أصبح الاتصال المباشر والتعبير الوجداني بالتقبيل والعناق خطرا للغاية في زمن كورونا؛ فقد تكلف مصافحة عادية ومألوفة مرضا خطيرا، أما عناق حار فبالتأكيد أنه سينقل فيروس الجائحة المتجددة وهو ما قد يضع حدا للحياة. هكذا، تباعد الناس عن بعضهم عبر العالم؛ لكن، هذه المرة، بضمانة الاتصال البصري والسمعي عبر المكسب التكنولوجي الذي بنته الإنسانية على مر عصور وبمساهمة ثقافات العالم أجمعها عبر قرون.
هنا، تكمن مفارقة الثقافة البصرية وحواملها التكنولوجية المعاصرة؛ فهي تشكل اليوم رحمة للأهالي كي يبقوا مع بعضهم البعض، يتبادلون الأخبار والحديث والهواجس والعواطف، ولو فرَّقت بينهم آلاف الكيلومترات، لكن هذا الاتصال البصري، أساسا، له من السلبيات ما يجعل المدمن عليه بغير حساب معرضا للأخبار الزائفة وللشحن الانفعالي، ولتضبيب الرؤية ولزرع التشاؤم في الذهن والعقل وتشويشهما معا.
ليس في عالم الثقافة البصرية اليوم، وبسبب دمقرطة أدوات إنتاجها وترويجها وانتشارها الواسع، غير الإيجابي والإبداعي والصادق والبناء، وما يسترجع الرفيع والسامي والنبيل والمغذي للروح وللعقل فقط؛ بل فيها، وهو الأكثر والغالب والأكثر انتشارا، السطحي والتافه والعرضي والضحل، بل فيها المزيف والتضليلي والكاذب والمشوه للواقع وللحقائق أيضا.
إن الثقافة البصرية، التي أضحت اليوم من الدراسات الإنسانية المهمة في كبريات الجامعات الدولية، لم تكن تهتم بغير الدال على التاريخ الإنساني والمؤرخ له، في الإنتاجات البصرية البشرية، بما يوازي الوثائق المكتوبة على العموم. فقد تبين بعد الدراسات الحفرية لمنقوشات الكهوف وللرسوم وللوحات التشكيلية، التي رافقت المدّ الباروكي، على الخصوص، مع نمو سلطة القصور والكنائس في القرون الوسطى وإبان مطلع قرون التنوير، تبين أنها تحمل في ثناياها حقائق ودلالات وأدلة على أحداث مهمة من تاريخ الإنسان حيث وجدت.
أما اليوم، وابتداء من شيوع ثقافة الصورة المصنعة ميكانيكيا مع بداية القرن العشرين، وتكنولوجيا مع بدايات النصف الثاني لنفس القرن، فقد أصبح المنتوج الثقافي البصري يوجد في كل مكان، كما أنه لا يوجد في أي مكان في نفس الوقت، كما يقول نيكولاس ميرزويف، أحد مؤسسي الدراسات الثقافية البصرية مع نهاية القرن الماضي بأمريكا.
إننا نعيش في عالم مُتخَمٍ بالشّاشات وبالصُّور وبالأشياء التي تُطالبنا، جميعُها، بالنّظر إليها وبالتّحْدِيق فيها.
تسعى الثقافة البصرية – بوسائل المقارنات العابرة للثقافات وللبرامج وللزمن – إلى خلق معرفة مُتحرِّرة من المنظور الكُولونيالي، وذلك في مُلتقى موسوم بالمفارقة بين الحرب والاقتصاد والدين والبيئة ووسائل الإعلام المُعولمة، يعني ذلك أن نمط المقارنة هذا ليس نظرةً مُتعالية صادرة من بُرجٍ عاجي، بل هِي نظرةٌ توجد في قلب الصّراع”، هكذا يحدد نيكولاس ميرزويف مهمة الدراسات الثقافية البصرية في عصرنا الحالي؛ فهي ليست لا تسلية ولا لهوا ولا إهدارا للوقت ولا نصبا واحتيالا، لكن اتساع دائرة استعمال أي اختراع نبيل – كما يخبرنا التاريخ الاجتماعي لحياة الناس والمجتمعات – قد يسِمُ بالابتذال أنبل الممارسات والاختراعات.
قال الروائي الإيطالي، الحائز على جائزة نوبل، أمبرتو إيكو، في أحد استجواباته الصحافية يوما، بأن دمقرطة وسائل الاتصال السمعية البصرية الجماهيرية، من خلال حوامل شخصية كالهواتف الذكية، منح الحق في التوجه للناس ومخاطبتهم لأي كان، ولمن هب ودب، إذا لم تكبح الأخلاق وحسن التربية جماحه.
هذا ما يسمى اليوم بصناعة الابتذال، التي تأسست مع الصراعات السياسية في اليونان القديمة، وهو من العوامل التي أدت إلى ازدهار السفسطائية السياسية الخطابية، كما نمت وانتشرت لاحقا مع ظهور هندسة “الكوليزيوم” لإلهاء العامة، التي تصوت بكثافة في الانتخابات في روما القيصر وصراعاته مع المنتخبين البرلمانيين.
إن الثقافة البصرية وأدوات إنتاجها، الفردية منها والجماعية، ينبغي لها أن تخضع، بالإضافة إلى القانون، إلى ميثاق أخلاقي، وحدها التربية المُعمَّمة تستطيع استيفاءه وجعله واقعا ملموسا. ولعل زمن كورونا يجعل الدول والمؤسسات والأفراد جميعا أكثر وعيا بذلك.