك المصرية. ونحسب أن إطالة أمد الأزمة المصرية، سوف يكلف الدعم الخليجي المزيد من المساعدات، كما أنه سيعمق من حجم مشكلة الأزمة الاقتصادية في مصر، فمشكلات مثل البطالة والفقر وتداعيات غياب الأمن سوف تزيد من الضغوط على حكومة المرحلة الانتقالية في مصر. المسار الثاني للتوظيف السياسي الخليجي في الأزمة المصرية، هو ممارسة ضغوط على الحكومات الغربية لتغيير موقفها تجاه الأزمة المصرية، والمتمثل في التركيز على عودة الديمقراطية وإدانة ممارسة الجيش والشرطة في مصر للعنف ضد المتظاهرين السلميين. وهنا نحن أمام معضلة، فالسياسة لا تعرف إلا لغة المصالح، حيث تحتاج أوروبا لأموال ونفط الدول الخليجية المؤيدة لخطوات الجيش المصرى التى قام بها بعد 30 يونيو ، وفي نفس الوقت فان الدول الأوروبية أمام تحدي الاستحقاقات الديمقراطية والقانونية أمام شعوبها، ومن الصعوبة أن تغير موقفها بصورة كاملة. فقد تلجأ الدول الأوروبية إلى تبني موقف لا يتسم مع أو ضد أحد طرفي الأزمة في مصر، في ظل ترك مساحة كبيرة لإبراز دور مؤسسات المجتمع المدني الأوروبي والأمريكي للعب دور الإدانة للجيش والحكومة المصرية. وثمة تساؤل يطرح نفسه بخصوص مدى قدرة دول الخليج على ممارسة ضغوط حقيقية على أمريكا وأوروبا بشأن سحب استثماراتها أو منع تصدير النفط. الحقيقة أن القضية معقدة وليس من السهل أن نصل فيها لإجابة قاطعة، لكن كلا الطرفان سوف يسعي لعدم الصدام. فالعلاقة بين أوروبا ودول الخليج تاريخية منذ أيام احتلال أوروبا لمعظم هذه الدول ، وهناك علاقات اقتصادية وتجارية كبيرة، كما أن البديل لدول الخليج لتوظيف استثماراتها أو تصدير نفطها غير متاح بشكل كبير. بقى أن نشير إلى أن الدعم الخليجي والتوظيف السياسي لماله في الأزمة المصرية، لقى اعتراضات من الداخل الخليجي نفسه تمثلت في اعتراضات برلمانيين بمجلس الامة الكويتى على هذا الدعم السخي من قبل الحكومة الكويتية لمصر والمقدر بنحو 4 مليارات دولار في الوقت الذي توجد فيه مشكلات داخلية بحاجة لمثل هذه الأموال. كما ينبغي أن نأخذ في الحسبان التداعيات الممكنة لبيان علماء السعودية الصادر يوم 5 غشت الماضي الذى أكد إن ما وقع في مصر من عزل الرئيس المنتخب هو انقلاب مكتمل الأركان وأنه عمل محرّم مجرّم، نرفضه باعتباره خروجاً صريحاً على حاكم شرعي منتخب، وتجاوزاً واضحاً لإرادة الشعب.