رغم أنها ليست المرة الأولى التي تخيم فيها رائحة الموت والدم بين جنبات ميدان رابعة العدوية، إلا أنها كانت هذه المرة تسري بشكل أكبر، حيث لا خيمة من خيام الاعتصام أو ركن من أركانه إلا ويحكي قصة جريح أو قتيل سقط فجر أمس السبت. الميدان الذي أتم شهرا في احتضانه اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي غلفته حالة من السكينة وهدوء حيث يتجنب الكثير من المعتصمين فيه الكلام والدخول في نقاش إلا حول ما أطلقوا عليه "مذبحة النصب التذكاري" ، أو الانشغال بالأذكار والدعاء وقراءة الأوراد في حالة إيمانية عالية مرتبطة برائحة الموت المسيطرة على الأجواء.. فظهرت بقوة في جنباته حالة من الاستغفار والدعاء. خيام المعتصمين تنوعت نشاطاتها بين جلسات تحكي قصة صمود من سقطوا جرحى أو قتلى في مواجهات فجر السبت، والمواقف الصعبة التي تعرض لها البعض وهم ينقلون القتلى والجرحى "وكيف واجه المعتصمون تلك الأجواء بصدور عارية ونفوس قوية". ومن يتجول في جنبات ظرقات ساحة ميدان رابعة وبين خيامه لابد أن يلفت انتباهه تعابير القلق والخوف التي ترتسم على وجوه العشرات وهم لا زالوا يطرقون حتى صباح الأحد باب كل خيمة للسؤال عن مفقوديهم ممن لم يظهروا بعد أحداث الفجر. بينما لا يزال العشرات يتزاحمون على قائمة كتب عليها أسماء القتلى والجرحى عند مدخل المستشفى الميداني، لتسمع أنات مصحوبة بالدعاء بالمغفرة والرحمة أو تكبير أو بكاء وصراخ من وجد اسم أحد معارفه بين تلك الأسماء. ولا تكاد تنقطع الاتصالات بين المعتصمين وذويهم من بعد الحادث للاطمئنان المتبادل أو متابعة أخبار الجرحى، فيما يتملك القلق ذوو بعض الجرحى ممن يعالجون في مستشفيات قريبة علموا أن عددا من المجهولين يترصدونهم ويحاصرون تلك المستشفيات. المستشفى الميداني وخلال ساعات يوم السبت وصباح الأحد استقبل الكثير من التبرعات المالية والعينية من أهالي من خارج الاعتصام أكد بعضهم أن دافعه الرئيس من تلك المشاركة هو دافع إنساني فقد يختلف مع المعتصمين في أهدافهم وما يريدونه وهو مالم ينقطع طوال ساعات النهار إلى الحد الذي أعلن فيه المستشفى اكتفاءه من عدد من الأدوية والمستلزمات الطبية. الميدان شهد جولات تفقدية وتعبوية من دعاة وعلماء أزهريون لخيام المعتصمين تهدف إلى مواساتهم وإلقاء ما يبث الأمل والثبات والصمود وحديث عن فضل الشهادة وضريبة دحر الباطل والظالم. المعتصمون استحضروا روح "موقعة الجمل" التي جرت في إحدى ليال ثورة 25 من يناير/2011، حين تعرض الثوار في ميدان التحرير بالقاهرة لاعتداءات من قوى محسوبة على نظام حسني مبارك في ذلك الوقت، حيث اعتبروا ما حدث شبيه بها، بل رآه بعضهم أشد ضراوة وأثرا متوقعين نتيجة أقوى لتلك الأحداث. خيام تحولت إلى ما يشبه سرادقات العزاء بعد أن فقدت قتيلا أو أكثر حينما يعلم المعتصمون بذلك فيسارعون بتقديم العزاء لأهل تلك الخيام ومواساة أقرانه وأهل بلده. وتجاوز أثر مصاب المعتصمين إلى ساعة الإفطار مساء السبت حيث شغلت الحالة النفسية والإلحاح في الدعاء "على المعتدي والظالم" أغلب المعتصمين عن تناول وجبات إفطارهم لتعود أغلب تلك الوجبات كما جاءت دون أن يؤكل منها شيء. أطفال الميدان تفاعلوا أيضا مع الحدث الجلل، حيث أجبرتهم تلك الأجواء على تأجيل حالة البهجة والفرح المعتادة بين جنبات الميدان لتتحول إلى مشاركة الآباء والأمهات في البكاء والدعاء والهتاف الحار. ورغم سيطرة حالة الحزن الكبيرة على مختلف تفاصيل أجواء الميدان إلا أن ذلك لم يمنع المعتصمين من التأكيد الدائم على صمودهم واستمرارهم في الاعتصام حتى تحقق هدفهم المنشود بعودة الشرعية وإنهاء الانقلاب على حد وصفهم. "ميدان النهضة" الذي شارك ميدان "رابعة العدوية" حالة السكون والحزن ختم يومه ليل السبت الأحد بالصلاة على جنازة أحد ضحايا أحداث "النصب التذكاري" وهو سالم عبد الرحمن من منطق روض الفرج بالقاهرة، والبالع من العمر 37 عاما، وكان يعمل محفظا لكتاب الله في المسجد النبوي، بحسب أهله.. بينما شهد المستشفى الميداني بالميدان استقبال تبرعات عينية خلال اليوم من جانب المعتصمين وغيرهم للمساهمة في تجهيز وتطوير المستشفى تحسبا لهجوم متوقع من قبل المعتصمين شبيها بما حدث على أطراف ميدان رابعة العدوية. وشهدت المستشفى توسعات كبيرة حيث تم إنشاء مبنى خشبي به 5 أسرة وتجهيزه بالأجهزة والمستلزمات في خلال 24 ساعة بعد توارد أنباء عن فض الاعتصام من قبل الداخلية والجيش خلال الساعات القادمة كما تم تجهيز مكانين للحالات الخطرة تستوعب من 8 إلى 10 أسرة في ظل وجود طاقم طبي يصل إلى 50 فرد ما بين أطباء وتمريض وإسعاف. الاستعداد تجاوز المساحة الطبية إلى الاستعدادات التأمينية حيث تم مضاعفة متاريس المداخل ليصبح أمام كل مدخل أكثر من متراس وأكوام من الرمال لصد الهجمات كما تم زيادة أعداد أفراد التأمين على المداخل. ويخيم على الميدان أجواء من الحذر والحيطة من احتمالات الهجوم فيما لم يمنع ذلك إعلان المعتصمين من خلال هتافاتهم وكلماتهم على الإصرار على استكمال المشوار حتى نهايته.