أكثر ما أتمناه في الوقت الراهن ألا يكون سكوت الرئيس محمد مرسي تعبيرا عن الرضا عن الوضع في مصر، لأنه لو رأى ما نراه لتلبسه قلق عميق طير النوم من عينيه. (1) في الأسبوع الماضي بكى أحد العمال المصريين أثناء حديثه عن أحوال بلده، حين صادف بعضا من زملائنا الإعلاميين الذين قصدوا مطعما شهيرا هناك لتناول وجبة العشاء. عاتبهم لأنه اعتبر أن الصورة التي يقدمها الإعلام المصري للبلد مهينة لمصر والمصريين، قال إنه شخصيا صار يعاني من تلك المهانة كل يوم جراء ما يسمعه من تعليقات لاذعة وجارحة من جانب الذين يتابعون القنوات التلفزيونية المصرية، الأمر الذي يثير حزن المصريين وسخرية آخرين من الوافدين. انفعل صاحبنا أثناء الحديث ولم يتمالك نفسه فانخرط في البكاء. لا يحتاج المرء لأن يذهب إلى الدوحة لكي يدرك حقيقة الحزن الذي بات يستشعره المصريون، صحيح أن مشاهدة القنوات التلفزيونية الخاصة فضلا عن صحف المعارضة تشيع كل يوم قدرا لا يستهان به من الغم والإحباط والاكتئاب، إلا أن ما تقدمه يظل له أصله الذي يتم اصطياده وتوظيفه على النحو الذي يحقق تلك النتيجة. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن مشاعر الحيرة والحزن وعدم الرضا أصبحت تخيم على مختلف شرائح المجتمع. وإلى عهد قريب كان السؤال الذي يردده المصريون هو: إلى أين نحن ذاهبون؟ لكن الأمر اختلف هذه الأيام بحيث بات السؤال هو: متى يتوقف تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية بوجه أخص؟ وإذا كان لنا أن نتصارح أكثر، فلا مفر من الاعتراف بأنه بعد مضي سنتين على الثورة تراجعت مؤشرات الأمل، وبدا الأفق أكثر انسدادا، والمستقبل أقل إشراقا. وتلك خلاصة إذا صحت ينبغي ألا نستسلم لها وأن نقاومها بكل السبل، ليس إنقاذا للثورة المصرية فحسب، ولكن دفاعا عن الحلم العربي الذي لاح في الأفق حين انطلقت ثورات الشعوب معلنة رفضها للاستبداد والظلم الاجتماعي وإصرارها على استرداد أوطانها من غاصبيها. (2) إذا حاولنا أن نبحث عن مخرج من الأزمة، فربما كان مفيدا أن نبدأ بتحديد الأطراف التي تتحرك على الساحة المصرية في الوقت الراهن، وهي ثلاثة على الأقل هي: الرئيس محمد مرسي وفريقه ومؤيدوه الثاني يتمثل في معارضيه الثالث يجمع بين معارضي الاثنين السابقين، بمعنى أنهم يعارضون الثورة ذاتها ويقودون الثورة المضادة. وسوف أؤجل الحديث عن الرئيس في ترتيب التناول لأنه المسؤول الأول الذي يفترض أن يكون القرار بيده، وبالتالي فإن الحل المفترض ينبغي أن يبدأ من عنده. أبرز ما يميز المعارضة في مصر أمران، أولهما لم تلتق إلا على هدف واحد، هو رفض الرئيس مرسي وبخاصة حركة الإخوان، وثانيهما أنها معارضة انقلابية بالأساس. بمعنى أنها لا تسعى إلى تصويب أخطاء الرئيس أو التوافق معه على حلول وسط، ولكنها من البداية عمدت إلى محاولة الضغط عليه لإفشاله ومن ثم إسقاطه. فهي تشكك في نزاهة انتخابه، وتطعن في شرعية كل خطوة يقوم بها لإقامة مؤسسات النظام الجديد. وتنسحب من لجنة الدستور بعد إقرار مواده. وتقاطع الحوار كما تقاطع الانتخابات، وتنادي صراحة بتولي الجيش للسلطة. في ذات الوقت فإنها لا تكف عن توجيه رسائل الاحتجاج والضغط من خلال استثمار مظاهرات الشارع بالتحريض عليها وتوفير الغطاء السياسي لها، رغم أن المتظاهرين في الشارع أو المعتصمين في الميدان لا يشكلون قواعد لرموز المعارضة، ولكن كلا منهما يستفيد من الآخر ويوظفه لصالحه. إلى جانب المعارضة السياسية فهناك الإعلام المتربص والمتصيد الذي يتولى من خلال منابره المقروءة والمرئية، ليس فقط الترويج والتهويل والتعبئة المضادة، ولكن أيضا تجريح صورة الرئيس والتطاول عليه والحط من كرامته. في الجانب ذاته نجد القضاء المسيس الذي كانت بعض مؤسساته ضمن أدوات النظام السابق. وقد تجلى ذلك في ممارسات عدة، منها بعض أحكام المحكمة الدستورية العليا، ومظاهرة وكلاء النيابة التي حاولت إجبار النائب العام على الاستقالة، كما لاحظناه في مواقف بعض القيادات التي أعلنت عن تحديها للسلطة، ولاحظناه أيضا في تبرئة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، وفي إطلاق سراح المتهمين بممارسة العنف في المظاهرات. هل نضع بعض عناصر وأجهزة الأمن والداخلية بوجه أخص ضمن معارضي الرئيس مرسي؟ هناك عدة قرائن دالة على أن تلك العناصر لا تقف في صفه على الأقل، وفي هذا الصدد لا يستطيع أي باحث أن يتوقع غير ذلك من جانب أجهزة عاشت لأكثر من ثلاثين عاما في ظل الطوارئ وفوق القانون، وكان الإخوان الذين ينتمي إليهم الرئيس مرسي هم «العدو الإستراتيجي» لها. وهي التي تولت ملاحقتهم وتعذيبهم وتلفيق التهم لهم. وحين تكون تلك خلفيتهم فمن الصعب أن نتوقع منها أن تقدم ولاءها لرئيس من الإخوان خلال سنتين. وبهذه المناسبة فإنني سألت أحد المسؤولين عن مشكلة القصور الأمني وقلت له: هل الأجهزة الأمنية غير قادرة أم أنها منهكة أم غير متعاونة؟، فكان رده أن الأسباب الثلاثة واردة. بهذه المناسبة فإنني أنبه إلى أن تكتيكات وخطط إسقاط الأنظمة صارت معروفة، ولها دراسات توثقها وتحدد خطواتها، وقد تمت تجربتها وحققت أهدافها في العديد من دول أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي. من هذه التكتيكات نشر الفوضى في البلاد وإغراقها في الشائعات بما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وتعجيز الدولة عن القيام بمهمة الدفاع عن أراضيها، ثم إنهاكها اقتصاديا بما يرفع من معدلات الغلاء والبطالة، الأمر الذي ينتهي بإفشال الدولة ثم إسقاطها. (3) معارضو الثورة، وليس الرئيس مرسي وحده، موجودون في الداخل والخارج. وكنت في وقت سابق قد ذكرت أن الدولة العميقة لم تتشكل بعد في مصر ولكنها تحت التشكيل وأركانها موجودون بالفعل. وهم بقايا النظام القديم الذين أضيرت مصالحهم السياسية والاقتصادية. والأخيرون هم الذين يتولون التمويل للعديد من أنشطة تحدي السلطة والمشاغبة عليهم. وإذا استحضرنا نموذج الدولة العميقة الراسخة في تركيا فسوف ننتبه إلى أن أصابع تلك الدولة موجودة داخل الجهاز البيروقراطي ذاته، والأجهزة الأمنية بوجه أخص. إلى جانب هؤلاء فإننا لا نستطيع أن نتجاهل دور الدول الأجنبية التي أضيرت مصالحها جراء قيام الثورة. في هذا السياق أستأذن في تكرار ما سبق أن قلته من أن الأمريكيين والإسرائيليين الذين ظلوا يرتعون في مصر طوال ثلاثين عاما على الأقل، لا يعقل أن يكونوا قد تركوها واستقالوا من دورهم بعد الثورة. وكوننا لم نستطع أن نضع أيدينا على شيء من ممارستهم، فذلك لا ينبغي أن يعني أنهم غير موجودين. الجديد في المشهد أن بعض الدول العربية أزعجها قيام الثورة خشية انتقال عدواها إليها. البعض الآخر أقلقها فوز التيارات الإسلامية في الانتخابات التي جرت بعد ذلك. ومعلوماتي أن مسؤولا عربيا كبيرا عاتب اللواء عمر سليمان على ذلك في إحدى المناسبات، وحين رد عليه قائلا إنه لم يكن مسؤولا عما جرى وإن المشير طنطاوي كان يرأس المجلس العسكري آنذاك، فإن المسؤول العربي أبلغه بأمرين: الأول أن بلده يعتبره هو والمشير طنطاوي مسؤولين عن وصول الإخوان إلى السلطة. والثاني أن مصر لن تتلقى أي دعم من جانبهم مادام الإخوان في الحكم. وهذا ما حدث. (4) في كل الأحوال تظل مسؤولية الرئيس محمد مرسي أكبر من أي طرف آخر. وقد أظهرت خبرة الأشهر التسعة التي أمضاها في السلطة عدة ثغرات في أدائه أبرزها ما يلي: عدم القدرة على التواصل مع المجتمع وعدم الاكتراث بإقناع الناس برؤيته أو خلفية قراراته. البطء الشديد في التعامل مع الأزمات. ضعف الطاقم الرئاسي المعاون له، الأمر الذي أدى إلى ابتعاد عدد غير قليل من معاونيه، كما ترتب عليه حدوث ارتباكات عدة في قراراته. إشاعة مناخ عدم الثقة بينه وبين الطبقة السياسية، التي تلقت منه وعودا لم ينفذها ولم يعن بتفسير ذلك لهم. الإخفاق في إقامة التحالفات السياسية مع قوى وتيارات إما كانت حليفة له (السلفيون مثلا) أو صديقة له (حزبا مصر القوية وغد الثورة مثلا) ذلك بخلاف دائرة المستقلين الذين لم يكونوا ضده وكانوا على استعداد للتعاون معه، لكنهم انفضوا من حوله. أيا كانت تحفظاتنا على أداء الآخرين، أو على أدوار العناصر الداخلية والخارجية المتربصة به أو المعادية للثورة، فإن الرئيس محمد مرسي يظل هو المطالب الأول بتقديم مبادرات الخروج من الأزمة وإزالة الاحتقان القائم. في هذا الصدد أزعم أن المبادرات ينبغي أن تمضي في اتجاهين متوازيين، الأول يتمثل في استعادة ثقة النخبة والقوى الوطنية في مصر. الثاني يعيد للمجتمع تفاؤله واطمئنانه إلى المستقبل، بما يخرجه من أجواء الإحباط الراهنة وهو ما يمكن أن يتحقق على النحو التالي: استعادة ثقة النخبة تتم بالتعبير عن احترامها من ناحية، وباستدعائها للتشاور معها بشأن حل الأزمة من ناحية ثانية. وهو ما يقتضي التجاوب مع الملاحظات التي أجريت على قانون الانتخابات والنظر في المواد المختلف عليها في الدستور. وهذا التجاوب يتعين أن يأخذ شكلا عمليا يتمثل في إشراك ممثل للمعارضة في خطوات التعامل مع الملفات العالقة. بالتوازي مع ذلك، فإن الفصل بات ضروريا بين حزب الحرية والعدالة بالدور السياسي الذي يقوم به، وبين جماعة الإخوان المسلمين التي باتت بعد الإشهار جمعية دعوية لا شأن لها بالعملية السياسية. صحيح أن ذلك من شأنه أن يضعف الحزب في الظروف الراهنة وقد يؤدي إلى خسارته، إلا أنه لا مفر من ذلك لكي يخوض الحزب تجربته بغير رافعة أو حاضنة أو شبهة وصاية. فيما خص ثقة المجتمع فإن إعادة تشكيل الحكومة الحالية تعد ضرورة لا غنى عنها، وسوف تتعزز تلك الثقة لو تولت رئاستها شخصية مستقلة لها وزن أثقل في المجتمع، وضمت أعدادا من الخبراء (التكنوقراط) وإذا كان لا بد من تمثيل الإخوان فيها فليكن ذلك بعيدا عن الوزارات ذات الصلة بالانتخابات القادمة. في الوقت ذاته فإنه من الضروري إقناع الرأي العام بجدية خطوات الإصلاح التي تتخذ وبوضوح خطوات التحرك في مجالات الإصلاح الاقتصادي والعدالة الانتقالية وهيكلة الشرطة، من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمرات للخبراء والمتخصصين المصريين في كل واحد من تلك المجالات. بطبيعة الحال فليس ذلك آخر كلام في الموضوع، ولكنها مجرد عناوين أهم ما فيها أنها تمثل اجتهادا في محاولة الخروج من المأزق، وتجاوز حالة السكون المخيم على دائرة القرار في حين يمتلئ الشارع بالصخب والغليان ويتقلب الناس بين الإحباط والحزن إننا نريد لكل مواطن أن يعتز بثورته لا أن يبكي حزنا على ما آلت إليه