في ظل المشكلات المالية و الاقتصادية التي تعصف بأوروبا, و هشاشة الميزانيات الحكومية و المظالم السياسية التي ظلت كامنة لعقود, إن لم تكن لقرون, تجد القارة العجوز نفسها في مواجهة أزمة جديدة و أكثر خطورة تهدد وحدة بلدانها, حيث تشهد أوربا نهوضا لنزعة انفصالية و إقليميه تمتحن مرونة دول أوربية عتيدة و مدى قدرتها على التكيف مع هذا التحدي الجديد, فقد تطورت الاضطرابات الاجتماعية العميقة إلى حد المطالبة باستقلال بعض الاقاليم داخل الدولة الواحدة بعد أن ضاق ذرع الأوربيين بإجراءات التقشف الصارمة و ارتفاع معدلات البطالة إلى درجة غير مسبوقة و شعورهم المتزايد بالاختناق من القرارات المالية التي باءت جميعها بالفشل. و بدأت الحركات الانفصالية بأوربا تكتسب زخما متزايدا بدءا من إقليم كاتالونيا الإسباني و مرورا ببلجيكا, اسكتلندا و انتهاءا بالمملكة المتحدة و ذلك على وقع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب أوربا بصفة عامة و توالي إجراءات التقشف التي فرضتها الحكومات المركزية الأوربية بناءا على تعليمات الترويكا و التي تتكون من الاتحاد الأوربي, المصرف المركزي الأوربي, صندوق النقد الدولي, تنفيذا لأوامر المصارف و المضاربين العالميين. تصاعد المد الانفصالي بأوربا يمثل صعود نجم الحركات الانفصالية في أوربا جزءا من مشهد تتراجع فيه الأحزاب السياسية التقليدية أمام مد قوي أكثر حداثة و نذكر من هذه القوى, حركة الخضر صاحبة الدعوة للحفاظ على البيئة, و المشككون في الوحدة الأوربية من أقصى اليمين, الجماعات المناهضة للهجرة إلى أوربا, بالإضافة إلى أصحاب النزعات الانفصالية الذين اكتسبوا خبرات في المجالس النيابية المحلية و أجهزة الحكم المحلي, و كانت نتائج اللامركزية في العديد من الدول الأوربية منذ سبعينات و ثمانينات القرن العشرين, أبعد ما تكون عن تحصين الدول من احتمالات الانفصال, بل إنها عملت على ترسيخ الانفصاليين في المشهد السياسي. ففي الوقت الذي تتنازل فيه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي عن المزيد من صلاحياتها فيما يتعلق بالميزانيات و السياسة الاقتصادية لصالح الاتحاد, تتعالى أصوات الشكوى و تشتد حدة الصراعات على مستوى أقاليم هذه الدول و خاصة الأكثر ثراء منها, حيث يشتكي المواطنون فيها من دفع أموال لأقاليم أفقر. و يشير الواقع إلى أن الاقليات القومية و الأحزاب الإقليمية موجودة بكثرة في جميع أنحاء القارة, و تستلهم هذه الحركات الطموح من معرفتها بأن الخريطة الجيوسياسية الأوربية ظلت على مدى السنوات المائة الماضية غير مستقرة, و تشمل الإضافات الأخيرة إلى قائمة الدول, مونتينغرو (الجبل الأسود) التي فقدت استقلالها عام 1918, و استعادته عام 2006, و كوسوفو, التي أعلنت الاستقلال عام 2008, مع أن خمسا من دول الاتحاد الأوربي السبع و العشرين امتنعت عن الاعتراف بها, و تشكل هذه الوضعية حافزا للعديد من الحركات الانفصالية على مواصلة الطريق و السير قدما في مسلسل المطالبة بالاستقلال عن دولها, و هكذا نجد الاسكتلنديون يعتزمون تنظيم استفتاء شعبي أواخر سنة 2014 و ذلك لإقرار قانون الاتحاد مع انجلترا لعام 1707 أو رفضه, و يريد الكاتلانيون إجراء اقتراع مماثل العام المقبل على الرغم من تحذيرات الحكومة و البرلمان الإسبانيين من أن ذلك غير قانوني و غير دستوري, و تبدو بلجيكا, التي تتمتع أقاليمها بأكبر قدر من الاستقلال عن الحكومة المركزية, سائرة على درب سوف يفضي بها إلى مزيد من انفصال غالبيتها الناطقة بالهولندية عن الفئة الناطقة بالفرنسية, و تمثل هذه الحركات الانفصالية بالنسبة للاتحاد الأوربي تحديا كبيرا, فمعاهدات الكتلة الأوربية تتضمن شروطا تسمح لأي دولة بالانضمام أو الانسلاخ, و لكنها تسكت عما إذا كانت المنطقة التي تنفصل عن الدولة الأم تملك حقا تلقائيا في الحصول على العضوية, و المرجح أنه لا يوجد مثل هذا الحق, و لكنه سيكون من الصعب إبقاء دولة ديمقراطية مستقلة حديثا خارج الاتحاد فترة طويلة. و للحد من تنامي هذه الظاهرة التي أصبحت تنمو يوما بعد يوم, و خاصة على خلفية الأزمة الاقتصادية بأوربا, تحاول العديد من الحكومات الأوربية لعب ورقة التخويف من الانفصال عن اوربا في محاولة منها لإقناع الناخبين بعدم اختيار الاستقلال. كاتالونيا و إسبانيا و العلاقة الصعبة تكتسي العلاقة بين إقليم كاتالونيا و الحكومة المركزية الإسبانية طابع الخلاف و التوتر الدائم و ذلك على خلفية أحداث تاريخية و معطيات ثقافية, لغوية و حضارية رسمت مسارا صعبا للتفاهم بين الطرفين, حيث تتقاطع مساراتهما حول العديد من القضايا الشائكة, و تمتع إقليم كاتالونيا بالحكم الذاتي من العام 1932 و حتى العام 1939 و هو تاريخ نهاية الحرب الأهلية الإسبانية, و عرفت المنطقة خلال فترة حكم الجنرال فرانكو إعدام الآلاف من الكاتلانيين و منهم رموز و قادة سياسيين كانوا يدافعون عن استقلال إقليم كاتالونيا, كما قام الجنرال فرانكو بمنع تعليم اللغة الكاتلانية في المدارس, و بعد وفاة الجنرال فرانكو في سبعينات القرن الماضي, استعاد إقليم كاتالونيا الحكم الذاتي, و عرف الإقليم بعد ذلك محطات تاريخية هامة ساهمت في تعميق الهوة بينه و بين الحكومة المركزية, و من بين هذه المحطات البارزة نذكر تصويت %88 من مواطني كاتالونيا على إقرار نظام أساسي و خاص بالإقليم سنة 1979, تلتها محطات 2003 و 2006 حيث صادق البرلمان المحلي على نظام أساسي جديد يقر بسيادة الإقليم و هو ما خلق مزيدا من التوتر و الصراع بين الطرفين. و قد أسفرت الحلول السياسية المرتجلة في إسبانيا عن درجة متفاوتة من الحكم الذاتي في مناطق مختلفة مما أدى إلى تسوية ذات طبيعة غير متوازنة و مثيرة للنزاع, و كان من نتائج هذا الوضع بالإضافة إلى تداعيات الأزمة الاقتصادية بإسبانيا, تقوية و تعزيز العاطفة الانفصالية الموالية للاستقلال عن إسبانيا, حيث نجح بعض زعماء الأحزاب الانفصالية بكاتالونيا في تسويق رسالتهم بشكل أكثر براعة و حذقا, و في هذا الصدد, يرى العديد من الخبراء أن زعماء أحزاب الحركات الانفصالية يحاولون استغلال ظروف الأزمة الاقتصادية و تداعيات برامج التقشف, و تفاقم البطالة بالإضافة إلى تزايد الاستياء من الأحزاب التقليدية لتحقيق مآربهم السياسية, و لاسيما و أن أقاليمهم تعتبر الأقوى اقتصاديا, إذ أن كاتالونيا مثلا تساهم ب %20 من إجمالي الناتج المحلي في إسبانيا. و انتقلت المطالبة بالانفصال و استقلال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا من ساحات المظاهرات إلى البرلمان المحلي للإقليم الذي وافق على إجراء استفتاء بشأن الاستقلال واضعا الحكومة المركزية بمدريد في مأزق جديد, و أثارت الأزمة الاقتصادية شرارة الاستياء في كاتالونيا ضد سيطرة الحكومة المركزية بحيث يتهم الكاتلانيون حكومة مدريد بأنها المسؤولة عن أزمتهم و ذلك على خلفية رفض رئيس الوزراء الإسباني, ماريانو راخوي, طلب رئيس الحكومة المحلية بكاتالونيا, أرثور ماس, توقيع اتفاق ضريبي جديد يضمن للإقليم حق التصرف بعائدات الضرائب لمواجهة أزمة ديونه كما هو الشأن عليه في إقليم الباسك, و ذهب رئيس الوزراء الإسباني أبعد من ذلك, حين حذر من أن أي إقليم يختار الاستقلال سيجد نفسه خارج الاتحاد الأوربي, لأن انضمام دول جديدة لعضوية الاتحاد يتطلب موافقة بالإجماع, و بالتالي استحالة قبول إسبانيا عضوية كاتالونيا في حال انفصالها عن إسبانيا. و ترتكز مطالب إقليم كاتالونيا في الانفصال على اعتبارات عديدة منها الاقتصادية, من قبيل التحكم و التصرف في إيرادات الضرائب, السياسية التي ترتكز على تفسيرات ديمقراطية تجعل للمواطن حرية اختيار الدولة التي يريد الانتماء إليها, و منها الوطنية التي تسلّم بوجود "أمة" كاتلانية تحتاج من أجل الحفاظ على ملامح هويتها التاريخية و الثقافية إلى مؤسسات خاصة و مستقلة, كما يعتمد مناصرو فكرة الاستقلال على اعتبار أن كاتالونيا تعد أقوى من أكثر من اثنى عشر بلدا من بلدان الاتحاد, فمساحة الإقليم تقارن بمساحة كيانات محورية داخل الاتحاد مثل بلجيكا و هولندا, و عدد سكانها البالغ 7,5 مليون نسمة, أي أكثر من عدد سكان 12 بلدا من بلدان الاتحاد الأوربي, كما أن معدل دخلها الفردي يحتل المرتبة السابعة إذا تمت مقارنته ببقية بلدان الاتحاد. و في مقابل الآراء التي ترى في استقلال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا مزايا عديدة, يرى البعض الآخر أن فكرة الاستقلال ستجر الويلات على المنطقة, حيث يرسمون صورة قاتمة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال الانفصال, حيث يتوقعون انهيار الناتج الداخلي الخام بالمنطقة بنسبة %23 إلى %50, هجرة العديد من الشركات الكبرى, زيادة العجز الداخلي, الخروج من منطقة اليورو و حرمان الإقليم من المساعدات الأوربية لتكون النتيجة الحتمية انهيار الاقتصاد. المهاجرون المغاربة و انفصال كاتالونيا يعتبر المغاربة أول جالية أجنبية تقيم بشكل شرعي بمنطقة كاتالونيا, حيث يمثلون أزيد من 20 في المائة من مجموع الأجانب المقيمين بهذه المنطقة, و بلغة الأرقام يوجد بكاتالونيا قرابة 275 ألف مغربي من أصل 850 ألف في مجموع التراب الإسباني, و يتمتع أكثر من %20 منهم بالجنسية الإسبانية, و من تم فنسبة المغاربة الذين يحق لهم التصويت بسبب حملهم الجنسية الإسبانية يصل إلى ما بين 36 ألف و 40 ألف مغربي, و هو رقم مهم للغاية يجعل الأحزاب الكاتلانية تراهن عليه و بقوة, و توجد تجمعات خاصة بالمهاجرين و أغلبهم مغاربة وسط الأحزاب ذات التوجه الاستقلالي و خاصة حزب الوفاق و حزب اليسار الجمهوري و اليسار الموحد و ذلك في إطار ضعف انفتاح الأحزاب السياسية التقليدية الإسبانية على شريحة المهاجرين المغاربة. و قد عبّر العديد من المسؤولين السياسيين في كاتالونيا أنه لا يمكن التأسيس لدولة كاتالونيا بدون مساهمة الكاتلان المغاربة, حيث وعدوا بأن كاتالونيا المستقلة ستقبل بازدواجية الجنسية و ذلك لتهدئة بعض المهاجرين المتخوفين من فقدان الجنسية الإسبانية التي حصلوا عليها, في حين شكك العديد من المهاجرين أن استقلال كاتالونيا لن يمكنهم من العبور إلى الدول الأجنبية المجاورة, و أكد المسؤولون السياسيون الكاتلان أنهم سيسعون إلى إدماج الإسلام في دولة المستقبل و أنها لن تميز بين المواطنين على أساس اللغة كما ستسعى إلى توفير وضع معيشي جيد و أفضل للمهاجرين وعيا منها بأهمية تصويت المهاجرين لصالح مشروع الانفصال و ذلك على خلفية تجربة استفتاء استقلال إقليم الكيبك من كندا, حيث حسم المعركة تصويت المهاجرين المعارض لفكرة الاستقلال, و من أجل تفادي تكرار مثل هذا السيناريو بكاتالونيا, تعمل عدة أحزاب و تجمعات كاتالونية على تنظيم حملات تحسيسية من أجل إقناع المهاجرين من أجل التصويت لصالح الاستقلال و كذا العمل على الرفع من تمثيلية المهاجرين المسلمين بالبرلمان الكاتالوني. و كان آلاف المغاربة قد شاركوا في أضخم تظاهرة عرفتها مدينة برشلونة يوم الحادي عشر من شتنبر من السنة الماضية, و التي شارك فيها حوالي مليوني شخص للمطالبة باستقلال كاتالونيا, حيث خرج حوالي ثلاثة آلاف مغربي و كانت الأعلام المغربية و الأمازيغية حاضرة بقوة, و يعتبر مغاربة كاتالونيا الأكثر اندماجا في العمل السياسي في مجموع إسبانيا, حيث سارعت العديد من فعاليات المجتمع المدني و على رأسها بعض المساجد للترويج و الانخراط في دعم مسلسل استقلال إقليم كاتالونيا فيما امتنعت مساجد أخرى عن الانخراط في هذا المسلسل, و من جهته, أيد الكونغرس الأمازيغي العالمي مطلب استقلال كاتالونيا و ذلك لاعتبارات عديدة منها تضامن سكان كاتالونيا التاريخي مع مطالب الأمازيغ و خاصة منطقة الريف, إشراك الساسة الكاتلانيين لفئة المهاجرين المغاربة في مسلسل تقرير المصير باعتباره أداة للتطوير الديمقراطي, و يمكن تفسير تعاطف العديد من المغاربة مع مطالب إقليم كاتالونيا بنوعية الهجرة المغربية في هذا الإقليم حيث تتشكل في غالبيتها من أبناء الريف المدافعين عن حقوق الأمازيغ, و من العوامل المساعدة على تعزيز هذا التوجه, احتضان الأحزاب الكاتلانية و خاصة الحزب الجمهوري اليساري و حزب الوفاق و التجمع لمطالب الأمازيغ عبر دعم العديد من مشاريعهم الاجتماعية في منطقة الريف, كما أن ظهور جيل ثان من المهاجرين المغاربة في كاتالونيا حصلوا على تكوين كاتلاني محض و ليس إسباني, جعلهم يربطون مصيرهم بالقومية الكاتلانية.